عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ»

فوائد الحديث

الفوائد العلمية

1. هذا الحديثُ أصلٌ عظيمٌ في البيوع؛ فالبيعُ والشراء من المعامَلات الأساسية التي يحتاجها الناس في دنياهم، ولا تستقيم حياتهم إلا بها.

2. حرصت الشريعة على حفظ أموال الناس، وعدم ضياعها، وتحريم كلِّ بيع من شأنِه أن يُحدِث ضررًا بالغًا بالبائع، أو المشتري. لذا؛ حرَّم الله تعالى كلَّ بيع فيه أكلٌ لأموال الناس بالباطل؛ 

قال تعالى:

 ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوٓا أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِٱلْبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍۢ مِّنكُمْ ۚ﴾

[النساء: 29].

الفوائد الفقهية

3. في الحديث نوعان من بين البيوع المحرَّمة التي فيها أكلٌ للأموال بالباطل، وهما: بيعُ الحَصَاة، وبيعُ الغَرَر؛ لما فيهما من المفاسد والأضرار؛ حيث إن الشرع ينهى عن البيوع التي اشتملت على غشٍّ، أو خداع، أو غرر.

4. الحكمة من تحريم هذه البيوع: تحصين الأموال من أن تضيع، وقطع الخصومة والنزاع بين الناس، وحفظ المودَّة والأخوَّة بين المسلمين.

5. الأصلُ في البَيع الإباحة، إلا ما وَرَد فيه دليلٌ على الحُرمة؛

قال تعالى:

﴿وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا ۚ﴾

 [البقرة: 275].

6. بيع الحصاة والغرر من بيوع أهل الجاهلية، كان متداوَلاً بينهم، وجاء الإسلام فحرَّمه؛ نظرًا لخَطَره، وجَهَالته، ويَدخُل فيه مسائلُ كثيرةٌ، غير مُنحصِرة.

7. بيع الحصاة يُفسَّر على وجهين؛ أحدهما: أن يرميَ بالحصاة ويَجعَل رميَها إفادةً للعَقْدِ، فإذا سقطت، وَجَب البيع، ثم لا يكون للمشتري فيه الخيار. والوجه الآخَرُ: أن يعترض الرجل القطيعَ من الغَنَم فيرميَ فيها بحَصَاة، فأيَّةُ شاة منها أصابتها الحصاة، فقد استحقَّها بالبيع، وهذا من جُملة الغَرَر المنهيِّ عنه [1].

8. من صور بيع الحصاة: أن يقول: بعتُكَ من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاة الّتي أَرْمِيها، أو بعتُك من هذه الأرض من هنا إلى ما انتهت إليه هذه الحصاة.

9. من صور بيع الحصاة: أن يعترض القطيعَ من الغنم، فيأخذ حصاةً ويقول: أيُّ شاة أصابتْها فهي لك بكذا، والخَلَلُ فيه جَهَالةُ المعقود عليه.

10. من صور بيع الحصاة: أن يقول البائع للمشتري في العقد: إذا رَميتُ إليك الحصاة فقد وجب البيع، والخَلَلُ فيه إثباتُ الخيار وشرطه إلى أمدٍ مجهول.

11. من صور بيع الحصاة: أن يقول: بعتُك على أنّك بالخيار إلى أن أرميَ بهذه الحصاة.

12. من صور بيع الحصاة: أن يجعلا نفس الرَّمْيِ بالحصاة بَيعًا، فيقول: إذا رميتُ هذا الثّوب بالحصاة، فهو مبيع منك بكذا.

13. من صور بيع الحصاة: أن يَقبِض على كفٍّ من حصا ويقول: لي بعدد ما خرج في القبضة من الشّيء الْمَبيع، أو يبيعه سلعةً ويقبض على كفٍّ من حصا ويقول: لي بكلِّ حصاةٍ درهم.

14. كلُّ صور بيع الحصاة متضمِّنةٌ للغَرَر؛ لِما في الثّمن أو الْمَبيع من الجهالة، ولفظُ الغرر يَشمَلها؛ وإنّما أُفرِدت لكونها كانت ممّا يبتاعها أهل الجاهليّة، فنهى ﷺ عنها [2].

15. الغرر ما خَفِي عليك أمرُه، وهو ما كان له ظاهر يَغُرُّ المشتريَ، وباطنٌ مجهول، فهو بيعٌ مجهول العاقبة، وهو سببٌ للعداوة والبغضاء؛ لِما فيه من الظُّلم والخِداع؛ فبيع الغرر كلُّ بيع كان المعقودُ عليه فيه مجهولًا أو معجوزًا عنه، ومن ذلك بيعُ ما لم تَرَه، وبيع تراب الْمَعدِن، وتراب الصاغة؛ لأن المقصود بالعقد ما فيه من النقد، وهو مجهول [3].

16. من صور بيع الغرر: بيع العبد الآبِق (الهارب)، والشيء المعدوم، والشيء المجهول، وما لا يُقْدَر على تسليمه، وما لم يتمَّ مِلْكُ البائع عليه، وبيع السَّمك في الماء الكثير، واللَّبن في الضَّرْعِ، وبيع الحَمْلِ في البطن، وبيع ثوب غير محدَّد من أثواب، وشاةٍ غير محدَّدة من شياهٍ، ونظائرِ ذلك، وكلُّ هذا بيعُه باطل؛ لأنه غَرَر من غير حاجة.

17. من صور بيع الغرر: بيع لؤلؤة في البحر، وبيع جَمَل شارد، وثوبٍ في جراب لم يَرَهُ ولم يَنشُره، وطعام في بيت لم يَفتَحه، وبيع وَلَدِ بهيمةٍ لم تَلِد، وبيع ثمر شجرةٍ لم تُثمر، وفي نحوها من الأمور التي لا تُعلَم، ولا يُدرى هل تكون أو لا؟ فإن البيع فيها مفسوخ.

18. إذا دعت حاجة إلى ارتكاب الغَرَر، وكان لا يمكِن الاحتراز عنه إلا بمشقَّة، وكان الغرر حقيرًا، جاز البيع، وإلا فلا [4].

19. يُحتَمَل بعضُ الغرر بَيعًا، إذا دعت إليه حاجة؛ كالجهل بأساس الدار، وكما إذا باع الشاةَ الحامل، والتي في ضَرعها لبنٌ، فإنه يصحُّ البيع؛ لأن الأساس تابع للظاهر من الدار، ولأن الحاجة تدعو إليه؛ فإنه لا يمكِن رؤيته، وكذا القولُ في حَمْلِ الشاة ولَبنها.

20. يُستثنى من بيع الغرر أمران، لا يَحرُمان؛ أحدهما: ما يدخل في البيع تبعًا، بحيث لو أفرده لم يصِحَّ بيعُه، والثاني: ما يُتسامح بمثلِه: إما لحقارته أو للمشقَّة في تمييزه وتعيينه؛ كبيع أساس المباني والقُطن المحشوِّ في الأرائك مثلاً.

21. أَجمَع المسلمون على جواز أشياءَ فيها غَرَرٌ حَقير، منها: أنهم أجمعوا على صحَّة بيع الْجُبَّة المحشوَّة، وإن لم يُرَ حَشْوُها، ولو بِيعَ حشوُها بانفراده لم يَجُزْ [5].

22. أجمعوا على جواز إجارة الدار، والدابَّة، والثوب، ونحوِ ذلك، شهرًا، مع أن الشهر، قد يكون ثلاثين يومًا، وقد يكون تسعةً وعشرين [6].

23. أجمعوا على جواز دخول الحمَّام بالأُجرة، مع اختلاف الناس في استعمالهم الماءَ، وفي قَدْرِ مُكْثِهم [7].

24. أجمعوا على جواز الشُّرب من السِّقاء بالعِوَض، مع جَهَالة قدر المشروب، واختلاف عادة الشاربين [8].

25. أجمعوا على بُطلان بيع الأَجِنَّة في البُطون، والطير في الهواء؛ وقال العلماء: مَدَارُ البُطلانِ؛ بسبب الغَرَر الظاهر [9].

26. ما وقع في بعض المسائل من اختلاف العلماء في صحَّة البيع فيها، وفساده؛ كبيع العَين الغائبة، مبنيٌّ على اعتبار الغرر، فبعضُهم يَرَى أن الغرر حقيرٌ، فيجعله كالمعدوم، فيصحُّ البيع، وبعضُهم يراه ليس بحقير، فيُبطِل البيع [10].

المراجع

1. "معالم السنن" للخطابيِّ (3/ 88).

2.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 18).

3.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (7/ 2147).

4. "شرح النوويِّ على مسلم" (10/ 156).

5. "شرح النوويِّ على مسلم" (10/ 156).

6. "شرح النوويِّ على مسلم" (10/ 156).

7.  "شرح النوويِّ على مسلم" (10/ 156).

8. "شرح النوويِّ على مسلم" (10/ 156).

9. "شرح النوويِّ على مسلم" (10/ 156).

10. "شرح النوويِّ على مسلم" (10/ 157).


الفوائد اللغوية

27. بيع الغرر: من إضافة المصدر (بيع) إلى مفعوله (الغرر: هو الْمَبِيع نفسه)، وهو فَعَلٌ (غَرَر) بمعنى مفعول (أي: مَغْرُور به)؛ كالقبض والسلب؛ بمعنى: المقبوض والمسلوب، ومعناه الخِداع، الذي هو مَظِنَّةُ أن لا رضا به عند تَحَقُّقِه، فيكون من أَكْلِ المال بالباطل.

28. أصل الغرر هو ما طُوِيَ عنك علمه، وخَفِيَ عليك باطنه وسِرُّه، وهو مأخوذ من قولك: طويتُ الثَّوْبَ على غَرِّه؛ أي: على كسره الأوّل (الغُرُور: مكاسِر الجِلد)، وكلُّ بيع كان المقصود منه مجهولًا غيرَ معلوم، ومعجوزًا عنه غيرَ مقدور عليه، فهو غَرَر [1].

المراجع

    1.  "معالم السنن" للخطابيِّ (3/ 88).




    مشاريع الأحاديث الكلية