الفوائد العلمية
في الحديث إشارة إلى اهتمام النبيِّ ﷺ ببناء المجتمع المسلم السويِّ، الذي تتكوَّن لَبِناته من نفوس نَقيَّة سَويَّة، تُعامل ربَّها وتُراقبه وتتَّقِيه بالحرص على الكسب الحلال، ويتعامل أفراد المجتمع بالنقاء والنصيحة وعدم الغشِّ والخداع.
«مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي»: قاعدة عامة أن من غشَّ فليس على سنَّة النبيِّ ﷺ ولا يتَّبِع طريقه؛ بل هو آثم مرتكب لإثم كبير، وهو غشُّ المسلمين وخداعهم، وأكل أموالهم بالباطل.
في الحديث بيان أن من يَعرِض بضاعته عرضًا جذَّابًا مُغْريًا، يُظهِر منها الحَسَن، ويُخفي منها القبيح؛ كي يَخدَع الناس ويَغُشَّهم، أو يَخلِط الطيِّب من السلع بالرديء، أو نحو ذلك، أن ذلك غشٌّ وخداعٌ وتغرير للمشتري يُخرج التاجر عن سبيل المؤمنين، ويرتكب كبيرة، يَحِلُّ عليه بسببها غضب الله.
في الحديث بيان أن الغشَّ ظُلم للمشتري، وأكل لماله بالباطل، يُحزِنه ويُوغِر صدره، وقد حرَّم الإسلام كل صور الظلم والغشِّ وخيانة الأمانة.
كُلُّ ذَنْبٍ تُوُعِّدَ صاحِبُه بأنه لا يَدخُل الْجَنَّةَ، ولا يَشُمُّ رائحةَ الجنة، وقيل فيه: مَن فَعَلَه فليس منَّا، وأن صاحِبَه آثِمٌ، فهذه كُلُّها من الكبائر [1].
قال رسولُ الله ﷺ:
«أيُّها الناسُ، إن اللهَ طيِّبٌ لا يَقبَل إلا طَيِّبًا، وإن اللهَ أمَر المؤمنين بما أمر به المرسَلين، فقال:
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعْمَلُوا صَٰلِحًا ۖ إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾
[المؤمنون: 51]،
وقال:
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٰكُمْ﴾
[البقرة: 172]،
ثم ذكَر الرجُل يُطِيل السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السماء: يا ربِّ، يا ربِّ، ومطعمُه حرامٌ، ومشرَبُه حرامٌ، ومَلبسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟!»
من أعظم الغشِّ: الغشُّ في الدين وكتمان الحقِّ؛ كما أخبر الله تعالى عن أحبار بني إسرائيل، الذين كتموا الحقَّ، وأظهروا للناس الباطل، يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً، ويبتغون بذلك عرَضًا من الدنيا، فضلُّوا وأضلُّوا عن سواء السبيل.
إن كثرة تسلُّطِ الكفَّار على المسلمين بالأسر والنهب، وأخذ الأموال والحريم، إنما حَدَث في هذه الأزمنة المتأخِّرة لَمَّا أن أَحدَث التجَّار وغيرهم قبائح ذلك الغشِّ الكثيرة والمتنوِّعة، وعظائم تلك الجنايات والمخادعات والتحايلات الباطلة على أخذ أموال الناس بأيِّ طريق قَدَروا عليها، لا يراقبون الله المطَّلِع عليهم [3].
1. "مجموع الفتاوى" (11/ 652).
2. رواه مسلم (1015).
3. "الزواجر عن اقتراف الكبائر" لابن حجر الهيتميِّ (1/400).
الفوائد العقدية
9. قوله ﷺ: «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي»: لا يدلُّ على خروج الغاشِّ من الإسلام؛ بل هو مرتكب لكبيرة، ولا يخرج من الإسلام إلا أن يستحلَّ الغشَّ، والأَوْلى عند ذكر هذه الأحاديث إطلاقها، وعدم الخَوض في معناها؛ لتكون أزجرَ في قلوب الناس، وأشدَّ رَدْعًا لهم.
10. «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي»: لم يُرِدْ به نفيَه عن الإسلام؛ بل نفيَ خُلُقه عن أخلاق المسلمين؛ أي: ليس هو على سُنَّتِنا أو طريقتنا في مناصحة الإخوان، كما يقول الإنسان لصاحبه: أنا منك. يُريد الموافقة والمتابعة.
﴿فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُۥ مِنِّى ۖ ﴾
11. هذا الحديث ونحوه ظاهرُها براءة الإسلام من فاعلها؛ إلَّا أن فاعلها لا يَخرُج من دائرة الإسلام إلا باستحلال هذه الذنوب والكبائر.
1. "فيض القدير" للمناويِّ (6/ 185).
الفوائد الفقهية
12. قوله ﷺ: «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي»: عامٌّ في كل غشٍّ، لا الغشُّ في البيوع وغيرها من المعاملات فقط؛ بل يشمل الغشَّ في النُّصح للمؤمنين أيضًا.
13. المراد بالغشِّ في الحديث: كَتْمُ عَيب الْمَبيع أو الثَّمن، والمراد بعَيبه هنا: كلُّ وَصْفٍ يُعلَم مِن حال آخِذه أنه لو اطَّلَع عليه لم يَأْخُذْه بذلك الثَّمَن، الذي يُريد بَذْلَه فيه [1].
14. في الحديث إِيذَانٌ بأن للْمُحتَسب أن يمتحن بضائعَ السُّوقة؛ لِيَعْرِفَ الْمُشتمِلَ منها على الغِشِّ من غيره [2]
15. في الحديث إشارة إلى أن من في بضاعته شيء رديء، يجب عليه أن يظهره فوق الجيِّد؛ حتى يراه الناس؛ لئلا يكون غاشًّا، وله أن يبيع كلَّ نوع منفصلًا عن الآخر.
16. في الحديث دليل على تحريم الغشِّ، وأنه من كبائر الذنوب، ويُخرج فاعله عن طريق النبيِّ، وعن جماعة المؤمنين؛
«مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي».
17. من أنواع الغشِّ: الغشُّ للرَّعيَّة؛
«مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»
1. "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (8/ 422، 423).
2. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (5/ 1935).
3. رواه البخاريُّ (7150)، ومسلم (227).
الفوائد التربوية
18. ربَّى النبيُّ ﷺ الأمة على المعاملة النقيَّة بالحسنى، والرضا بالكسب الحلال الطيِّب مهما قلَّ، وتجنُّب ما يصيب المجتمع المسلم، ومن ثَمَّ الأمَّة، من عَنَت ومشقَّة؛ بسبب الجشع والغشِّ والخداع، وصدق الله القائل:
﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ
عَلَيْكُم بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾
19. على الولاة أن يتأسَّوْا بحرص النبيِّ ﷺ ورعايته لأمَّته، فكان يباشر أمورهم، ويحتسب عليهم، ويتعاهدهم بالموعظة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يَصدُر من بعض ضعيفي الإيمان، وذَوي النفوس الضعيفة.
الفوائد اللغوية
21. «مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ» بضمِّ الصاد الْمُهمَلة، وسكون الْمُوحَّدة جمع (صُبَر)؛ كغُرْفَة وغُرَف: ما جُمِعَ من الطعام بلا كَيْلٍ ووَزْنٍ، واشتريتُ الشيءَ صُبرةً؛ أي: بلا كَيل ولا وزن.
22. «مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ» المراد بالطعام: جِنْسُ الحُبوب المأكول، وإذا أَطلَق أهلُ الحجاز لفظ الطَّعام، عَنَوْا به البُرَّ خاصَّةً. وفي العُرف اسمٌ لِمَا يؤكَل [1].
23. «قال: أصابته السماء»؛ أي: المطر؛ لأنه ينزل منها، فهو من مجاز التعبير بالمحلِّ عن الحالِّ فيه.
1. "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (8/ 422).