في الحديث بيان عِظَم شأن الرؤيا الصالحة؛ فهي جزء من النبوَّة، وإنها لا تكاد تَكذِب في آخر الزمان إذا رآها المؤمنُ الصَّدُوق.
الرؤيا الصالحة هي عاجلُ بُشرى المؤمن في الدنيا؛
فعن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قال:
سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنْ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس: ٦٤] ، فَقَالَ: «هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَه»
[1]
بعد انقطاع الوحيِ، لم يَبْقَ من مبشِّرات النُّبوَّة إلَّا الرؤيا الصالحة؛
فعَن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَال:
كَشَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ»
[2]
"قولُه ﷺ: «وأصدقُكم رؤيا أصدقُكم حديثًا»: ظاهره أنّه على إطلاقه، وقال بعض العلماءِ: إنّ هذا يكون في آخِر الزمان عند انقطاع العلم، ومَوت العلماء والصالحين، ومن يُستضاء بقوله وعَمَله، فجعله اللّه تعالى جابرًا وعِوَضًا ومنبِّهًا لهم، والأوَّلُ أظهر؛ لأن غيرَ الصادق في حديثه يتطرَّق الخَلَل إلى رؤياه وحكايته إيَّاها[3]
"قوله: «أصدقُكم رؤيا أصدقكم حديثًا»: إنما كان ذلك لأن من كَثُر صِدقُه تَنوَّر قلبُه، وتَقَوَّى إدراكُه، فانتقشت فيه المعاني على وجه الصِّحَّة والاستقامة، وأيضًا فإن من كان غالبُ حالِه الصِّدقَ في يقظته، استَصحَب ذلك في نومه، فلا يَرى إلَّا صدقًا[4].
الكاذبُ والْمُخلِّط، يَفسَدُ قلبه، ويُظلِم، فلا يَرى إلا تخليطًا وأضغاثًا، وربَّما يرى الصادقُ ما لا يصحُّ، ويرى الكاذب ما يصِحُّ؛ لكن ذلك قليل[5].
إنَّ الكافر، والكاذبَ، والمخلِّطَ، وإن صَدَقت رؤاهم في بعض الأوقات، لا تكون من الوحيِ، ولا من النبيِّ ﷺ؛ إذ ليس كلُّ من صَدَق في حديث عن غَيْبٍ، يكون خبرُه ذلك نبوَّةً؛ فالكاهنُ يُخبِر بكلمة الحقِّ، وكذلك المنجِّم قد يَحْدِس فيَصدُق؛ لكن على النُّدُور والقِلَّة، وكذلك الكافرُ، والفاسق، والكاذب، وقد يرى الْمَنام الحقَّ، ويكون ذلك الْمَنامُ سببًا في شرٍّ يَلحَقُه، أو أمرٍ يَنالُه... إلى غير ذلك من الوجوه المعتبَرة المقصودة به[6]
إن الرؤيا لا تكون من أجزاء النبوَّة إلَّا إذا وقعت من مسلم صادق صالح، وهو الذي يُناسِب حالُه حالَ النبيِّ ﷺ، فكُرِّم بنوع ممَّا أُكرِم به الأنبياء عليهم السلام، وهو الاطِّلاع على شيء من علم الغيب؛ كما قال ﷺ: «إنه لم يبقَ من مبشِّرات النبوَّة إلا الرؤيا الصادقة في النَّوْمِ، يراها الرجلُ الصالح، أو تُرى له»[7]
وقعت لبعض الكفَّار مناماتٌ صحيحة صادقة؛ كمَنام الْمَلِك الذي رأى سَبْعَ بَقَرات، ومَنامِ الفتَيَيْنِ في السِّجن، ومَنام عاتكةَ عمَّة رسول الله ﷺ وهي كافرة، ونحوُه كثير؛ لكن ذلك قليل بالنسبة إلى مناماتهم المخلِّطة والفاسدة[8]
فسَّر بعض العلماء معنى عدد الأجزاء بأن النبيَّ ﷺ أقام يوحَى إليه ثلاثةً وعشرين عامًا: عشَرةً بالمدينة، وثلاثةَ عَشَرَ بمكَّةَ، وكان قبل ذلك بستَّة أشهر يَرى في الَمنَامِ ما يُلقيه إليه الْمَلَك عَلَيهِما السلام، وذلك نصفُ سَنة، ونصف سَنَةٍ من ثلاث وعشرين سنةً جزءٌ من ستَّة وأربعين جزءًا من النّبوَّة.
لا يَلزَم العلماءَ أن يعرِفوا كلَّ شيء جُملةً وتفصيلاً، وقد جعل الله سبحانه للعلماء حَدًّا يقِفون عنده، فمنها ما لا يعْلَمُونه أصلاً، ومنها ما يعلَمونه جُملةً ولا تفصيلاً، ومعنى عدد الأجزاء من النبوَّة منه، ومنها ما يعْلَمُونه جُملةً وتفصيلاً، لا سِيَّما ما طريقتُه السَّمْعُ، ولا مدخَلَ للعقل فيه؛ فإنّما يُعرَف منه قَدْرُ ما عُرِف به السَّمع[9]
قيل للإمام مالك: أيفسِّر الرؤيا كلُّ أَحَدٍ؟ فقال: أيُلعَب بالوحي؟!
يتَعيَّن على الرائي أن يعتنيَ برؤياه، ويسعى في تفهُّمها، ومعرفة تأويلها؛ فإنَّها إمَّا مبشِّرةٌ له بخير، أو محذِّرة له من شرٍّ، فإنْ أَدرَك تأويلها بنفسه، وإلَّا سأل عنها من له أهليَّةُ ذلك، وهو اللبيبُ الحبيب[10].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ يَقُولُ:
«هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟»، وَيَقُولُ «إِنَّهُ لَيْسَ يَبْقَى بَعْدِي مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ»
[11]
كان النبيُّ ﷺ يقتبس الأحكام من مَنامات أصحابه؛ كما فَعَل في رؤيا الأذان، وفي رؤيا ليلة القدر، وكلُّ ذلك بناءً على أنها وحيٌ صحيح[12].
الرؤيا تقع حقًّا، وما فيها هو خَبَرٌ بالغَيب، والخبرُ بالغَيب أحدُ ثمرات النبوَّة؛ غير أنه ربما دلَّت الرؤيا على شيء، ولم يَقَع ما دلَّت عليه؛ إمّا لِكَوْنهَا مِن الشّيطان، أو من حَدِيثِ نَفْسٍ، أو من غَلَطِ العَابِر في أصل العبارة، إلى غير ذلك من الضُّروب الكثيرة التي توجب عدم الثقة بدلالة الْمَنام أو الاعتماد عليه.
الرؤيا الصحيحة إنذارٌ من الله، وعناية بعبده؛ لئلَّا يَفجَؤه ما قدِّر عليه بغتةً، وليكون فيه على حَذَرٍ وأُهْبَة، كما أن الرؤيا الصالحة والحسنة من الصالحين، هذا أيضًا على الغالب، وقد يكون في رؤياهم أضغاث؛ ولكن على سبيل النُّدور بضدِّ الأولى لعوارضَ تقتضى ذلك - واللهُ أعلم - من وسوسة النفس وحديثها، أو غلبة خلط عليه، أو فساد ذكرها أحيانًا وتخييلها وفكرها[13]
يَحتمِل قوله: (الصالحة) أن يكون معنى الصالحة حُسْنَ ظاهرها، ويَحتمِل أن المراد صحَّتها؛ كما أن قوله في الأخرى: (السوء) يَحتمِل الوجهين: سوء الظاهر، أو سوء التأويل[14]
في أمره ﷺ بنَفثِه وبَصقِه ثلاثًا: طردٌ للشيطان الذي حَضَر رؤياه المكروهة، واستقذاره لها، كما يَبصُق على ما يَستقذِر ويَكرَه، كما أَمَر بذلك عند التثاؤب[15]
قولُه ﷺ: "فليَبصُق، وليتفل، ولينفث" على اختلاف الأحاديث، كلُّه بمعنًى، وكَوْنُ ذلك في يساره؛ لأن اليسار أبدًا جِهَةُ الشيطان، وجهة الْمَذامِّ والأقذار، والجهة المشؤومة، بضدِّ اليَمين، والعربُ تسمِّيها الشُّؤْم[16].
أمرُه ﷺ بتحويله عن جَنْبِه: تفاؤلاً بتحويل حالها، وظاهر مكروه تأويلها، وأنها لا تضرُّه، وهذا يصحِّح أحد التأويلين في قوله: «لا تضرُّه» أنه عائد إلى صرف سوء تأويلها، ودَفْع اللهِ بما فعل عنه مكروهها[17]
قيل في كتمان الرؤيا السيِّئة: إن ذلك مخافةُ تعجيل اشتغال السوء بمكروه تفسيرها، إن وافَقَ ظاهرُها باطنَها، والتعذيب به مدَّةً لا يُدرى قُرْبُها من بُعْدِها، فقد تَخرُج الرؤيا بعد طول السنين، وإذا لم يُخبِر بها، وفَعَل ما أُمِر به من النَّفث والاستعاذة، كان دواءَ مكروهها، وخروجُها عن ذلك على أحد التأولين، وعلى التأويل الآخر: أن ذلك إنما يُريك رَوعتها، وتَحَزُّنه بها. وإذا لم يَذكُرْها لأحدٍ، ولم يُفصَّل له تفسيرها، بَقِيَ بين الطمع والرجاء من أنه أهل لها تفسيرًا حسنًا، أو أنها من أضغاث الأحلام، أو حديث النفس، فكان أسكنَ لنفسه، وأقلَّ لتعذيب قلبه[18]
عن أبي قتادة قال: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَالْحُلُمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُمًا يَخَافُهُ، فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا، فَإِنَّهَا لا تَضُرُّهُ»
[19]
عَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ:
«إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يَكْرَهُهَا، فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ثَلَاثًا، وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ»
[20]
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:
«إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يُحِبُّهَا، فَإِنَّهَا مِنَ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهَا، وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ، فَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا، وَلا يَذْكُرْهَا لِأَحَدٍ؛ فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ»[21]
[21]
26.عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
أَنَّهُ قَالَ لأَعْرَابِيٍّ جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي حَلَمْتُ أَنَّ رَأْسِي قُطِعَ فَأَنَا أَتَّبِعُهُ، فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ وَقَالَ: «لا تُخْبِرْ بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِكَ فِي الْمَنَامِ»
[22]
27. من أهمِّ الآداب لِمَن رأى ما يَكرَه في منامه، التي إن التزم الْمَرْءُ بها يُرجى له أن لا تَضُرَّه هذه الرؤيا المكروهة كما ورد في الأحاديث: أن يَعلَم أن هذا الحُلم من الشيطان يُريد إحزانه، وأن يصيبه بالهمِّ والغمِّ، فليُرغِمِ الشيطان، ولا يلتفت إليه، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويستعيذ بالله من شرِّ هذه الرؤيا، ويَتفُل عن يساره ثلاثًا، ولا يحدِّث بها أحدًا، ويتحوَّل عن جنبه الذي كان عليه، ويقوِّم ليُصلِّيَ.
المراجع
- رواه أحمد (23063)، وابن ماجه (3898)، والترمذيُّ (2273)، وقال الترمذيُّ: هذا حديث حسن، قال شُعيب الأرنؤوط: صحيحٌ لغَيره، وهذا إسنادٌ رجالُه ثِقاتٌ رجالُ الشَّيخين.
- رواه مسلم (479).
- شرح النوويِّ على مسلم" (15/ 20، 21).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (18/ 117).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (18/ 117).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (18/ 119).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (18/ 119).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (18/ 119).
- "المعلم بفوائد مسلم" للمازريِّ (3/ 203، 204).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (18/ 120).
- رواه أحمد (8296)، وأبو داود (5017)، والترمذيُّ (2294)، وقال الترمذيُّ: هذا حديث حسن صحيح.
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (18/ 120).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 207، 208)
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 207، 208)
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 207، 208)
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 207، 208).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 207، 208).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 207، 208).
- رواه البخاريُّ (3292)
- رواه مسلم (2262).
- ) رواه البخاريُّ (7045).
- رواه مسلم (2268).
في الحديث حرص الصحابة على أن يسألوا فيما ينفَعُهم في دينهم، لا سيَّما الأمورُ التي تتعلَّق بالفتن والابتلاءات؛ لكي يُسارعوا إلى النجاة منها.
في الحديث بيان أن الصلاة والصدقة والأعمال الصالحة تُكفِّر صغائرَ السيِّئات، وكما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:
«الصلواتُ الخمسُ، والجمُعةُ إلى الجمُعةِ، ورمضانُ إلى رمضانَ، مُكفِّراتٌ ما بينَهن إذا اجتنبَ الكبائر»
[1].
كان الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مأمنًا من الفتن، ومِفتاحًا لعزِّ الإسلام مدَّةَ خلافته؛ ففي الحديث أنّ الحائل بين الفِتَن والإسلام عمرُ - رضي اللّه عنه - وهو الباب، فما دام حيًّا لا تَدخُل الفِتن، فإذا مات، دخلت الفتن [2].
قوله: «إلا ما أُشرب من هواه» يعني: لا يعرف القلب إلا ما قَبِل من الاعتقادات الفاسدة والشهوات النفسانية[3]. فهذا القلب إذا عُرضت عليه فتنة أُشربها، كما يَشرَب السفنج الماء، فتُنكت فيه نكتة سوداءُ، فلا يزال يشرب كلَّ فتنة تُعرض عليه حتى يَسْوَدَّ وينتكس، فيصير كالكوز مُجَخِّيًا؛ أي: مكبوبًا منكوسًا.
إذا اسودَّ القلب وانتكس، عَرَض له من هاتين الآفتين مَرَضان خَطِران متراميان به إلى الهلاك؛ أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكَر، فلا يعرف معروفًا، ولا يُنكِر منكرًا، وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروفَ منكرًا، والمنكَرَ معروفًا، والسنَّةَ بدعة، والبدعةَ سنَّة، والحقَّ باطلاً، والباطلَ حقًّا، الثاني: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول ﷺ، وانقياده للهوى، واتِّباعه له[4]
الفتن التي تُعرَض على القلوب هي أسباب مَرِضها، وهي فتن الشهوات وفتن الشُّبهات، فتن الغيِّ والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظُّلم والجهل، فالأولى توجب فساد القصد والإرادة، والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد[5]
في الحديث علامةٌ من علامات النبوَّة، فإن الفتن ظهرت بعد موت عمرَ رضي الله عنه كالفتنة التي قُتل فيها عثمانُ بنُ عفَّانَ رضي الله عنه، ثم ظهور الخوارج، والقتال بين عليٍّ ومخالفيه.
المراجع
- رواه مسلم (233).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 174، 175)
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (11/ 3402).
- "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 12)
- "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 12)
1. هذا الحديثُ أصلٌ في تحريم كلِّ مسكِر.
2. أحلَّ الله تعالى للخلقِ الطيِّباتِ، وهى أغلبُ ما خَلَق الله في الأرض لنا، وحرَّم عليهم الخبائث؛
قال تعالى:
﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰٓئِثَ﴾
[الأعراف: 157]
3. من الخبائثِ المحرَّمة ما يُفسِد العقولَ من الأشربة، فصان الشرع بتحريمها العقولَ عما يُزيلها ويُفسدها، فحرَّم الله تعالى الخمرَ، بيعَها وشُربها؛
قال تعالى:
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلْأَنصَابُ وَٱلْأَزْلَٰمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
[المائدة: 90]
4.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه ، قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَخْطُبُ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُعَرِّضُ بِالْخَمْرِ، وَلَعَلَّ اللهَ سَيُنْزِلُ فِيهَا أَمْرًا، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَبِعْهُ وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ»، قَالَ: فَمَا لَبِثْنَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى قَالَ ﷺ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ، فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلَا يَشْرَبْ، وَلَا يَبِعْ»، قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ فَسَفَكُوهَا
[1].
5. في الحديث بيان أن كلَّ ما يُصنَع للشُّرب وهو مُسكِر، فهو حرامٌ شربُه، قليلُه وكثيره، ويحرم بيعه واستعماله وتعاطيه، مهما كان نوعه، وبأيِّ اسم كان.
6. لَمَّا سُئل ابن عباس عن الباذَق - وهو نوع من الشراب - قال: سَبَقَ مُحَمَّدٌ رضي الله عنه البَاذَقَ: «فَمَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» قَالَ: الشَّرَابُ الحَلاَلُ الطَّيِّبُ، قَالَ: «لَيْسَ بَعْدَ الحَلاَلِ الطَّيِّبِ إِلَّا الحَرَامُ الخَبِيثُ» [2].
7. كَانَ أَوَّلُ مَا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ عِنْدَ حُضُورِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَمَّا صَلَّى بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ، وَقَرَأَ فِي صَلَاتِهِ، فَخَلَطَ فِي قِرَاءَتِهِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقْرَبُوا ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾
[النساء: 43]
وَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يُنَادِي: (لَا يَقْرَبُ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ)، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلْأَنصَابُ وَٱلْأَزْلَٰمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٩٠﴾ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَٰوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِى ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾
[المائدة: 90، 91] [3].
8.
ذَكَرَ سُبْحَانَهُ في قوله:
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَٰوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِى ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ﴾
[المائدة: 91]
علَّة تحريم الخمر والميسر، وهو أنّ الشّيطان يوقِع بينهم العداوة والبغضاء، فإنّ من سَكِر اختلَّ عقله، فربّما تسلَّط على أذى النّاس في أنفسهم وأموالهم، وربّما بَلَغ إلى القتل [4].
9. الخمر أمُّ الخبائث، فمن شَرِبها قتل النّفس وزنا، وربّما كَفَر.
10. قال طائفة من السّلف: إنّ شارب الخمر تمرُّ عليه ساعةٌ لا يعرف فيها ربَّه، واللّه سبحانه إنّما خلق الخلق ليعرفوه، ويذكروه، ويعبدوه، ويطيعوه، فما أدَّى إلى الامتناع من ذلك، وحال بين العبد وبين معرفة ربِّه وذكره ومناجاته، كان محرَّمًا، وهو السُّكر، وهذا بخلاف النَّوم، فإنّ اللّه تعالى جبل العباد عليه، واضطرَّهم إليه، ولا قِوَام لأبدانهم إلّا به؛ إذ هو راحة لهم من السّعي والنَّصَب [5].
11. من مقاصد الشريعة الضرورية حفظُ العَقل.
12. في الحديث دلالةٌ على كمال الشريعة، واشتمالها على قواعدَ كليَّةٍ عامَّة، كما جاء في هذا الحديث.
13. إن الأسماء لا تغيِّر الحقائق؛ فمها تغيَّرت أسماء المحرَّمات، لا يَزُلْ عنها التحريم.
المراجع
1. رواه مسلم (1587).
2. رواه البخاريُّ (5598).
3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 456، 457).
4. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 457).
5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 457).
هذا الحديث أصل جامع لأصول الطبِّ كلِّها، يَحفَظ على الإنسان حياته وصحَّته، وهو التقليل من الأكل، وعدم المبالغة في الطعام الذي يُوصِل الإنسان إلى الشِّبَع المفرِط، فيُقعِده عن العبادات والطاعات، وتَأْدِيَة ما أوجبه الله عليه في دينه، ويُصيبه بالكسل والتُّخَمَة، والأمراض المهلِكة، عاجلاً أو آجلاً.
رُوي أن ابن ماسوَيْهِ الطبيبَ لَمَّا قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة، قال: لو استَعمَل الناس هذه الكلمات، سَلِموا من الأمراض والأسقام، ولتعطَّلت المارستانات ودكاكين الصيادلة، وإنما قال هذا؛ لأن أصل كل داء التُّخَم [1].
في الحديث إشارة إلى أَمْرِ الله تعالى الإنسانَ بالاقتصاد والاعتدال في أموره وحياته؛
قال تعالى:
﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ﴾
[الملك: 14]،
وقد نهى النبيُّ ﷺ عن الإسراف؛
فعن عبد الله بنِ عمرِو بنِ العاصِ - رضي الله عنهما – قال:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ، وَلَا مَخِيلَةٍ»
[2].
إذا كان الطبُّ الدنيويُّ يعالج الأمراض بعد وقوعها، فإن الطبَّ النبويَّ، والوحيَ الإلهيَّ، يعلِّمنا كيف نَقِي أنفسنا، ونحافظ عليها من الأمراض، وذلك من خلال الاعتدال في الطعام والشراب.
قال لقمان الحكيم لابنه: "يا بُنيَّ، إذا امتلأت الْمَعِدة، نامت الفكرة، وخَرَست الحكمة، وقَعَدت الأعضاء عن العبادة" [3].
في الحديث التحذير من خطورة امتلاء الْمَعِدة بالطعام، حيث جعل النبيُّ ﷺ البطن أوَّلاً وِعاءً كالأوعية التي تُتَّخَذ ظروفًا لحوائج البيت؛ تَوْهينًا لشأنه، ثم جَعَله شرَّ الأوعية؛ لأنها استُعمِلت فيما هي له، والبَطن خُلِق لأن يتقوَّم به الصُّلْبُ بالطعام، وامتلاؤه يُفضي إلى الفساد في الدين والدنيا، فيكون شرًّا منها [4].
في الحديث إشارة إلى أن البطن إذا امتلأ، أفضى إلى فساد دِين الْمَرء ودُنياه، وأوقعه في المعاصي والشهوات، فشهوةُ البطن من أعظم المهلِكات، وهي التي أخرجت آدمَ عليه السلام وحوَّاء من الجَّنة؛ إذ نُهيا عن الأكل من الشجرة، فوسوس إليهما الشيطان، وغلبت عليهما شَهوتهما حتى أكلا منها؛
قال تعالى:
﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَٰنُ قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍۢ لَّا يَبْلَىٰ ﴿١٢٠﴾ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ﴾
[طه: 120- 121].
في الحديث بيان وإرشاد وتوجيه إلى الطريقة الصحيحة لِمَلْء البطن، بأنه يكفي الْمَرْء من ذلك ما يقوِّي به ظَهره ويُقيم صُلْبَه، فيكفي المرءَ أُكُلات صغيرة يَسُدُّ بها رَمَقه وجُوعه، ويَحفَظ بها نفسه وجَسَده أن يَضعُف أو يَسقُط، ويتقوَّى بها على العبادات والطاعات المختلفة.
قال تعالى في حقِّ الكفَّار:
﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ ٱلْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾
[الحجر: 3].
عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:
«الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ»
[5].
في الحديث بيان أنه يجب تحقيق التوازن بين الطعام والشراب والنَّفَس؛ فإن الإنسان إذا كان لابدَّ مستزيدًا من الطعام، ومتجاوِزًا ما يكفي حاجته، فلابدَّ له من التوازن، فليَقْسِمْه إلى ثلاثة أثلاث: ثُلث لأَكله، وثُلث لشَرابه، وثُلث لنَفَسِه.
«فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ»: وهذا من أنفع ما للبَدَن والقلب؛ فإن البطن إذا امتلأ من الطعام، ضاق عن الشراب، فإذا وَرَد عليه الشراب، ضاق عن النَّفَس، وعَرَض له الكَرب والتَّعَب بحِمْله، بمنزلة حامل الحِمل الثقيل، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب، وكَسَل الجوارح عن الطاعات، وتحرُّكها في الشهوات التي يستلزمها الشِّبَع [6].
ذُكِر لبعض الفلاسفة من أطبَّاء أهل الكتاب قولُ النبيِّ ﷺ: ثُلث طعام، وثُلث شَراب، وثُلث نفس، فتعجَّب منه واستحسَنَه وقال: ما سمعتُ كلامًا في قلَّة الأكل أحكمَ من هذا، وإنه لكلام حكيم، ثم قال: جَهِدَتِ الأطبَّاء من الفلاسفة أن يقولوا مثل هذا في التقلُّل من الأكل، فلم يهتدوا إليه، فأكثرُ ما قالوا: لا تَقعُد على طعامك حتى تشتهيَه وتَرفَع يدك عنه وأنت تشتهيه، ومنهم من قال: لا يأكل إلَّا بعد الجوع، ويَرفَع قبل الشِّبَع، ومنهم من قال: لا يأكل إلَّا بعد الجوع المفرِط، ولا يَشبَع شديدًا، وإنما كان مُراده هذا الذي ذكره نبيُّكم [7].
المراجع
1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 468).
2. رواه النسائيُّ (2559)، وابن ماجه (3605)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح وضعيف سنن النسائيِّ".
3. "إحياء علوم الدين" للغزاليِّ (3/ 82).
4. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (10/ 3292).
5. رواه البخاريُّ (5393)، ومسلم (2060).
6. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (4/ 17).
7. "قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد" لمحمد بن عليٍّ الحارثيِّ (2/ 285).
1. في الحديث ضربٌ لأمثلة بليغة، فيها تصوير موقف الناس من الهدى والرشاد والعلم النافع، الذي جاء من عند الله تعالى.
2. في الحديث تشبيه ما أرسل به النبيُّ ﷺ من الهدى والرشاد والعلم النافع المستمَدُّ من الكتاب والسُّنَّة بالمطر الغزير الذي يأتي الناس حالَ حاجتهم إليه.
3. تشبيه النبيِّ ﷺ للهدى والعلم بالمطر، الذي عبَّر عنه بلفظ الغيث لحاجة الناس إليه، وعدم استغنائهم عنه، واضطرارهم إليه
قال تعالى:
﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾
[الشورى: 28]
4. في الحديث إشارة إلى حالة الناس قبل بعثة النبيِّ ﷺ، حيث "كان الناس قبل المبعَث قد امتُحِنوا بموت القلوب، ونُضوب العلم، حتى أصابهم الله برحمةٍ من عنده"[1] ببعثة النبيِّ ﷺ.
5. في الحديث بيانُ أن كلَّ ما جاء به النبيُّ ﷺ هو وحيٌ من الله تعالى
القائل سبحانه:
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ 3 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾
[النجم: 3، 4]
6. في الحديث بيان أنه لا يَقبَل ما أَنزَل اللهُ من الهدى والدين إلا مَن كان قلبُه نَقيًّا من الإشراك والشكِّ؛ فالتي قَبِلَت العلم والهُدى كالأرض المتعطِّشة إليه، فهي تنتفع به، فتحيا فتُنبت، فكذلك هذه القلوب البريئة من الشكِّ والشرك، المتعطِّشة إلى معالم الهدى والدين، إذا وَعَت العلم، حَيَتْ به، فعَمِلت وأنبتت بما تحيا به أرماق الناس المحتاجين إلى مثل ما كانت القلوب الواعية تحتاج إليه[2].
7. في الحديث إشارة إلى أن من الناس مَن قلوبُهم متهيئةٌ لقَبول العلم؛ لكنها ليس لها رسوخ؛ فهي تَقبَل وتُمسك حتى يأتيَ متعطِّش فيَرْوَى منها، ويَرِدُ على مَنهَل يحيا به، وتسقى به أرض نقيَّة فتُنبت وتُثمر، وهذه حال من يَنقُل العلم ولا يعرفه ولا يفهمه[3].
8. الحديث بديع في التشبيه وتقسيم الكلام وترتيبه، وهو من بديع الإيجاز والبلاغة، ويدلُّ بعضه على بعض.
9. في الحَدِيث تنْبِيه على شرف الْعلم والتعليم، وَعظم موقعه، وشقاء من ليس من أهله، وذكر أقسام بني آدم بالنسبة فيه إلى شَقِيِّهم وسَعِيدهم، وتقسَّم سعيدهم إلى سَابق مقرَّب، وَصَاحبِ يَمِين مقتصِد[4].
المراجع
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (2/ 80).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 163).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 163، 164).
- "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 60، 61).
1- في الحديث بيان أمر خطير، وذَنب عظيم من مُحبِطات الأعمال، وهو الرياء، وقد سمَّاه النبيُّ شِركًا لخطورته، وجعله من الشرك الأصغر؛ لأنه قد يدخُل في قلب الإنسان من غير شعور؛ لخفائه وتطلُّع النفْس إليه؛ فإن كثيرًا من النفوس تُحب أن تُمدَح بالتعبُّد لله[1]
2- أصلَ الرِّياء: حُبُّ الجاهِ والمنزلة، وإذا فُصِّلَ رَجَعَ إلى ثلاثة أصول، هي: حُبُّ لذَّةِ الحمد، والفرارُ من ألم الذمِّ، والطمعُ فيما في أيدي الناس[2]
3- يُطلَق الرياء على كل ما يفعله الإنسان يُريد أن يَسمَعَه غيرُه؛ كالصيام وقراءة القرآن؛ فالإنسان إن قرأ القرآن يُريد أن يَسمعَه الناسُ، كان مُرائيًا كذلك، وإن كان لا عَلاقة للرؤية بها، وإنما أُطلِق الرياء على الكل تغليبًا؛ كما يقال لأبي بكر وعمر: العُمَران[3]
4- أوَّل من تُسعَّر به النار من الموحِّدين المراؤون بأعمالهم، وأوَّلهم العالم، والمجاهد، والمتصدِّق للرياء؛ لأن يَسِير الرياء شرك، ما نظر المرائي إلى الخلق بعمله إلا لجهله بعظمة الخالق[4]
5- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ ﷺ قال:
«إن أول الناس يُقْضى يومَ القيامة عليه رجُلٌ استُشهِدَ، فأُتِيَ به، فعرَّفه نِعَمَهُ فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيكَ حتى استُشهِدْتُ، قال: كذبتَ؛ ولكنكَ قاتلتَ لأنْ يُقالَ: جَريءٌ، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحبَ على وجهه حتى أُلْقِيَ في النار. ورجُلٌ تعلَّم العلمَ وعلَّمه، وقرأ القرآنَ، فأُتِيَ به فعرَّفه نعمَه فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلمتُ العلمَ وعلَّمتُه، وقرأتُ فيكَ القرآن. قال: كذبتَ؛ ولكنكَ تعلَّمتَ العلم ليُقال: عالِمٌ، وقرأتَ القرآن ليُقال: هو قارئٌ، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحِب على وجهه حتى أُلقي في النار. ورجُل وسَّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتي به فعرَّفه نِعمَه فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيل تحب أن يُنْفَقَ فيها إلا أنفقتُ فيها لكَ، قال: كذبتَ؛ ولكنكَ فعلتَ ليُقال: هو جَوَادٌ، فقد قيل، ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه، ثم أُلْقيَ في النار»
[5]
6- عن ابن عباس رضي الله عنه قال:
قال رسول الله ﷺ :
«مَن سَمَّع سَمَّع اللهُ به، ومَن رَاءَى رَاءَى اللهُ به»
[6]
7- المرائي يُري الناسَ ما يَطلُب به الحَظْوة عندهم، وذلك أقسام؛ كالرياء في الدين، ومنه أن يكون من جهة البَدَن، بإظهار النُّحول والصَّفار؛ ليُريَهم بذلك شدَّة الاجتهاد، وغَلَبة خوف الآخرة.
8- هناك الرياء من جهة الزيِّ؛ كالإطراق في حالة المشيِ، وإبقاء أثر السجود على الوجه، وغلظ الثياب، ولُبس الصُّوف... لتنصرف إليه الأعين بالتمييز بتلك العادة. وهؤلاء طبقات، منهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلاح، ومنهم من يطلبون القَبول عند أهل الصلاح، وعند أهل الدنيا من الملوك والأمراء والتجَّار[7]
9- هناك الرياء بالقول، ورياء أهل الدين بالوعظ والتذكير وحفظ الأخبار والآثار؛ لأجل المحاورة، وإظهار غزارة العلم والدلالة على شدَّة العناية بأحوال السلف، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، وإظهار الغضب للمنكرات بين الناس، وخفض الصوت وترقيقه بقراءة القرآن؛ ليدلَّ بذلك على الخوف والحزن ونحو ذلك[8]
10- هناك الرياء بالعمل؛ كمرآة المصلِّي بطول القيام، وتطويل الركوع والسجود، وإظهار الخشوع، ونحو ذلك[9]
11- هناك المراءاة بالأصحاب والزائرين؛ كالذي يتكلَّف أن يطلب زيارة عالِم أو عابد؛ ليقال: إن فلانًا قد زار فلانًا، وإن أهل الدين يتردَّدون إليه، ويتبرَّكون به، وكذلك من يرائي بكثرة الشيوخ، ليقال: لَقِيَ شيوخًا كثيرة، واستفاد منهم، فيباهى بذلك[10]
12- تحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس، إنما هو ليراه الناس، وكذلك كل تجمُّل لأجلهم لا يقال: إنه منهيٌّ عنه، وإن أكثر الناس يحبُّون أن لا يُرَوا بعين نقص في حال؛
قال النبيُّ ﷺ :
«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»
[11]
13- من الناس من يؤثر إظهار نعمة الله عليه، وقد أمر رسول الله ﷺ بذلك [12]
المراجع
- انظر: "القول المفيد على كتاب التوحيد" لابن عثيمين (1/ 125).
- "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة المقدسيِّ (ص: 222).
- انظر: "القول المفيد على كتاب التوحيد" (1/ 117).
- "كلمة الإخلاص" لابن رجب (ص39).
- رواه مسلم (1905).
- رواه مسلم (2986).
- "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة المقدسيِّ (ص214 - 217).
- "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة المقدسي (ص214 - 217).
- "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة المقدسي (ص214 - 217).
- "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة المقدسي (ص214 - 217).
- رواه مسلم (91).
- "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة المقدسي (ص217 - 218).
1- حذَّر الإسلامُ كثيرًا من النفاق، باعتباره من أخطر الأمراض التي تُصيب الأفرادَ والجماعاتِ.
2- في الحديث بيان صفاتِ المنافقين حتى يَحذَرَهم المؤمنُ، وحتى يتجنَّب تلك الصفات، ويحافظ على نفْسه من التخلُّق بإحداها.
3- في الحديث أن الخِصال المذكورة خِصال نفاق، وصاحبها شبيهٌ بالمنافقين في هذه الخصال، ومُتخلِّق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يُبطن خلافه، وهذا المعنى موجودٌ في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقُه في حقِّ مَن حدَّثه، ووعده، وائتمنه، وخاصَمه، وعاهَده من الناس، لا أنه منافقٌ في الإسلام، فيُظهره وهو يُبطن الكفرَ، ولم يُرِدِ النبيُّ ﷺ بهذا أنه منافقٌ نفاقَ الكفار المخلَّدين في الدرك الأسفل من النار[1]
4- ورد في رواية أُخرى ذِكْر ثلاث علامات للنفاق بدلَ أربع؛ قال ﷺ: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذَبَ، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا اؤتمنَ خانَ»[2]، ولا تَعارُضَ بين الروايتَين؛ فمجموع علامات النفاق في الروايتَين خمسٌ، وهي: الكذبُ في الحديث، والغدرُ في المعاهدات، والخُلفُ في الوعد، والفجورُ في المخاصمة، والخيانةُ في الأمانة.
5- خيانة الأمانة نوعٌ من السرقة، وهي ظلمٌ لصاحبها، وأثرها ظاهر في نزع الثقة بين المسلمين.
6- الأمانة تشمل كلَّ ما اؤتُمِن عليه الإنسان من مال، أو عِرض، أو حقٍّ؛ بل تشمل الشرائعَ التي جعلها اللهُ في يدنا أماناتٍ نُعلِّمها للناس، ونقوم على حفظها بالعمل؛ ولذلك سمَّى اللهُ تعالى مخالفةَ كتابه وسُنَّة رسوله خيانةً في
قوله تعالى:
( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ )
[الأنفال: 27][3]
7- الخيانة هي التصرُّفُ في الأمانة بغير وجه شرعيٍّ؛ كبَيعها، أو جَحدها، أو انتقاصها، أو التهاون في حفظها[4]
8- قال ﷺ: «لكلِّ غادر لواءٌ يُنصَب بغَدْرته يوم القيامة»[5]، لذا؛ أشدُّ الناسِ فضيحةً يوم القيامة هم الخائنونَ.
9-الصدق من أهم صفات المؤمنين، وقد أمر به اللهُ تعالى ورسوله ﷺ؛
قال تعالى:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )
[التوبة: 119]،
وقال ﷺ: «إن الصدقَ يَهدي إلى البرِّ، وإن البرَّ يَهدي إلى الجنة، وإن الرجُلَ لَيصدُقُ حتى يكون صدِّيقًا، وإن الكذبَ يَهدي إلى الفجور، وإن الفجورَ يَهدي إلى النار، وإن الرجُلَ لَيكذبُ حتى يُكتَب عند الله كذَّابًا»[6]
10- الغدرُ محرَّمٌ بشتَّى صوره، سواءٌ أكان مع فرد أم جماعة، وسواءٌ أكان مع مسلم، أم ذمِّيٍّ، أم معاهَد، ولا سيَّما إذا كان الغادرُ من أصحاب الولاية العامَّة؛ لأن ضرر غَدره يتعدَّى إلى خَلْق كثير. وقيل: لأنه غيرُ مضطرٍّ إلى الغدر لقُدرته على الوفاء[7]
11- في الحديث وجوبُ الوفاء بالوعد ما لم يمنع من ذلك مانع، وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعهد وأكَّد عليه؛
قال تعالى:
(وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ بِٱلۡعَهۡدِۖ إِنَّ ٱلۡعَهۡدَ كَانَ مَسۡـُٔولٗا )
[الإسراء: 34].
12- الفجور في الخصومة أن يخرج عن الحقِّ عمدًا حتى يصيرَ الحقُّ باطلًا، والباطلُ حقًّا؛ فإذا كان الرجُلُ ذا قُدرة عند الخصومة - سواءٌ كانت خصومتُه في الدين أو في الدنيا - على أن ينتصر للباطل، ويُخيِّل للسامع أنه حقٌّ، ويوهن الحقَّ، ويُخرجه في صورة الباطل - كان ذلك من أقبح المحرَّمات، ومن أخبَث خصال النفاق[8]
13- أجمع العلماء على أنّ من كان مصدِّقًا بقلبه ولسانه، وفعل هذه الخصال، لا يُحكَم عليه بكفر، ولا هو منافق يخلَّد في النّار[9]
14- المنافق الخالص هو شديد الشّبه بالمنافقين؛ بسبب هذه الخصال، وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبةً عليه، فأمّا من يَندُر ذلك منه، فليس داخلًا فيه[10]
15-المراد بالنفاق في الحديث النفاق العمليُّ الذي يكون عليه أهل النفاق العَقَديِّ، وليس نفاقَ الاعتقاد؛ لأن نفاق الاعتقاد نفاق كفر، وهو الذي يُظهر الإسلام ويُبطِن الكفر، أما هؤلاء الذين يتَّصِفون بهذه الصفات، فإنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانًا حقيقيًّا؛ ولكنهم يستعملون هذه الصفاتِ وفيها شيء من النفاق[11]
16- في الحديث تأكيد صلةِ الإيمان الصادق بالسلوك القويم.
المراجع
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 47).
- رواه البخاريُّ (33)، ومسلم (59).
- "الأدب النبويُّ" لمحمد عبد العزيز الخولي (ص: 18).
- "الأدب النبويُّ" لمحمد عبد العزيز الخولي (ص: 18).
- رواه البخاريُّ (3188)، ومسلم (1735).
- أخرجه البخاريُّ (6094)، ومسلم (2607).
- "كنوز رياض الصالحين" لمجموعة باحثين (9/ 547).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 486).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 46).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 47).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 163).
17-النفاق: هو أن يُظهر المرء خلافَ ما يُبطِن، وينقسم إلى قسمين؛ أحدهما: نفاق في اعتقاد الإيمان وهو النفاقُ الأكبرُ؛ نفاقُ الكفر، وهو إظهارُ الإسلام، وإبطانُ الكفر؛ كالمنافقين على عهد رسول الله ﷺ، والثاني: نفاق في العمل، وهو هذه الخصال، وهذا النفاق نفاقٌ أصغرُ.
18- االمقصودُ في هذا الحديث هو نفاقُ العمل دونَ الاعتقاد، فقد تقع هذه الخصالُ من المؤمن الصادق، ومن ثمَّ فقد تلبَّس بذنب، واتَّصَف بخَصلة من خصال المنافقين، وعليه أن يُراجع نفْسه، ويُصحِّح مسارَه.
19- النّفاق له شُعَبٌ ودعائمُ، كما أنّ للإيمان شُعبًا ودعائم [1]
20-الإيمان يَزِيد ويَنقُص، ويجتمع في العبد إيمانٌ ونفاق[2]؛ فإن تمامَ الإيمان بالأعمال، ويدخل على المؤمن النقص في إيمانه بالكذب، وخُلف الوعد، وخيانة الأمانة، والفُجور في الخصام، كما يَزيد إيمانه بأفعال البرِّ[3]
المراجع
- "مجموع الفتاوى" (3/ 216).
- "مجموع الفتاوى" (7/ 616).
- "شرح صحيح البخاري" لابن بطَّال (1/ 90).
1. في الحديث حثٌّ على المبادرة إلى الدعوة إلى الله، والعمل على الأخذ بيدِ الناس إلى الله.
2. في الحديث بيان أن الدعوة إلى الله تعالى من أيسر الأمور، فيُمكِنك ممارستُها في كلِّ أحوالك؛ فليس شرطًا أن يقوم بها العلماء، أو المختصُّون، أو الْمُدرَّبون، أو مَن وظيفتُهم الدعوة؛ بل يَسهُل أن يقوم بها كلُّ مسلم، حتى لو نَشَر آيةً، أو حديثًا، أو ذِكرًا، فيؤجَر على ذلك.
3. في الحديث يأمر النبيُّ ﷺ المسلمَ بتبليغ ولو آيةً واحدة؛ حتى يُسارع كلُّ مسلم إلى تبليغ ما بَلَغه من الشرع مهما قلَّ، وحتمًا سيَصِل كلُّ ما جاء به ﷺ إذا فَعَل كلُّ مسلم ذلك.
4. إن الدعوة إلى الله تعالى فاتحةٌ لكلِّ خير، ومُغْلِقةٌ لكلِّ شرٍّ، والتواصي بالحقِّ والتواصي بالصبر من أخصِّ سمات المسلم، وطريقٌ لفلاحه ونجاحه في الدنيا والآخرة.
5. إن تبليغَ شرائع الدين، والدعوة إلى الله تعالى، هي أشرفُ الأعمال وأعظمها، وهي مَهمَّة الأنبياء والرسل، عليهم السلام.
6. من أكبر النِّعَم على المرء أن يحظى بشرف تبليغ دين الله، والدعوة إليه تعالى، ويكفي شرفًا مَن يبلِّغ ما جاء به المصطفى ﷺ أنه يدخل في قوله تعالى:
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
[فصلت: 33]
وهذا استفهام تقريريٌّ؛ أي: لا أحدَ أحسنُ قولًا ممن دعا إلى الله مع العمل الصالح الذي يُصدِّق قوله، ومع استسلامه لله تعالى منكِرًا ذاته، فتصبح دعوته خالصةً لله تعالى، ليس له فيها إلا التبليغ.
7. قال ﷺ: «ولو آيةً»، ولم يقل: ولو حديثًا؛ لأنَّ الأمر بتبليغ الحديث يُفهَم من هذا بطريق الأَوْلَوية؛ فإنَّ الآياتِ مع انتشارها وكثرة حَمَلتها، وتكفُّل الله سبحانه بحفظها، وصَونها عن الضياع والتحريف، إذا كانت واجبةَ التبليغ، فالحديثُ الذي لا شيء فيه مما ذُكِر أَوْلى[1].
8. بالدعوة تستقيم أمور الخَلق وتَصلُح مَعايشُهم، ويتوجَّه المذنِب إلى التوبة، والعاصي إلى الطاعة، والكافرُ إلى الإسلام، وبالدعوة يكون المسلم في رحاب رضوان الله تعالى.
9. إن كانت الدعوةُ واجبةً على كلِّ مسلم، ويَسهُلُ القيام بها بمجرَّد تبليغ ما يَعلَمه مهما قلَّ، فإنه لا بدَّ للدعوة إلى الله تعالى من داعية يمتثل وجوبها، ويَعرِف شرفَها، فيحمل همَّ دعوته، ويعرف ماهيَّتها وغايتها، والمطلوبَ منه في طريق الدعوة، وما يجب عليه من التحلِّي بالأخلاق الحسنة والشِّيم الكريمة؛ فإنه كالسراج المنير يمحو ظلماتِ الكفر والضلال والمعاصي.
10. إذا كانت الدعوةُ هي إخبارَ الناس بدينهم، وهذا لا يكون إلا بعلم وتثبُّت وحُجَّة مقنِعة، كان لا بدَّ أن تكون هناك علومٌ تُعين الداعية على إبلاغ الرسالة للناس، علومٌ دينية ودنيوية تؤهِّل الداعية، وتُنير له صراط دعوة الناس إلى ربهم، فعلى الداعية أن يسعى للتعلُّم؛ حتى يدعوَ إلى الله بعلم وبصيرة.
11.
قال النبيُّ ﷺ:
«إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ، وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الحُوتَ، لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْر»[2].
12.
قال تعالى:
{ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
[النحل: 125]
"أَطلَق الحِكْمةَ ولم يقيِّدْها بوصف الحَسَنة؛ إذ كلُّها حَسَنةٌ، ووصفُ الحُسْن لها ذاتيٌّ، وأمَّا الموعظة، فقيَّدها بوصف الإحسان؛ إذ ليس كلُّ موعظة حسنةً، وكذلك الجَدَلُ، قد يكون بالتي هي أحسن، وقد يكون بغير ذلك"[3].
13. ليس مقصودُ هذا الحديث تبليغَ أيِّ شيء لأيِّ أحد؛ فالدعوة تحتاج إلى بصيرة
كما قال تعالى:
{قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}
[يوسف: 108]
بصيرة في كلِّ أمور الدعوة، ومنها مراعاةُ حال المدعوِّين ومستواهم العقليِّ، فما يُناسب شخصًا قد لا يُناسب آخَرَ، وما يَفهَمه أحدُ المدعوِّين قد لا يفهمه مدعوٌّ آخَرُ.
14. قال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه: "حَدِّثُوا النَّاسَ بما يَعْرِفُونَ؛ أَتُحِبُّون أن يُكذَّبَ اللَّهُ ورسولُه؟!"[4].
15. إن الغاية العظمى من الدعوة للإسلام ما قاله رِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ: "اللَّهُ ابتَعَثَنا لنُخرِجَ مَن شاء من عبادة العباد إلى عبادة اللَّه، ومن ِضيق الدُّنيا إلى سَعَتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، فأَرسَلنا بدينه إلى خَلقِه لندعوَهم إليه"[5].
16. إن على العبد المؤمن أن يتحيَّن كلَّ فرصة سانحةٍ؛ لكي يسابق بالخيرات، ويزاحم الآخرين بالطاعات، ويدعو إلى ذلك، فينال أجره وأجورهم؛ فيكفي الداعيةَ جزاءً وأجرًا دخولُه في قوله ﷺ:
«مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا»[6].
17.
قال ﷺ:
«مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ»[7].
18.
قال ﷺ:
«فواللهِ، لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ»[8].
19. في الحديث أنه لا حرج في التحدُّث عن بني إسرائيل؛ لأنّه كان تَقدَّم منه ﷺ الزَّجْرُ عن الأخذ عنهم، والنَّظَر في كُتبهم، ثمَّ حَصَل التّوسُّع في ذلك، وكأنَّ النّهيَ وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية، والقواعد الدِّينية؛ خشيةَ الفتنة، ثمَّ لَمَّا زال المحذور، وقع الإذن في ذلك؛ لِما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار.
المراجع
- "قوت المغتذي على جامع الترمذي" للسيوطيِّ (2/ 665).
- رواه الترمذيُّ (2685)، وقال: هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
- "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 444).
- رواه البخاريُّ (127).
- "البداية والنهاية" لابن كثير (7/ 39).
- رواه مسلم (2674).
- رواه مسلم (1893).
- رواه البخاريُّ (2942)، ومسلم (2406).
1. الحديث حثٌّ للمسلمين على حفظ حديث النبيِّ ﷺ وتبليغه؛ لينتشر دين الله عزَّ وجلَّ، ويصل إلى كل الناس، ووعدُ مَن يفعل ذلك حُسنَ الجزاء في الدارينِ.
2. حفظ الحديث إما حفظ صدر بالعقل والقلب، وإما حفظٌ بالكتابة.
3. في رواية الترمذيِّ عن ابن مسعود: «فبلَّغه كما سَمِعَ»[1]، وفيه إشارةٌ لإتقان السماع والحفظ، والأمانة في النقل.
4. عن أبي هريرةَ
عن النبيِّ ﷺ قال:
«مَن كذَب عليَّ متعمِّدًا، فليتبوَّأْ مقعدَه من النار»[2].
توعَّد النبيُّ ﷺ مَن كذب عليه بزيادة في كلامه أو نقصان منه، عامدًا متعمدًا، بسوء العاقبة من الله تعالى.
5. في الحديث إشارةٌ إلى أنه لا يُشترَط الفقه في راوي الحديث؛ وإنما شرطه الحفظُ وسلامةُ النقل، لذا؛ ربما كان الناقل للخبر ليس عالِمًا أو فقيهًا؛ ولكنه قادرٌ على الحفظ والنقل، فيَحفَظ، وينقُل العلم إلى غيره من العلماء والفقهاء ممن منَحَهم الله القدرةَ على الفَهْم والاستنباط.
6. قد يكون في المفضول مزايا لا تكون في الفاضل، لذا؛ ليس في قوله ﷺ: «فرُبَّ حاملِ فِقه إلى مَن هو أفقهُ منه» تقليلٌ مِن قَدْر الناقل ومكانته؛ إذ قد يكون في التابعين مَن يمتاز على بعض الصحابة، بكونه أفقهَ منه، وأفهمَ منه فيما بلَّغه له عنه ﷺ، وكذا فيمَن بعدهم. قال الشّافعيُّ: أهل الحديث حَفِظوا؛ فلهم علينا الفضل؛ لأنّهم حفظوا لنا[3].
7. في الحديث بيانُ أن مَن جَمَع بين الحفظ والبلاغ والفِقه قد حاز الفضلَ كلَّه، وهذا فضل الله يؤتيه مَن يشاء
كما قال ﷺ:
«مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ»[4].
8. في قوله ﷺ: «رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» إشارة إلى وجوب التفقُّه، والحثِّ على استنباط معاني الحديث، واستخراج المكنون من سرِّه[5].
9. لم يَزَلْ أهل العلم في القديم والحديث يعظِّمون نَقَلة الحديث، حتّى قال الشّافعيُّ رحمه الله: إذا رأيتُ رجلًا من أهل الحديث فكأنّي رأيتُ رجلًا من أصحاب النّبيِّ ﷺ. وإنّما قال الشّافعيُّ هذا؛ لأنّهم في مقام الصّحابة من تبليغ حديث النّبيِّ ﷺ [6].
10. في الحديث إشارة إلى أن الجزاء من جنس العمل؛ فقد خصَّه الله تعالى بالبهجة والسرور؛ لأنه سعى في نضارة العلم، وتجديد السُّنَّة، فجازاه في دعائه له بما يناسب حاله في المعاملة، ومن حفظ ما سَمِعه وأدَّاه كما سمعه من غير تغيير، كأنه جعل المعنى غضًّا طريًّا[7].
11. في الحديث ذكر الفقه دون العلم؛ إيذانًا بأنَّ الحامل غيرُ عارٍ عن العلم؛ إذ الفقهُ علم بدقائق العلوم المستنبَطة من الأقيسة، ولو قال: (غير عالم)، لَزِم جَهْلُه[8].
12.
قوله ﷺ:
«سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا»
أَيْ: غضًّا طريًّا من غير تحريف وتغيير من زيادة ونقصان، أو من غير تغيير للفظها ولا معناها، فيكون تنبيهًا على الوجه الأكمل، فلا ينافي جواز الرّواية بالمعنى على ما عليه الجمهور[9].
13. في الحديث حثٌّ على تعلُّم الحديث، وروايته، والتفقُّه فيه، وضرورة ضبط الرواية عن رسول الله ﷺ والاحتياط فيها، ونقلها وإن لم يفقه الناقلُ كلَّ معانيها.
14. في الحديث إشارة إلى ضرورة نشر العلم، حتى ولو تعسَّرتْ على الناشر مسألة منه، أو صعُب عليه فَهم معنى كلمة أو جملة من الحديث.
15. في الحديث بيانُ فَضل الْمُحدِّثين الذين اهتمُّوا برواية أحاديث النبيِّ ﷺ، وجَمعها.
المراجع
- رواه الترمذيُّ (2657).
- رواه البخاريُّ (1291)، ومسلم (3).
- "مجموع الفتاوى" (1/ 11).
- رواه البخاريُّ (71)، ومسلم (1037).
- "معالم السنن" للخطابيِّ (4/ 187).
- "مجموع الفتاوى" (1/ 11).
- "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (1/ 4).
- "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (1/ 4).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 306).
1. في الحديث تشبيه تحريم الدماء والأموال بتحريم يومِ عرفةَ، وذي الحِجَّة، ومكَّةَ؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنها محرَّمةٌ أشدَّ التحريم، لا يُستباح منها شيء، وفي تشبيهه هذا مع بيان حُرمة الدماء والأموال تأكيدٌ لحُرمة تلك الأشياء التي شبَّه بتحريمها الدماء والأموال، حيث كانوا يَستبِيحون دماءهم وأموالهم في الجاهلية في غير الأَشهُر الحُرُم، ويحرِّمونها فيها، كأنه قيل: إن دماءكم وأموالكم محرَّمةٌ عليكم أبدًا كحُرمة يومكم وشهركم وبلدكم [1].
2. جريمة قتل المؤمن، ليست مجرَّد قتل نفسٍ بغير حقٍّ فحسبُ؛ ولكنها كذلك جريمة قتل للوَشِيجة العزيزة والرابطة الوُثقى التي أنشأها الله بين المسلم والمسلم، وتنكُّر للإيمان ذاته، وللعقيدة نفسها؛ فالقتلُ وسفك الدماء المعصومة جريمة تَرفَع الأمن، وتَنشُر الخوف، وتَفتِك بالأمَّة وتُضعِفها، وتقطع روابط الإخاء بينها. لذا؛ توعَّد الله فاعلَها قائلًا:
﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمًا﴾
[النساء: 93].
3.
عن الأحنف بن قَيس، عن النَّبيِّ ﷺ:
«إذا الْتَقى المسلِمانِ بسَيفَيهما فالقاتلُ والمقتولُ في النار»، فقلتُ: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بالُ المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قَتْل صاحبه»
[2].
4.
عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله ﷺ يَقُولُ:
«كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى الله أَنْ يَغْفِرَهُ؛ إِلَّا الرَّجُلُ يَقْتُلُ المُؤْمِنَ مُتَعَمِّدًا، أَوْ الرَّجُلُ يَمُوتُ كَافِرًا»
[3]
أي: يُرجى أن يَغفِر الله أيَّ ذنب مهما كان كبيرًا، ويُستثنى من مغفرة الذنوب قتلُ المؤمن العمد، والكفرُ بالله تعالى، وإن كان القتلُ في مشيئة الله تعالى، إن شاء غفره.
5.
قال رسول الله ﷺ:
«كُلُّ المُسْلِمِ علَى المُسْلِمِ حَرامٌ؛ دَمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ»
[4]
6. قولُه ﷺ: «من دمائنا»: أراد به أهل الإسلام، لا ذَوي القَرابة منه؛ أي: أبدأ في وضع الدماء التي يستحقُّ أهل الإسلام وِلايتها بأهل بيتي [5].
7. منذ خلق الله الإنسان وهو يقوم بعمارة الأرض، مشاركةً بين الرجل والمرأة، كلٌّ منهما يقوم بدوره؛ فالله - سبحانه وتعالى - خلق الزوجين الذكر والأنثى، وبثَّ منهما رجالًا كثيرًا ونساءً، وجعل بينهما مودَّة ورحمة؛ حتى يعيش الجنس البشريُّ على طهارة ونقاء.
8. المرأة هي عماد الأسرة والمجتمَع، وهي مصنع الحياة، منذ أن ينشأ الجنين في بطنها، وهي التي تصنع الحياة في بيتها، وهي التي تنظّم حياة الأسرة وترتّبها، والرجل له القَوامة؛
قال الله تعالى:
﴿وَٱلَّٰتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِى ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾
[النساء: 34].
9. إن الصورة الطبيعية للمجتمع أن تتكوَّن لَبِناته من الأسرة، التي هي عبارة عن أب وأمٍّ وأولاد، لكلٍّ منهم حقوقٌ، وعليه واجبات، وهكذا تسير الحياة منذ بداية الخليقة، فتُعمَّر الأرض وتستمرُّ الحياة عليها.
10.
قَالَ ﷺ:
«لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» أَوْ قَالَ: «غَيْرَهُ»
[6].
وقولُهُ: «يَفْرَكْ» معناه: يُبغضُ.
11.
عن عمرو بن الأحوص - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله ﷺ يقول في حَجَّة الوداع:
«أَلاَ وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا، أَلا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ، فَلا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ، أَلا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ»
[7].
ومعنى قوله ﷺ: «استوصوا بالنساء»؛ أي: تَوَاصَوْا فيما بينكم بالإحسان إليهن. «عَوَانٌ عِنْدَكُمْ»؛ أي: أسرى في أيديكم.
12.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّه عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاء؛ فَإِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ»
[8].
والمعنى أن في خُلُقهن عِوَجًا من أصل الخِلقة؛ حيث إنها خُلِقت من أعوجِ أجزاء الضِّلَع، فعِوَجُها شديد في خُلقها وفِكرها، فلا يتهيَّأ الانتفاع بها إلا بالصبر على تعوُّجها، فإن أردتَ منها الاستقامة التامَّة في الخُلق، أدَّى الأمر إلى طلاقها.
13. في الحديث إرشاد المسلم أن يتَّبِع هَدْيَ النبيِّ ﷺ في تعامله ﷺ مع زوجاته أمَّهات المؤمنين، فقد كان ﷺ حَسَنَ العِشْرة للناس جميعًا، ولزوجاته وأهل بيته خاصةً، وكان النبيُّ ﷺ يتعاهد أهله بالتعليم والتوجيه والرعاية والدلالة على الخير.
14. لم يذكُرِ السُّنَّةَ في قوله ﷺ:
«وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ»
لأنَّ القُرْآنَ مُشتملٌ على العملِ بها، فيَلزَمُ مِن العملِ بالكتابِ العملُ بالسُّنَّةِ.
المراجع
1. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1964، 1965).
2. رواه البخاريُّ (31)، ومسلم (2888).
3. رواه النسائيُّ (3984)، وصححه الألبانيُّ في "الصحيحة" (511).
4. رواه مسلم (2564).
5. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1965).
6. رواه مسلم (1469).
7. رواه الترمذيُّ (1163)، وابن ماجه (1851)، وقال الترمذيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
8. رواه البخاريُّ (3331)، ومسلم (1468).
1- قال الإمام أحمدُ: إنّ أصول الإسلام ثلاثة أحاديثَ: حديث: «الأعمال بالنّيّات»، وحديث: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه، فهو ردٌّ»، وحديث: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ»[1]
2- هذا الحديث من جوامع كَلِمه صلي الله عليه وسلم، فإنَّه قعَّد قاعدةً عظيمة من قواعد الإسلام بعبارة موجَزة يَسيرة؛ فكلُّ مَن أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصلٌ من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريءٌ منه، وسواءٌ في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة[2]
3- الحديث صريح في ردِّ كلِّ البِدَع والمخترَعات[3]
4- هذا الحديث ممّا ينبغي حفظُه واستعماله في إبطال المنكَرات، وإشاعة الاستدلال به[4]
5- هذا الحديث أصلٌ عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها، كما أنّ حديث: «الأعمال بالنّيّات» ميزان للأعمال في باطنها، فكما أنّ كلَّ عمل لا يُراد به وجه اللّه تعالى فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كلُّ عمل لا يكون عليه أمر اللّه ورسوله، فهو مردود على عامله، وكلُّ من أحدث في الدّين ما لم يأذن به اللّه ورسوله، فليس من الدّين في شيء[5]
6- هذا الحديث بمنطوقه يدلُّ على أنّ كلَّ عمل ليس عليه أمر الشّارع، فهو مردود، ويدلُّ بمفهومه على أنّ كلَّ عمل عليه أمره فهو غير مردود[6]
7- في الحديث إشارةٌ إلى أنّ أعمال العاملين كلِّهم ينبغي أن تكون تحت أحكام الشّريعة، وتكون أحكامُ الشّريعة حاكمةً عليها بأمرها ونهيها، فمن كان عمله جاريًا تحت أحكام الشّرع موافقًا لها، فهو مقبول، ومن كان خارجًا عن ذلك، فهو مردود[7]
8- استحسان السَّلَف لبعض الأفعال على أنها بدعة؛ كقول عمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه عن جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد: «نِعمَ البدعةُ هذه»[8]، إنما ذلك في البِدَع اللغوية، لا الشرعية؛ فإن فعله له أصلٌ في الشرع؛ فإن النبيَّ ﷺ صلَّى بالناس، ثم خشيَ أن تُفرض عليهم، فترك ذلك، فلما تولَّى عمرُ رضي الله عنه جمعَهم على أُبيِّ بن كَعب رضي الله عنه وقال قولته تلك، فلم تكن بدعةً شرعية[9]
9- قال ﷺ : «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضلالة»[10]؛ وذلك لأن الأصل فيما يَدين به الإنسان ربَّه، ويتقرَّب به إليه، المنعُ والتحريم، حتى يقوم دليل على أنه مشروع؛ ولهذا أنكر اللهُ - عزَّ وجلَّ - على من يحلِّلون ويحرِّمون بأهوائهم؛
فقال تعالى:
وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ
[النحل: 116]،
وأنكر على من شرع في دينه ما لم يأذن به؛
فقال:
أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةُ ٱلۡفَصۡلِ لَقُضِيَ بَيۡنَهُمۡۗ وَإِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ
[الشورى: 21]،
وقال
قُلۡ أَرَءَيۡتُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُم مِّن رِّزۡقٖ فَجَعَلۡتُم مِّنۡهُ حَرَامٗا وَحَلَٰلٗا قُلۡ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمۡۖ أَمۡ عَلَى ٱللَّهِ تَفۡتَرُونَ ﱠ
[يونس: 59] [11]
10- الأمور العادية وأمور الدنيا، لا يُنكَر على مُحْدَثاتِها إلا إذا كان قد نُصَّ على تحريمه، أو كان داخلًا في قاعدة عامَّة تدلُّ على التحريم؛ كتحريم الحرير والذَّهب على الرجال، وتحريم ما فيه الصورة، وما أشبه ذلك[12]
11- في الحديث إشارة إلى أن كلَّ بدعة في دين الله فهي مردودة وضلالة، وإن ظنَّ صاحبها أنها خير، وأنها هدى، فإنها ضلالة لا تزيده من الله إلا بُعدًا.
12- الحديث يشمل ما كان مبتدَعًا في أصله، وما كان مبتدَعًا في وصفه. فمثلًا: لو أن أحدًا أراد أن يَذكُر الله بأذكار معيَّنة بصفتها أو عددها، بدون سنَّة ثابتة عن رسول الله ﷺ، فإنا ننكر عليه، ولا ننكر أصل الذكر؛ ولكن نُنكر ترتيبه على صفة معيَّنة بدون دليل[13]
13- البدعة كلُّ ما أُحدِث بعد النبيِّ ﷺ فهو بدعة، والبدعة فعلُ ما لم يُسبق إليه، فما وافق أصلًا من السنَّة يُقاس عليها فهو محمود، وما خالف أصول السُّنن فهو ضلالة. ومنه قوله ﷺ: «كل بدعة ضلالة»[14]
14- قال الفُضيل في قوله تعالى:
ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفُورُ
ﱠ [الملك: 2]
قال: أَخْلَصُه وأَصوَبه. وقال: إنّ العمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صَوَابًا، لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا، ولم يكن خالصًا، لم يُقبَل حتّى يكون خالصًا وصوابًا. قال: والخالص إذا كان للّه عزّ وجلّ، والصَّواب إذا كان على السُّنَّة[15]
15-في الحديث ردٌّ على مَن يقسِّم البدعة في الدين إلى حسنة وسيئة[16]
16- عَنْ أبِي هُريرةَ رضي الله عنه،
أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قَالَ:
«مَنْ دَعَا إلى هُدًى، كان لهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أجورِ مَنْ تَبِعهُ، لا يَنقُصُ ذلك مِنْ أجُورِهم شيئًا، ومَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كان عليه مِنَ الإثمِ مثلُ آثامِ مَنْ تَبِعهُ، لا يَنْقُصُ ذلك مِنْ آثامِهم شَيئًا»
[17]
المراجع
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 71، 72).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 128).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (12/ 16).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (12/ 16).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 176).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 177).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 177).
- رواه البخاريُّ (2010).
- انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 128).
- رواه أبو داود (4607)، والترمذيُّ (2676)، وابن ماجه (42)، وصحَّحه ابن الملقِّن في "البدر المنير" (9/ 582)، وصحَّحه الألبانيُّ في المشكاة (165)، والإرواء (2455).
- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 284، 285).
- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 284، 285).
- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 285، 287).
- "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (1/ 81).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 71، 72).
- انظر: "الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية وتتمتها الرجبية"، عبد الرحمن بن ناصر البراق (ص: 76).
- رواه مسلم (2674).
مِن عظيم لُطف الله تعالى بعباده المؤمنين أن جَعَل لبعض الأزمنة والأماكن فضائلَ ومزايا ليست لغيرها؛ فجَعَل يومَ عرفةَ خيرَ أيَّام العام، ويومَ الجُمُعة أفضلَ أيام الأسبوع، وجعل الكعبةَ أفضلَ البقاع، وشهرَ رمضان أفضلَ الشهور، وليلةَ القَدْر أفضلَ الليالي.
في الحديث بَيانُ عِظَمِ فضْلِ العَشْرِ الأوائل من ذي الحِجَّةِ على غَيرها من أيَّامِ السَّنةِ، وأن من رحمة الله تعالى وفضله على عباده المؤمنين أن مَنَّ عليهم بأيام العشر من ذي الحِجَّة الْمُبارَكة، حيث يُضاعِفُ لهم فيها الأجرَ على الطاعات، ويُكرمهم فيها بجَزيلَ الثَّوابِ؛ رَحمةً منه وكرَمًا.
في الحديث تَعظيمُ الجهاد، والشَّهادةِ في سَبيلِ اللهِ، وبذْلِ النَّفسِ والمالِ معًا، وأنَّه أعْلَى مراتبِ الجِهادِ.
ينبغي للمؤمن أن يستقبل هذه الأيامَ المباركة، ونفحاتِها بالنية الخالصة، والقلب الصافي، والعزم الأكيد على اغتنامها، والسعي لنيل رضا الله تعالى، وليحرص على اغتنام هذه الْمَكرُمات والفضائل والنفحات قبل أن تفوته، فلا يحصِّل إلا الحسرة والندم.
على المؤمن أن يغتنم هذه الأيام في إحسان الفَرائض والواجِبات، والإكثار من كلِّ أعْمالِ البِرِّ والمَعروفِ، والتزوُّد من التَّطوُّعِ في العِباداتِ؛ من صلاة النوافل، وقيام الليل، والصيام – خاصَّةً صيامَ يوم عرفة – والإكثار من الصدقة، والإكثار من قراءة القرآن، والإكثار من الدعاء، والحرص على الصلاة في جماعة، وعلى الوقوف في الصفِّ الأوَّل في الجماعة، وهَلُمَّ جرًّا.
الذي يَظهَر أن السببَ في امتياز عَشْرِ ذي الحِجَّة لمكان اجتماع أُمَّهات العبادة فيه، وهي الصلاةُ والصيام والصدقة والحجُّ، ولا يتأتَّى ذلك في غيره [1].
في الحديث إشارة إلى أن الجهاد في سبيل الله ذِرْوَة سنام الإسلام، وله قَدْرُه في دين الإسلام وشَرَفُه الذاتيُّ الذي لا يرتبط بزمان ولا مكان.
المراجع
- "فتح الباري" لابن حجر (2/ 460).
الفتن بلاءٌ عظيم يَبتلي الله به هذه الأمَّة، وقد أخبرَنا النبيُّ بحدوثها قبلَ وقوعها، وهذا من دلائل نبوَّته، ومعجزة ظاهرة له، وَقَعت كما أخبر بها.
في الحديث توجيه وإرشاد لِمَا ينبغي على المسلم عَمَلُه حين حدوث الفتن؛ حتى يَسلَم من شرِّها بإذن الله، وهو الاستعانة بالعبادة في مواجهة هذه الفتن، وأن ثوابها وقتَ الفِتَن يَعدِل ثواب الهجرة إليه.
في الحديث أن أداء العبادات، والطاعات، والمحافظة عليها، في زمن كَثُرت فيه الفتن، واختلطت فيه الأمور، وكَثُر القتل بين الناس، واستَعَرَتْ فيه الشَّهَوات، وعمَّ فيه الفساد، تُعَدُّ هجرةً خالصة إلى الله تعالى ورسوله.
في الحديث إشارة إلى فضيلة التفرُّد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكر له.
في الحديث وجهُ تمثيله بالهجرة أن الزمن الأوَّل كان الناس يَفِرُّون فيه من دار الكفر وأهله، إلى دار الإيمان وأهله، فإذا وقعت الفتن، تعيَّن على المرء أن يَفِرَّ بدينه من الفتنة إلى العبادة، ويَهجُر أولئك القوم، وتلك الحالة، وهو أحدُ أقسام الهجرة[1].
من علامات قُرب الساعة زيادةُ الفتن وشُيوعها وظهورها؛
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا، يَنْزِلُ فِيهَا الجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا العِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الهَرْجُ»
[2].
الهجرة هجرتان: إحداهما: التي وَعَد اللهُ عليها الجنَّة في قوله:
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
[التوبة: 111]
فكان الرجل يأتي النبيَّ ﷺ ويَدَع أهلَه ومالَه، لا يرجع في شيء منه، وينقطع بنفسه إلى مُهاجَره، فلمَّا فُتحت مكَّةَ صارت دار إسلام كالمدينة، وانقطعت الهجرة. والهجرة الثانية: مَن هاجر من الأعراب وغزا مع المسلمين، ولم يفعل كما فعل أصحاب الهجرة الأولى، فهو مهاجِر[3].
وقعت الهجرة في الإسلام على وجهين؛ الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن؛ كما في هجرتَيِ الحبشة وابتداء الهجرة من مكَّةَ إلى المدينة، والثاني: الهجرةُ من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقرَّ النبيُّ ﷺ بالمدينة وهاجر إليه مَن أَمكَنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة إذ ذاك تختصُّ بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فُتحت مكةُ، فانقطع الاختصاص، وبقيَ عموم الانتقال من دار الكفر لمن قَدَر عليه باقيًا[4].
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ العَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الهَرْجُ»، قَالُوا: وَمَا الهَرْجُ؟ قَالَ: «القَتْلُ القَتْلُ»
[5]
أمَر الله تعالى المؤمنين بالصبر والصلاة عند مواجهة الْمُلِمَّات والشدائد والفتن؛
فقال تعالى:
واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين
[البقرة: 45].
من أسباب عُلُوِّ منزلة العبادة في الفتنة: إذا عَمَّت الفتن اشتغلت القلوب، وإذا تعبَّد حينئذٍ متعبِّدٌ، دلَّ على قُوَّة اشتغال قلبه بالله - عزَّ وَجلَّ - فيَكْثُر أجره[6]
من أسباب عُلُوِّ منزلة العبادة في الفتنة: أن المتمسِّك بالعبادة في ذلك الوقت، والمنقطِع إليها المعتزِل عن الناس، أجرُه كأجر المهاجِر إلى النبيِّ ﷺ؛ لأنَّه يناسبه من حيث إن المهاجر قد فرَّ بدينه عمَّن يَصُدُّه عنه إلى الاعتصام بالنبيِّ ﷺ، وكذلك هذا المنقطِع للعبادة فرَّ من الناس بدينه إلى الاعتصام بعبادة ربِّه، فهو على التحقيق قد هاجر إلى ربِّه، وفرَّ من جميع خلقِه[7].
من أسباب عُلُوِّ منزلة العبادة في الفتنة: أن الناس يَغْفُلون عنها ويَشْتَغلون عنها، ولا يتفرَّغ لها إلا أفراد[8].
من أسباب عُلُوِّ منزلة العبادة في الفتنة: أن الناس في زمن الفتن يتَّبِعون أهواءهم، ولا يرجعون إلى دين، فيكون حالهم شبيهًا بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم مَن يتمسَّك بدينِه ويَعبُد ربَّه، ويتَّبِع مَرَاضيَه، ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة مَن هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله ﷺ مؤمنًا به، متَّبِعًا لأوامره، مجتنبًا لنواهيه[9]
من أسباب عُلُوِّ منزلة العبادة في الفتنة: أن العبادة في وقت غفلة الناس شاقَّة وشديدة على النفوس؛ لأن النفوس تقتدي بما تشاهده، والناس كأسراب القَطَا يتْبَع بعضهم بعضًا، فإذا كَثُرت الغفلة تأسَّى بهم عموم الناس، فتشقُّ العبادات على نفوس الصالحين، فإذا قاموا بها على أكمل وجه، كانت منزلتهم بمنزلة من هاجر من مكَّةَ إلى المدينة.
من أسباب عُلُوِّ منزلة العبادة في الفتنة: أن المفرِد بالطاعة من أهل المعاصي والغفلة قد يَدفَع البلاء عن الناس كلِّهم، فكأنه يحميهم ويدافع عنهم[10].
قال بعض السلف: ذاكرُ الله في الغافلين كَمَثل الذي يحمي الفئة المنهزِمة، ولولا مَن يذكر الله في غفلة الناس لهَلَك الناس. وقد قيل في تأويل
قوله تعالى:
{وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض}
[البقرة: 251]
إنه يَدخُل فيها دفعُه عن العصاة بأهل الطاعة[11].
جاء في الأثر: إن الله يدفع بالرجل الصالح عن أهله وولده وذُرِّيَّته ومَن حولَه[12].
قوله: «العبادة في الفتنة كالهجرة إليَّ»؛ أي: في احتدام الفتنة، واختلاط أمر الناس، فيُحمل أنه في آخر الزمان الذي أنذر به في الحديث بقوله: "ويَكثُر الهرْج"، ويُحتمَل أنه عمومًا في كلِّ وقت، وفُضِّل الانعزال حينئذ لعبادة الله[13].
في الحديث دليلٌ على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله - عزَّ وجلَّ - كما كان طائفةٌ من السلف يستحبُّون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة، ويقولون: هي ساعة غفلة؛ ولذلك فضِّل القيام في وسَط الليل المشمول بالغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر[14].
في إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائدُ؛ منها: أنه يكون أخفى، وإخفاءُ النوافل وإسرارها أفضلُ، لا سيَّما الصيامُ؛ فإنه سرٌّ بين العبد وربِّه؛ ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياءٌ[15]
العبادات والأعمال الصالحة لها أثر في طمأنينة القلب، وسكينة النفس.
وجوب توقِّي الفتن والبُعد عنها، وعدم السعي فيها.
العبادة: اسم يَجمَع كمال الحبِّ للّه ونهايتَه، وكمالَ الذُّلِّ للّه ونهايتَه؛ فالحبُّ الخَليُّ عن ذُلٍّ، والذُّلُّ الخليُّ عن حبٍّ، لا يكون عبادةً؛ وإنّما العبادة ما يَجمَع كمال الأمرين؛ ولهذا كانت العبادة لا تَصلُح إلّا للّه، وهي وإن كانت منفعتُها للعبد، واللّه غنيٌّ عن العالمين، فهي له من جهة محبَّته لها ورضاه بها[16].
العبادة حقُّ الله على عباده، ولا قدرةَ للعباد عليها بدون إعانة الله لهم؛ فلذلك كانت هذه الكلمة بين الله وبين عبده؛ لأن العبادة حقُّ الله على عبده، والإعانة من الله فضلٌ من الله على عبده[17].
العبادة: هي اسم جامع لكلِّ ما يحبُّه اللّه ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظّاهرة؛ فالصّلاةُ والزّكاة والصّيام والحجُّ، وصِدق الحديث وأداء الأمانة، وبرُّ الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود، والأمرُ بالمعروف والنّهيُ عن المنكَر، والجهادُ للكفّار والمنافقين، والإحسانُ إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السّبيل والمملوك من الآدميِّين والبهائم، والدّعاءُ والذِّكْرُ والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حبُّ اللّه ورسوله، وخشية اللّه والإنابة إليه، وإخلاص الدّين له، والصَّبْرُ لحُكمه، والشُّكر لنِعَمه، والرّضا بقضائه، والتّوكُّلُ عليه، والرّجاء لرحمته، والخوفُ لعذابه، وأمثالُ ذلك، هي من العبادة للّه[18].
إنّ العبادة للّه هي الغاية المحبوبة له والمرضيَّة له، الّتي خَلَق الخَلق لها؛ كما
قال تعالى:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﱠ
[الذاريات: ٥٦]
وبها أَرسَل جميع الرُّسل[19].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الهَرْجُ - وَهُوَ القَتْلُ القَتْلُ - حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ المَالُ فَيَفِيضَ»
[20].
القتلُ مِن أعظم الكبائر، خاصَّةً إذا كان ظُلمًا وعُدوانًا؛ قال تعالى:
مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفْسًۢا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍۢ فِى ٱلْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا
ٱلنَّاسَ جَمِيعًا} .
[المائدة: ٣٢].
لقد توعَّد الله سبحانه وتعالى القاتلَ بالغضب واللَّعْن، وهو الطَّرْد من رحمة الله، والعذاب الـمُقيم في نار جهنَّم يوم القيامة، إلَّا أن يتغمَّده اللهُ برحمةٍ منه؛ كما
قال تعالى:
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا
[النساء: 93].
عن الأحنف بن قَيس رضي الله عنه، عن النَّبيِّ ﷺ:
«إذا الْتَقى المسلِمانِ بسَيفَيهما فالقاتلُ والمقتولُ في النار»، فقلتُ: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بالُ المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قَتْل صاحبه»
[21].
القتلُ من السَّبْع الـموبِقات التي توجِب لصاحبها دخول النار، ومع قُرب يوم القيامة يَكثُر ويَنتشر.
لِخُطورةِ الفِتَنِ كان النَّبِيُّ ﷺ يُكثِر مِن الاستعاذةِ منها، ويأمر أصحابَه والمؤمنين أن يتعوَّذوا منها؛
فعن زَيد بن ثابت رضي الله عنه ، عن النبيِّ ﷺ أنه قال:
«تعوَّذوا بالله من الفِتَن، ما ظهَر منها وما بطَن»
[22].
34. إخبار النبيِّ ﷺ بالفتن والابتلاءات التي تقع في آخر الزمان؛ فيه توجيهٌ لأنْ يأخذَ المسلمُ حِذْرَه، ويُحصِّن نفْسه، ومَن هم تحتَ ولايته من شرِّ هذه الفتن ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
المراجع
- "فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناويِّ (4/ 373).
- رواه البخاريُّ (7062)، ومسلم (2672).
- "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (5/ 244).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/16).
- رواه البخاريُّ (6037)، ومسلم (157).
- " كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (2/ 42).\
- "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (7/ 309).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (18/ 88).
- "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف" لابن رجب (ص: 132).
- "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 132).
- "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 133).
- "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 133).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 509).
- "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 131).
- "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 131).
- "مجموع الفتاوى" (10/ 19).
- "فتح الباري" لابن رجب (7/ 103).
- "مجموع الفتاوى" (10/ 149، 150).
- "مجموع الفتاوى" (10/ 150).
- رواه البخاريُّ (1036)، ومسلم (157).
- رواه البخاريُّ (31)، ومسلم (2888).
- رواه مسلم (2867).
في الحديث توجيهٌ من النبيِّ ﷺ للمسلم إلى التّحلّي بالآداب والأخلاق الإسلاميَّة، التي تُوثِّق الأُلْفة والمودَّة بين المسلمين.
الحديث يقتضي حَصْرَ المسلم فيمن سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمرادُ بذلك المسلمُ الكامِلُ الإسلامِ.
من لم يَسلَم المسلمون من لسانه ويده، فإنه ينتفي عنه كمالُ الإسلام الواجبِ؛ فإن سلامة المسلمين من لسان العبد ويده واجبةٌ.
يُطلَق الإسلامُ على الأصول الخمسة التي بيَّنها النبيُّ ﷺ لجبريلَ حين سَأَله عن الإسلام، فقال: «أن تَشهَدَ أن لا إله إلا الله، وأن محمَّدًا رسولُ الله، وتُقِيمَ الصلاة، وتؤتيَ الزكاة، وتصومَ رمضانَ، وتَحُجَّ البيت».
يُطلَق الإسلامُ أيضًا على السلامة؛ يعني: أن يَسلَم الناسُ من شرِّ الإنسان، فيُقال: أَسلَم بمعنى: دَخَل في السِّلْم؛ أي: الْمُسالمة للناس، بحيث لا يؤذي الناسَ، ومنه هذا الحديث: «المسلِمُ مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده».
في الحديث أن المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه، فلا يَسُبُّهم، ولا يَلْعَنُهم، ولا يَغتابُهم، ولا يَنُمُّ بينهم، ولا يسعى بينهم بأيِّ نوع من أنواع الشرِّ والفساد.
كفُّ اللسان من أشدِّ ما يكون على الإنسان، وهو من الأمور التي تَصعُب على الْمَرْء. لذا؛
قال النبيُّ ﷺ لمعاذِ بنِ جبلٍ:
«أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمِلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟»، فَقُلْتُ لَهُ: بَلَى يَا رسول اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِ نفسه، فَقَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِه؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ - أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!»
[1].
المسلم من سَلِم المسلمون من يده، فلا يعتدي عليهم بالضَّرب، أو الجَرح، أو أخذ المال، أو ما أَشبَه ذلك، قد كفَّ يده لا يأخذ إلا ما يستحقُّه شرعًا، ولا يعتدي على أحد، فإذا اجتمع للإنسان سلامة الناس من يده ومن لسانه، فهذا هو الْمُسلم [2].
خصَّ النبيُّ ﷺ اللّسان واليد؛ لكثرة أخطائهما وأضرارهما؛ فإنَّ معظم الشُّرور تَصدُر عنهما؛ فاللّسانُ يَكذِب، ويغتاب، ويسبُّ، ويشهد بالزُّور، واليدُ تضرب، وتقتل، وتَسرِق، وهلمَّ جرًّا.
قدَّم ﷺ اللّسان على اليد؛ لأنَّ الإيذاء به أكثرُ وأسهل، وأشدُّ نكايةً، ويعمُّ الأحياء والأموات جميعًا.
المهاجرُ الممدوحُ هو الذي جمع إلى هِجران وَطَنه وعشيرته هِجْرانَ ما حرَّم الله تعالى عليه.
مجرَّد هجرة بلدِ الشِّرك مع الإصرار على المعاصي ليست بهجرة تامَّة كاملة؛ فالمهاجر بحقٍّ هو الّذي لم يقف عند الهجرة الظّاهرة، فترك دار الحرب إلى دار الأمن؛ بل هو من هجر كلَّ ما نهى الله عنه.
في الحديث توضيح وتوسيع لمعنى الهجرة الممدوحة في الشرع، يُعلِم المهاجرين أنه واجبٌ عليهم أن يلتزموا هَجْرَ ما نهى الله عنه، ولا يتَّكِلوا على الهجرة فقط، ويُعلِم من حَزِن على فوات الهجرة ولم يُدرِكْها أن المهاجر على الحقيقة من هَجَر ما نهى الله عنه.
أصل الهجرة: هِجْرانُ الشرِّ، ومباعدتُه؛ لطَلَب الخَير، ومحبَّته، والرغبة فيه.
في الحديث بيانُ أن المسلم الممدوح والمهاجِرَ مَن هذه صِفَتُه، لا أن الإسلام ينتفي عمَّن لم يكن بهذه الصفة.
في الحديث بيان أن أفضل المسلمين مَن جَمَع إلى أداء حقوق الله تعالى أداءَ حقوق المسلمين، والكفَّ عن أعراضهم.
المراجع
1. رواه أحمد (22665)، وابن ماجهْ (3973)، والترمذيُّ (2616)، وقال الترمذيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 512، 513).
في الحديث أن النبيَّ ﷺ كان يُعجبه الابتداءُ باليمين في شؤونه؛ كلُبس نَعْلِه، فيَلبَس اليُمنى قبل اليُسرى، وفي تسريح شَعرِه، فيَبدَأ بالشِّقِّ الأيمن من رأسه ولحيته، وفي الطُّهور: يَبدَأ باليد اليُمنى، والرِّجل اليُمنى في الوضوء، وبالشِّقِّ الأيمن في الغسل.
لَمَّا جُعِلت القوَّة في اليمين، خُصَّ باليمين الأفضلُ فالأفضل، فكان الرسول ﷺ يقدِّم أهل اليمين، ويخصُّ الجانب الأيمنَ؛ لفَضْلِه [1].
قولُها: "وفي شأنه كلِّه" عامٌّ مخصوص؛ فإن دخول الخلاء والخروج من المسجد، يُبدَأ فيهما باليَسار، وكذلك ما يُشابههما [2].
المراجع
- "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (4/ 363).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 91).
1. في الحديث "الحثُّ على برِّ الأقارب، وأنَّ الأمَّ أحقُّهم بذلك، ثمّ بعدها الأب، ثمّ الأقرب فالأقرب" [1].
2. برُّ الوالدينِ من أفضل الأعمال، ومِن أعظم أسباب دخول الجنة.
3. في الحديث تأكيد حقِّ الأمِّ وأمانة برِّها على برِّ الأب، "وسبب تقديم الأمِّ كثرةُ تَعَبها عليه، وشَفَقتها، وخِدمتها، ومعاناة المشاقِّ في حمله، ثمّ وضعه ثمّ إرضاعه ثمّ تربيته وخدمته وتمريضه، وغير ذلك" [2].
4. مقتضى الحديث أن يكون للأمِّ ثلاثة أمثال ما للأب من البِرِّ، وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى:
﴿وَوَصَّيْنَا ٱلْإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُۥ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍۢ وَفِصَٰلُهُۥ فِى عَامَيْنِ﴾
[لقمان: 14]
فسوَّى بينهما في الوصاية، وخصَّ الأمَّ بالأمور الثّلاثة: الحمل والوضع والإرضاع [3].
5. في الحديث تنزيل الناس منازلهم، وأن يوفَّى كلُّ أحد حقَّه على قدر قُرباه وحُرمته ورَحِمه [4].
6.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ:
سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلى اللَّهِ؟ قَالَ: «الصَّلاةُ عَلى وقْتِهَا»، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ»، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الجِهَادُ في سَبيل اللهِ»
[5].
وذلك لعِظَم منزلةِ وحقِّ الوالدينِ، وبِرُّ الوالدينِ يكون بالإحسان إليهما، والقيام بخِدمتهما، وتَرْك عُقوقهما.
7. حقُّ الوالدَين متعقِّب لحقِّ الله عزَّ وجلَّ؛
كما قال تعالى:
﴿أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوَٰلِدَيْكَ إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ﴾
[لقمان:14].
8.
عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:
«الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ، أَوِ احْفَظْهُ»
[6].
9.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:
«رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ»، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ»
[7].
10.
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال:
قال رسول الله ﷺ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ، وَأَنْ يُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»
[8].
11.
عن عائشة قَالَتْ:
سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: «زَوْجُهَا»، قُلْتُ: فَأَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الرَّجُلِ؟ قَالَ: «أُمُّهُ»
[9].
12.
عن عبدِالله بنِ عمرٍو – رضي الله عنهما – قال:
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الجِهَادِ، فَقَالَ: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ»
[10].
13.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ﷺ:
«لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا، إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا، فَيَشْتَرِيَهُ، فَيُعْتِقَهُ»
[11].
14.
عن أبي أُسَيْدٍ قال:
بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ بَعْدَ مَوْتِهِمَا أَبَرُّهُمَا بِهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، خِصَالٌ أَرْبَعَةٌ: الصَّلاَةُ عَلَيْهِمَا، وَالاِسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لا رَحِمَ لَكَ إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِمَا، فَهُوَ الَّذِي بَقِيَ عَلَيْكَ مِنْ بِرِّهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا»
[12].
المراجع
1. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 102، 103).
2. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 102، 103).
3. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 402).
4. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 5).
5. رواه البخاريُّ (527)، ومسلم (85).
6. رواه أحمد (28061)، وابن ماجه (3663)، والترمذيُّ (1900)، وقال: هذا حديث صحيح، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2486).
7. رواه مسلم (2551).
8. رواه أحمد (13434)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2488).
9. رواه النسائيُّ (9103)، والحاكم (7244) وصحَّحه.
10. رواه البخاريُّ (3004)، ومسلم (2549).
11. رواه مسلم (1510).
12. رواه أحمد (16156)، والبخاريُّ في "الأدب المفرد" (35)، وأبو داود (5142)، وابن ماجه (3664)، والحاكم (4/154)، وصحَّحه الحاكم ووافقه الذهبيُّ، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الترغيب والترهيب" (1482).
في هذا الحديث بيان صورة من صور فضل الله - عزَّ وجلَّ - على عباده، حيث يبيِّن أنه ما يُصيب المسلمَ من ابتلاءٍ، أيًّا كانت صورتُه، فإن الله تعالى يكفِّر به من سيِّئاته.
في الحديث بيان أن ما يُصيب المسلمَ من الأوجاع - مهما قلَّت - يكون سببًا في غفران ذنوبه ومَحْوِها، وهذا من تطهير الله تعالى للمؤمن بما يَبتَليه به من أمور الدنيا؛ حتى يُنقِّيَه من ذنوبه، فيلقى الله خاليًا منها، فيُنعِم عليه من فضله.
المرادُ بتكفير الذنب: سَتْرُه، ومحوُ أثره المترتِّب عليه من استحقاق العقوبة[1].
في الحديث إشارةٌ إلى أن الأمراض ونحوَها تَرفَع الدرجاتِ، كما تَحُطُّ الخطيئاتِ، فتجمع بين الاثنين.
في الحديث إشارةٌ إلى أنّ السّالك إن عَجَز عن مرتبة الرّضا، وهي التّلذُّذ بحلاوة البلاء، أن لا يفوته تجرُّع مرارة الصّبر في حبِّ الْمَولى؛ فإنّه وَرَد: الْمُصاب من حُرِم الثّواب[2].
قيل: إن الهمَّ يَنشَأ عن الفِكر فيما يُتوقَّع حصوله مما يُتَأذَّى به، والحَزَنُ يَحدُث لفَقْدِ ما يشقُّ على المرء فَقْدُه، والغمُّ كَرْبٌ يَحدُث للقلب بسبب ما حصل[3]
«حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشاكها»؛ أي: يُصاب بها، وحقيقةُ قوله: (يُشاكها) أن يُدخِلها غيرُه في جَسَده[4].
الأذى كُلُّ ما لا يلائِم النفسَ؛ فهو أَعَمُّ من الكُلِّ، والظاهر أنه مُخْتَصٌّ بما يتأذَّى الإنسان من غيره كما أشار إليه
قوله تعالى:
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ
[آل عمران: 186] [5].
الغَمُّ هو الحُزْن الّذي يَغُمُّ الرّجل؛ أي: يُصيِّره بحيث يَقرُب أن يُغمى عليه، فالهمُّ والحَزَن ما يُصيب القلبَ من الألم بفَوْت محبوب، إلّا أنّ الغمَّ أَشَدُّها، والحَزَن أسهلُها[6].
روى التّرمذيُّ أنّ وكيعًا قال: لم يُسمَع في الهمِّ أن يكون كفَّارةً إلّا في هذا الحديث[7].
«إِلَّا يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ»: ظاهره تعميم جميع السَّيِّئَاتِ؛ لكن الجمهور خَصُّوا ذلك بالصغائر؛ لحديث: «الصلواتُ الخمسُ، والجُمُعة إلى الجُمُعة، ورمضان إلى رمضان، كفَّاراتٌ لما بينهن ما اجتُنبت الكبائر»[8]، فحملوا الْمُطلَقاتِ الواردةَ في التفكير على هذا الْمُقَيَّد[9]
المراجع
- "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقيِّ (3/ 238).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (3/ 1128).
- شرح القسطلانيِّ على صحيح البخاريِّ (8/ 340).
- "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (8/ 341).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (3/ 1128).
- مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (3/ 1128).
- مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (3/ 1128).
- رواه مسلم (233).
- "تحفة الأحوذي" للمباركفوري (4/ 35).
في الحديث يقرِّر النبيُّ ﷺ سنَّة من سنن الله في خلقه، وهي أن كلَّ بني آدمَ يَقَعون في الذنوب والمعاصي، فإذا ما وقعوا فيها، فباب التوبة مفتوح، فليبادروا بها.
أَودَع الله في كل إنسان القُدرة على فعل الخير والشرِّ؛
قال تعالى
﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾
[البلد: 10]
أي: دَلَلْناه على طريق الخير وطريق الشرِّ، وتَركْنا له حرية الاختيار بينهما، و
قال تعالى
﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا 7 فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾
[الشمس: 7-8]
؛ أي: بيَّن لها الخير والشرَّ، وهداها لما قُدِّر لها، ثم أرسل الرُّسل، وأنزل الكتب؛ حتى يستقيم الإنسان على عبادته، فيَحُوز خيرَيِ الدنيا والآخرة.
إن الإنسان وهو سائر في طريقه إلى الله، معرَّض للوقوع في الذنوب والمعاصي والأخطاء؛ إذ النقصُ من جملة صفاته؛
قال تعالى:
﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾
[النساء: 28].
في الحديث توجيه وإرشاد إلى أنه إذا كان الإنسان بطبعه كثيرَ المعاصي، فإن ذلك ليس مبرِّرًا له في الاسترسال في الذنوب والمعاصي، فهو مأمورٌ بتصحيح ذنبه؛ فطريق الخلاص والتوبة من المعاصي: «وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»؛ أي: والخيرية والأفضلية إنما تكون للرّجَّاعين والتائبين والمستغفرين، إلى الله بالتوبة من المعصية إلى الطاعة.
إن أُرِيد بلفظ الكلِّ الكلُّ من حيث هو كلٌّ، كان تغليبًا؛ لأن فيهم الأنبياءَ، وليسوا مبالِغين في الخطأ؛ ففيه تعميم جميع بني آدم، حتى الأنبياء؛ لكنهم خُصُّوا منه لكونهم معصومين[1]
«وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»؛ أي: الرّجَّاعون إلى اللّه بالتّوبة من المعصية إلى الطّاعة، أو بالإنابة من الغَفلة إلى الذِّكر، أو بالأَوْبة من الغَيْبة إلى الحُضور[2]
«وخير الخطَّائين التوَّابون» يعني أن العبد لا بدَّ أن يجريَ عليه ما سَبَق به القَدَرُ؛ فكأنه قال: لا بدَّ لك من فعل الذنوب والخطايا؛ لأن ذلك مكتوبٌ عليك، فأحدِثْ توبةً؛ فإنه لا يؤتى العبد من فعل المعصية وإن عَظُمت؛ وإنما يُؤتى من ترك التوبة وتأخيرها؛ فإن الله غفور يحبُّ التوَّابين[3].
قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾
[آل عمران: 135].
أثنى على المستغفِرين، وفي ضِمْنِ ثنائه بالاستغفار لوَّح بالأمر به، كما قيل: إن كلَّ شيء أَثنى اللهُ على فاعله، فهو آمِرٌ به، وكلَّ شيء ذَمَّ فاعلَه، فهو ناهٍ عنه[4].
على المسلم إذا ما أَذنَب أن يُسارع إلى التوبة، ولا يَيْئَس من رحمة الله عزَّ وجلَّ، فاليأس من رحمة الله صفة من صفات الكافرين وأهل الضلال؛
قال تعالى:
﴿إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون﴾
[يوسف: 87]،
وقال تعالى:
﴿قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾
[الحجر: 56].
مهما كانت الذنوبُ، فإن الله يغفرها جميعًا، ويتوب على أصحابها إذا تابوا؛
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ:
«أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ»
[5]
إن العبد الصالح كلَّما قارَف ذنبًا، عاد مسرِعًا تائبًا من ذنبه، منيبًا إلى ربِّه، لا يُصِرُّ على الذنوب، وذلك معنى
قوله تعالى:
﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾
إذا تاب المذنبون، وأنابوا إلى ربهم، قَبِل توبتهم، وفتح لهم أبواب رحمته؛
قال تعالى:
﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾
[الشورى: 25]
الصغيرة تَكبُر بأسباب، منها: الإصرارُ، والمواظبة؛ ولذلك قيل: لا صغيرةَ مع إصرار، ولا كبيرةَ مع استغفار، فكبيرةٌ واحدة تَنقطع ولا يَتبَعها مثلُها، كان العفوُ عنها أرجى من صغيرة يواظِب العبد عليها، ومثال ذلك: قَطَرات من الماء تقع على الحَجَر على تَوَالٍ فتؤثِّر فيه، وذلك القدرُ من الماء لو صُبَّ عليه دَفْعةً واحدة لم يؤثِّر[6]
حذَّر النبيُّ ﷺ من المداوَمَة على فعل الصغائر؛ لأن فيها هلاكًا للعبد؛
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:
«إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ»
[7]
حذَّر النبيُّ ﷺ الْمُصِرِّين على الصغائر بالوَيْلِ والعذاب الشديد؛
فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو بْنِ الْعَاص رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ:
«وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ»
[8]
إن باب التوبة مفتوح لا يُغلِقه الله تعالى في وجوه عباده ما لم تَبلُغ الرُّوح الحُلْقوم؛
فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:
«إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ»
[9]
فالله عزَّ وجلَّ يَقبَل توبة عبده ما لم يَحضُره الموت، أو تَطلُع الشمس من مغربها؛
قال تعالى:
﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ﴾
[النساء: 18].
إن الله يَفرَح بتوبة عبده، أكثرَ من فرح رجل وجد طعامه وشرابه في الصحراء بعدما فَقَدهما، وأَشرَف على الهلاك؛
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن مَسْعُود قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ:
«للَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلِكَةٍ، مَعَهُ رَاحِلَتُهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ، فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، ثُمَّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ»
[10]
كان النبيُّ ﷺ يستغفر في اليوم أكثرَ من سبعين مرَّةً؛
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قال:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً».
[11]
للتوبة شروطٌ لابدَّ منها حتى تُقبَل، هي: إخلاص النية لله تعالى، والإقلاع عن المعصية، والندم على ارتكابها، والعَزْمُ على عدم العودة إلى المعصية، وإرجاع الحقوق إلى أصحابها، إذا كان الذنب متعلِّقًا بحقٍّ من حقوق العباد، وأن تكون في الوقت المخصَّص لقَبولها؛ أي: قبل طلوع الشمس من مغربها، وقبل لحظة الموت.
من فضائل التوبة: أنها سببٌ لنَيل محبَّة الله تعالى؛
قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾
[البقرة: 222].
من فضائل التوبة: أنها سببٌ لنور القلب ومحوِ أثر الذنب؛
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:
«إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً، نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ، سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ
﴿كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾
[المطففين: 14]»[12]
من فضائل التوبة: أنها سببٌ لتكفير السيِّئات، وغفران الذنوب؛
قال تعالى:
﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾
[الفرقان: 70].
من فضائل التوبة: أنها سببٌ لدخول الجنة، والنجاة من النار؛
قال تعالى:
﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا﴾
[مريم: 60].
من فضائل التوبة: أنها سببٌ لنزول الغَيث، وزيادة القوَّة؛
قال تعالى:
﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ﴾
[هود: 52].
من فضائل التوبة: أنها سببٌ للتوفيق والفلاح؛
قال تعالى:
﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
[النور: 31].
الاستغفار يكون على وجهين؛ الأول: طلب المغفرة باللفظ بأن يقول: اللهم اغفر لي، أو أستغفر الله. والثاني: طلب المغفرة بالأعمال الصالحة التي تكون سببًا لذلك؛
كقوله ﷺ:
«مَنْ قَالَ: سُبحَانَ اَلله وَبِحَمْدِهِ في اليَوم مائَةَ مَرةٍ، غُفِرَت خَطَايَاه وَإِنْ كَانَت مِثْلَ زَبَدِ البَحْر»
[13]
إن الله تعالى يغفر الذنوب جميعًا، وهذا لمن استغفر، أما من لم يستغفر، فإن الصغائر تكون مكفَّرةً بالأعمال الصالحة؛
لقول النبيِّ ﷺ:
«الصلَواتُ الخَمسُ، وَالجُمُعَة إِلى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَينَهُنَّ مَا اجتَنَبَ الكَبَائِرَ»
[14]
وأما الكبائر، فلابدَّ لها من توبة خاصَّة، فلا تكفِّرها الأعمال الصالحة، أما الكفر، فلابدَّ له من توبة بالإجماع [15].
قال تعالى:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾[الذاريات:56-58].
الذنوب على ثلاثة أقسام: قسم لابدَّ فيه من توبة بالإجماع، وهو الكفر، والثاني: ما تكفِّره الأعمال الصالحة، وهو الصغائر، والثالث: ما لابدَّ له من توبة، على خلاف في ذلك؛ لكن الجمهور يقولون: إن الكبائر لابدَّ لها من توبة[16].
اللهُ سبحانه لا تنفعُه طاعةُ المطيعين، ولا تضرُّه معصيةُ العاصين، مع كمال غناه عن خَلقه، فلم يخلقهم ليتقوَّى بهم من ضعف، ولا يتكثَّر بهم من قلَّة؛ بل خَلَقَهم ليعبدوه؛
إن الإنسان لا يخلو من ذنب وتقصير، ولو كان صدِّيقًا.
أفضل الاستغفار أن يبدأ العبد بالثناء على ربه، ثم يُثَنِّي بالاعتراف بالنِّعَم، ثم يُقرُّ لربِّه بذنبه وتقصيره، ثم يسأل بعد ذلك ربَّه المغفرة.
تجب التوبة على المسلم إذا أذنب.
النقص سمة من سمات الخلق، والكمال لله وحده.
الحديث إخبار عن الواقع، وليس أمرًا بالمعاصي.
المراجع
- الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (6/ 1847).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (4/ 1622).
- فيض القدير" للمناويِّ (5/ 16).
- فتح الباري" لابن حجر (2/ 320).
- رواه البخاريُّ (7507)، ومسلم (2758).
- "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزاليِّ (4/ 32).
- رواه أحمدُ (22808)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.
- رواه أحمدُ (6541)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الأدب المفرد" (ص: 151).
- رواه أحمد (6160)، والترمذيُّ (3537)، وابن ماجه (4253) وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3143).
- رواه البخاريُّ (6308)، ومسلم (2744).
- رواه البخاريُّ (6307).
- رواه الترمذيُّ (3334)، وابن ماجه (4244)، وقال الترمذيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
- رواه مسلم (2691).
- رواه مسلم (233).
- شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 248).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 249).
في هذا الحديث بَيانٌ لهَدْيِ النبيِّ ﷺ في صلاة الاستخارة في كُلِّ الأُمور، وأهميتِها، وعنايتِه بها، وتعليمها للصحابة الكرام، وتحفيظهم دعاءها كما يعلِّمهم القرآن.
في الحديث بيان أنه ينبغي للعبد أن لا يَقصِد شيئًا من دقيق الأمور وجَلِيلها، حتى يستخيرَ اللهَ فيه، ويَسألَه أن يَحمِلَه فيه على الخير، ويَصرِف عنه الشرَّ؛ إذعانًا بالافتقار إليه في كلِّ أمر، والتزامًا بذِلَّة العبودية له، واتِّباعًا لسُنَّة نبيِّه ﷺ في الاستخارة.
الاستخارة هي مع الله تعالى، يستخير الإنسان ربَّه إذا همَّ بأمر وهو لا يدري عاقبتَه، ولا يدري مستقبَلَه، فعليه بالاستخارة، والاستخارةُ معناها طلب خَيْرِ الأمرينِ.
المقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه؛ فمن سعادة العبد أن يجمع بينهما[1]؛ "لأنّه إذا قدَّر له الخير ولم يرضَ به، كان منكَّدَ العيش، آثمًا بعدم رضاه بما قدَّره اللّه له، مع كونه خيرًا له"[2].
كان النبيُّ ﷺ يعلِّم الصحابة دعاءَ الاستخارة كما يعلِّمهم السورة من القرآن؛ لشدَّة حاجتهم إلى الاستخارة في الحالات كلِّها؛ كشِدَّة حاجتهم إلى القراءة في كلِّ الصَّلَوات.
الاستخارة تكون مع الله، والمشاورة مع أهل الرأيِ والصلاح، وذلك أن الإنسان عنده قصور أو تقصير، والإنسان خُلِق ضعيفًا، فقد تُشكِل عليه الأمور، وقد يتردَّد فيها؛ فأمامه طريقان؛ الطريق الأول: استخارة ربِّه الذي يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون. والطريق الثاني: استشارة أهل الرأي والصلاح والأمانة[3].
ينبغي أن يفعل المرء بعد الاستخارة ما يَنشرِح له صدرُه، ولا ينبغي أن يعتمد على انشراحٍ كان له فيه هوًى قبل الاستخارة؛ بل ينبغي للمستخير تركُ اختياره رأسًا، وإلَّا فلا يكون مستخيرًا للّه؛ بل يكون مستخيرًا لهواه، وقد يكون غيرَ صادق في طلب الخِيَرة وفي التّبرِّي من العِلم والقُدرة، وإثباتهما للّه تعالى، فإذا صَدَق في ذلك، تَبرَّأ من الحَول والقوَّة، ومن اختياره لنفسه[4].
علامة الخِيَرة بعد الاستخارة انشراحُ الصدر، وتَيسُّرُ الأمر، وعلامةُ انتفاء الخِيَرة عَدَمُ انشراح الصدر، وتعسُّرُ الأمر، فإن لم يظهر شيءٌ من تلك العلامات، فعلى العبد أن يستفتح ربَّه بتَكرار الاستخارة والاستشارة، فإن لم يظهر له شيء بعد هذا التَّكرار، فليفعل ما يراه، بعد استشارة أهل الصلاح؛ فتلك هي الخِيَرة.
المراجع
- "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 28).
- "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (3/ 89).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 159).
- "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (3/ 89، 90).
هذا الحديث من أصول العقيدة وقواعد الإسلام.
حلاوة الإيمان هي: "استلذاذ الطاعات، وتحمُّل المشاقِّ في رِضا الله - عزَّ وجلَّ - ورسوله ﷺ، وإيثار ذلك على عرَضِ الدنيا"[1].
إن الإيمان معنويٌّ؛ ولكن له طعم يفوق كلَّ الطُّعوم الحِسِّية، وله مَذاقٌ يسمو على كلِّ مذاق حسيٍّ.
الرضا بالله وبالإسلام وبالرسول: رِضًا عامٌّ، ورضًا خاصٌّ، والرضا العامُّ هو ألّا يَتَّخِذَ غيرَ الله ربًّا، ولا غيرَ دين الإسلام دينًا، ولا غيرَ محمَّد ﷺ رسولًا، وهذا الرضا لا يخلو عنه مسلم؛ إذ لا يَصِحُّ التديُّنُ بدين الإسلام إلا بذلك الرضا، والرضا الخاصُّ: هو الذي تكلَّم فيه أربابُ القلوب، وهو ينقسم على قسمَيْن: رضًا بهذه الأمور، ورضًا عن مُجْرِيها تعالى[2].
- الرضا قسمان: رضًا به، ورضًا عنه؛ فالرضا به مدبِّرًا، والرضا عنه فيما قضى، وهو سكونُ القلب إلى أحكامِ الرَّبّ، وموافقتُهُ على ما رَضِيَ واختار [3].
يذوق المؤمن حلاوة الإيمان بأن يرضى بالله ربًّا، يرضى به مدبِّرًا وخالقًا، ومعطيًا ومانعًا، ومُبْتليًا ومعافيًا، وبكلِّ صفات الربوبية، ويرضى به آمرًا وناهيًا، ومشرِّعًا ومعبودًا بحقٍّ وحدَه سبحانه دون سواه، يرضى به وعنه في كلِّ ما قضى وقدَّر، حتى إنه يقف مع مُرَادِ اللَّه، لا مع مُرَادِ نفسه.
الرضا بالإسلام دينًا؛ فإن الدين عند الله الإسلام، يستسلم المؤمن لله، ويرفع راية الإسلام، ويدافع عنه، ويبلِّغ رسالته، يعيش له وبه، يوالي ويعادي عليه.
شعار المؤمن أن يرضى بالإسلام دينًا
قال تعالى:
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 162 لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ
[الأنعام: ١٦٢ – ١٦٣].
9. الرضا بالحبيب ﷺ هو رضا المحبِّين المتَّبِعين، المهتدين بهَدْيِه، المقتدِين به، الممتثلين لطاعته، الباذلين النفسَ والنفيس في الدفاع عن سنَّته، المتشوِّقين للقائه.
10. هذه الدنيا التي يشقى بها الخلق، تصير جنَّةً للمؤمن بالرضا؛ فكما قيل: "الرِّضَا جنَّةُ الدنيا ومستراح العارفين"، فيلتذُّ المؤمن بحلاوة الإيمان والرضا، طيِّبَ النفس، مطمئنَّ القلب لكل ما يقدِّره الله تعالى.
المراجع
- "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنَّوويِّ (2/ 13).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/128).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/128).