عن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ»
عن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ»
الفتن بلاءٌ عظيم يَبتلي الله به هذه الأمَّة، وقد أخبرَنا النبيُّ بحدوثها قبلَ وقوعها، وهذا من دلائل نبوَّته، ومعجزة ظاهرة له، وَقَعت كما أخبر بها.
في الحديث توجيه وإرشاد لِمَا ينبغي على المسلم عَمَلُه حين حدوث الفتن؛ حتى يَسلَم من شرِّها بإذن الله، وهو الاستعانة بالعبادة في مواجهة هذه الفتن، وأن ثوابها وقتَ الفِتَن يَعدِل ثواب الهجرة إليه.
في الحديث أن أداء العبادات، والطاعات، والمحافظة عليها، في زمن كَثُرت فيه الفتن، واختلطت فيه الأمور، وكَثُر القتل بين الناس، واستَعَرَتْ فيه الشَّهَوات، وعمَّ فيه الفساد، تُعَدُّ هجرةً خالصة إلى الله تعالى ورسوله.
في الحديث إشارة إلى فضيلة التفرُّد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكر له.
في الحديث وجهُ تمثيله بالهجرة أن الزمن الأوَّل كان الناس يَفِرُّون فيه من دار الكفر وأهله، إلى دار الإيمان وأهله، فإذا وقعت الفتن، تعيَّن على المرء أن يَفِرَّ بدينه من الفتنة إلى العبادة، ويَهجُر أولئك القوم، وتلك الحالة، وهو أحدُ أقسام الهجرة[1].
من علامات قُرب الساعة زيادةُ الفتن وشُيوعها وظهورها؛
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا، يَنْزِلُ فِيهَا الجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا العِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الهَرْجُ»
[2].
الهجرة هجرتان: إحداهما: التي وَعَد اللهُ عليها الجنَّة في قوله:
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
[التوبة: 111]
فكان الرجل يأتي النبيَّ ﷺ ويَدَع أهلَه ومالَه، لا يرجع في شيء منه، وينقطع بنفسه إلى مُهاجَره، فلمَّا فُتحت مكَّةَ صارت دار إسلام كالمدينة، وانقطعت الهجرة. والهجرة الثانية: مَن هاجر من الأعراب وغزا مع المسلمين، ولم يفعل كما فعل أصحاب الهجرة الأولى، فهو مهاجِر[3].
وقعت الهجرة في الإسلام على وجهين؛ الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن؛ كما في هجرتَيِ الحبشة وابتداء الهجرة من مكَّةَ إلى المدينة، والثاني: الهجرةُ من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقرَّ النبيُّ ﷺ بالمدينة وهاجر إليه مَن أَمكَنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة إذ ذاك تختصُّ بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فُتحت مكةُ، فانقطع الاختصاص، وبقيَ عموم الانتقال من دار الكفر لمن قَدَر عليه باقيًا[4].
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ العَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الهَرْجُ»، قَالُوا: وَمَا الهَرْجُ؟ قَالَ: «القَتْلُ القَتْلُ»
[5]
أمَر الله تعالى المؤمنين بالصبر والصلاة عند مواجهة الْمُلِمَّات والشدائد والفتن؛
فقال تعالى:
واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين
[البقرة: 45].
من أسباب عُلُوِّ منزلة العبادة في الفتنة: إذا عَمَّت الفتن اشتغلت القلوب، وإذا تعبَّد حينئذٍ متعبِّدٌ، دلَّ على قُوَّة اشتغال قلبه بالله - عزَّ وَجلَّ - فيَكْثُر أجره[6]
من أسباب عُلُوِّ منزلة العبادة في الفتنة: أن المتمسِّك بالعبادة في ذلك الوقت، والمنقطِع إليها المعتزِل عن الناس، أجرُه كأجر المهاجِر إلى النبيِّ ﷺ؛ لأنَّه يناسبه من حيث إن المهاجر قد فرَّ بدينه عمَّن يَصُدُّه عنه إلى الاعتصام بالنبيِّ ﷺ، وكذلك هذا المنقطِع للعبادة فرَّ من الناس بدينه إلى الاعتصام بعبادة ربِّه، فهو على التحقيق قد هاجر إلى ربِّه، وفرَّ من جميع خلقِه[7].
من أسباب عُلُوِّ منزلة العبادة في الفتنة: أن الناس يَغْفُلون عنها ويَشْتَغلون عنها، ولا يتفرَّغ لها إلا أفراد[8].
من أسباب عُلُوِّ منزلة العبادة في الفتنة: أن الناس في زمن الفتن يتَّبِعون أهواءهم، ولا يرجعون إلى دين، فيكون حالهم شبيهًا بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم مَن يتمسَّك بدينِه ويَعبُد ربَّه، ويتَّبِع مَرَاضيَه، ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة مَن هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله ﷺ مؤمنًا به، متَّبِعًا لأوامره، مجتنبًا لنواهيه[9]
من أسباب عُلُوِّ منزلة العبادة في الفتنة: أن العبادة في وقت غفلة الناس شاقَّة وشديدة على النفوس؛ لأن النفوس تقتدي بما تشاهده، والناس كأسراب القَطَا يتْبَع بعضهم بعضًا، فإذا كَثُرت الغفلة تأسَّى بهم عموم الناس، فتشقُّ العبادات على نفوس الصالحين، فإذا قاموا بها على أكمل وجه، كانت منزلتهم بمنزلة من هاجر من مكَّةَ إلى المدينة.
من أسباب عُلُوِّ منزلة العبادة في الفتنة: أن المفرِد بالطاعة من أهل المعاصي والغفلة قد يَدفَع البلاء عن الناس كلِّهم، فكأنه يحميهم ويدافع عنهم[10].
قال بعض السلف: ذاكرُ الله في الغافلين كَمَثل الذي يحمي الفئة المنهزِمة، ولولا مَن يذكر الله في غفلة الناس لهَلَك الناس. وقد قيل في تأويل
قوله تعالى:
{وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض}
[البقرة: 251]
إنه يَدخُل فيها دفعُه عن العصاة بأهل الطاعة[11].
جاء في الأثر: إن الله يدفع بالرجل الصالح عن أهله وولده وذُرِّيَّته ومَن حولَه[12].
قوله: «العبادة في الفتنة كالهجرة إليَّ»؛ أي: في احتدام الفتنة، واختلاط أمر الناس، فيُحمل أنه في آخر الزمان الذي أنذر به في الحديث بقوله: "ويَكثُر الهرْج"، ويُحتمَل أنه عمومًا في كلِّ وقت، وفُضِّل الانعزال حينئذ لعبادة الله[13].
في الحديث دليلٌ على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله - عزَّ وجلَّ - كما كان طائفةٌ من السلف يستحبُّون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة، ويقولون: هي ساعة غفلة؛ ولذلك فضِّل القيام في وسَط الليل المشمول بالغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر[14].
في إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائدُ؛ منها: أنه يكون أخفى، وإخفاءُ النوافل وإسرارها أفضلُ، لا سيَّما الصيامُ؛ فإنه سرٌّ بين العبد وربِّه؛ ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياءٌ[15]
العبادات والأعمال الصالحة لها أثر في طمأنينة القلب، وسكينة النفس.
وجوب توقِّي الفتن والبُعد عنها، وعدم السعي فيها.
العبادة: اسم يَجمَع كمال الحبِّ للّه ونهايتَه، وكمالَ الذُّلِّ للّه ونهايتَه؛ فالحبُّ الخَليُّ عن ذُلٍّ، والذُّلُّ الخليُّ عن حبٍّ، لا يكون عبادةً؛ وإنّما العبادة ما يَجمَع كمال الأمرين؛ ولهذا كانت العبادة لا تَصلُح إلّا للّه، وهي وإن كانت منفعتُها للعبد، واللّه غنيٌّ عن العالمين، فهي له من جهة محبَّته لها ورضاه بها[16].
العبادة حقُّ الله على عباده، ولا قدرةَ للعباد عليها بدون إعانة الله لهم؛ فلذلك كانت هذه الكلمة بين الله وبين عبده؛ لأن العبادة حقُّ الله على عبده، والإعانة من الله فضلٌ من الله على عبده[17].
العبادة: هي اسم جامع لكلِّ ما يحبُّه اللّه ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظّاهرة؛ فالصّلاةُ والزّكاة والصّيام والحجُّ، وصِدق الحديث وأداء الأمانة، وبرُّ الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود، والأمرُ بالمعروف والنّهيُ عن المنكَر، والجهادُ للكفّار والمنافقين، والإحسانُ إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السّبيل والمملوك من الآدميِّين والبهائم، والدّعاءُ والذِّكْرُ والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حبُّ اللّه ورسوله، وخشية اللّه والإنابة إليه، وإخلاص الدّين له، والصَّبْرُ لحُكمه، والشُّكر لنِعَمه، والرّضا بقضائه، والتّوكُّلُ عليه، والرّجاء لرحمته، والخوفُ لعذابه، وأمثالُ ذلك، هي من العبادة للّه[18].
إنّ العبادة للّه هي الغاية المحبوبة له والمرضيَّة له، الّتي خَلَق الخَلق لها؛ كما
قال تعالى:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﱠ
[الذاريات: ٥٦]
وبها أَرسَل جميع الرُّسل[19].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الهَرْجُ - وَهُوَ القَتْلُ القَتْلُ - حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ المَالُ فَيَفِيضَ»
[20].
القتلُ مِن أعظم الكبائر، خاصَّةً إذا كان ظُلمًا وعُدوانًا؛ قال تعالى:
مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفْسًۢا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍۢ فِى ٱلْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا
ٱلنَّاسَ جَمِيعًا} .
[المائدة: ٣٢].
لقد توعَّد الله سبحانه وتعالى القاتلَ بالغضب واللَّعْن، وهو الطَّرْد من رحمة الله، والعذاب الـمُقيم في نار جهنَّم يوم القيامة، إلَّا أن يتغمَّده اللهُ برحمةٍ منه؛ كما
قال تعالى:
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا
[النساء: 93].
عن الأحنف بن قَيس رضي الله عنه، عن النَّبيِّ ﷺ:
«إذا الْتَقى المسلِمانِ بسَيفَيهما فالقاتلُ والمقتولُ في النار»، فقلتُ: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بالُ المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قَتْل صاحبه»
[21].
القتلُ من السَّبْع الـموبِقات التي توجِب لصاحبها دخول النار، ومع قُرب يوم القيامة يَكثُر ويَنتشر.
لِخُطورةِ الفِتَنِ كان النَّبِيُّ ﷺ يُكثِر مِن الاستعاذةِ منها، ويأمر أصحابَه والمؤمنين أن يتعوَّذوا منها؛
فعن زَيد بن ثابت رضي الله عنه ، عن النبيِّ ﷺ أنه قال:
«تعوَّذوا بالله من الفِتَن، ما ظهَر منها وما بطَن»
[22].
34. إخبار النبيِّ ﷺ بالفتن والابتلاءات التي تقع في آخر الزمان؛ فيه توجيهٌ لأنْ يأخذَ المسلمُ حِذْرَه، ويُحصِّن نفْسه، ومَن هم تحتَ ولايته من شرِّ هذه الفتن ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
35. الْهَرْج: الفتنة في آخر الزمان، وقيل: القتال والاختلاط فيه، وأصلُ الهَرْج الكثرة في الشيء، وجَمَع بعض العلماء تسعةَ معانٍ للهَرْج، وهي: شدَّةُ القتل، وكثرةُ القتل، والاختلاط، والفتنة في آخر الزمان، وكثرة النِّكاح، وكثرة الكَذِب، وكثرة النَّوْمِ، وما يُرى في النوم غيرَ مُنْضبِط، وعدم الإتقان للشيء [1].
36. الْهِجْرَة: الاسم من الْهَجْر، ضدُّ الوصل، ثم غَلَب على الخروج من أرض إلى أرض، وترك الأولى للثانية [2]