الفوائد العلمية
حديث جبريلَ في مراتب الدين، علومُ الشريعة كلُّها راجعة إليه، ومتشعِّبة منه؛ فهو حديث عظيم القدر، كبير الشأن، جامعٌ لأبواب الدِّين كلِّها، بأيسر أسلوب، وأوضح عبارة، حيث إنه يتضمَّن أركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستة، وأركان الإخلاص لله وحده لا شريك له، والساعة وأشراطها.
تناول هذا الحديث الشريف مراتب الدين الثلاث: الإسلامَ والإيمان والإحسان، وإن بينها ارتباطًا وثيقًا؛ إذ إن دائرةَ الإسلام أوسعُ هذه الدوائر، تليها دائرة الإيمان، فالإحسان، ومن ثمَّ فإن كلَّ محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم.
الإيمان أخصُّ وأضيق دائرةً من الإسلام، وقد ردَّ الله تعالى في كتابه الكريم على الأعراب الذين ادَّعَوْا لأنفسهم مقام الإيمان، وهو لم يتمكَّن في قلوبهم بعدُ
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
جبريلُ – عليه السلام - أحد الملائكة العِظام؛ بل هو أفضل الملائكة؛ لشَرَف عمله؛ لأنه يقوم بحمل الوحيِ من الله تعالى إلى الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وقد رآه النبيُّ ﷺ على صورته التي خُلِق عليها مرَّتين.
رأى النبيُّ ﷺ جبريل على هيئته الحقيقية مرتين؛ الأولى: وهو في غار حِراء، رآه وله ستُّمِائةِ جَناح، قد سدَّ الأُفُق أمام الرسول ﷺ فلا يرى السماءَ
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ(5)ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ(6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ(7)ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ(8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ
دنا جبريلُ من فوقُ فتدلَّى؛ أي: قَرُب إلى محمدٍ ﷺ فأوحى إلى عبده - الرسول ﷺ - ما أوحاه من وحيِ الله الذي حمَّله إيَّاه. والثانية: عند سِدْرة المنتهى
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَىٰ
جعل الله تعالى للملائكة قُدرةً على أن يتشكَّلوا بغير أشكالهم الأصلية، فها هو جبريل قد جاء في صورة ذلك الرجل.
في الحديث تفسير الإسلام بأعمال الجوارح الظّاهرة من القول والعمل؛ فشهادةُ أن لا إله إلَّا اللَّه، وأنَّ محمَّدًا رسول اللَّه، عمل اللِّسان، والصَّلاة والصَّوم عمل بدنيٌّ، وإيتاء الزَّكاة عمل ماليٌّ، والحجُّ مركَّب من العمل البدنيِّ والماليِّ.
ممّا يدلُّ على أنَّ جميع الأعمال الظَّاهرة تدخل في مسمَّى الإسلام: قولُ النّبيِّ ﷺ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»[1]، وفي الصّحيحين عن عبد اللّه بن عمرو أنَّ رجلًا سأل النّبيَّ ﷺ: أيُّ الإسلام خير؟ قال: «أن تُطعِم الطَّعامَ، وتَقرأَ السَّلام على من عرفتَ ومن لم تعرف»، وكذلك ترك المحرَّمات داخلٌ في مسمَّى الإسلام أيضًا[2].
الإحْسَان في الحديث هو إحسان في عبادة الخالق، بأن يعبد الله كأنَّه يراه، فإن لم يكن يراه فإنَّ الله يراه، وهو الجِدُّ في القيام بحقوق الله على وجه النُّصح، والتَّكميل لها. وهناك نوع آخر من الإحسان، وهو الإحسان في حقوق الخَلْق، وهو بذل جميع المنافع مِن أيِّ نوعٍ كان، لأيِّ مخلوق يكون[3].
عن عبد الله بنِ عمرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:
«مَفَاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ: لا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلَّا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي المَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، وَلا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ»
أماراتُ أو علاماتُ الساعة الصُّغْرى كَثيرةٌ، وقد ظهَرَ أغْلَبُها، وفي هذا الحديث يَذكر النبيُّ ﷺ علامتينِ منها.
علاماتُ الساعة الكُبرى، أخبَر بها ﷺ في أكثرَ من موضعٍ، ولم تَظهَر بعدُ، وظهورُها يكون قُبَيْلَ قيام الساعة؛ ومنها: طلوع الشمس من مغربها، وظُهورُ الـمَهْديِّ الـمُنتظَرِ، وخُروجُ الدَّجَّال، ونُزولُ عيسى بنِ مَريَمَ، وغير ذلك.
مضمونُ ما ذُكِر من أشراط السَّاعة في هذا الحديث يرجع إلى أنّ الأمور توسَّد إلى غير أهلها؛ كما قال النّبيُّ ﷺ: لمن سأله عن السّاعة:
«إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر السّاعة»
في الحديث إشارة إلى أنَّه إذا صار الحفاة العراة رعاء الشّاء - وهم أهل الجهل والجفاء - رؤوسَ النّاس، وأصحابَ الثّروة والأموال، حتّى يتطاولوا في البُنيان، فإنّه يَفسَد بذلك نظام الدّين والدّنيا[6].
في ردود النبيِّ ﷺ على من يسأل عن موعد الساعة توجيهٌ إلى أنه ليس مطلوبًا من المؤمن أن يَعرِف موعد يوم القيامة؛ بل المطلوب منه أن يتجهَّز لها بالطاعات والقُربات.
في أحاديث النبيِّ ﷺ توجيهٌ إلى أنْ يأخذَ المسلمُ حِذْرَه، ويُحصِّن نفْسه، ومَن هم تحتَ ولايته من شرِّ هذه الفتن ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
قوله ﷺ في تفسير الإحسان: «أن تعبد اللّه كأنّك تراه...» إلخ، يُشير إلى أنّ العبد يعبد اللّه على هذه الصِّفة، وهي استحضار قُربه، وأنّه بين يديه كأنّه يراه، وذلك يوجب الخشية والخوف والهَيبة والتَّعظيم، كما جاء في رواية أبي هريرة: «أن تخشى اللّه كأنّك تراه»، ويوجب أيضًا النُّصح في العبادة، وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها[7].
المراجع
- رواه البخاريُّ (10).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 98- 101).
- "بهجة قلوب الأبرار" للسعديِّ (204- 206).
- رواه البخاريُّ (4697).
- رواه البخاريُّ (59).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 139).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 126).
الفوائد العقدية
18- ألوهيةُ الله فرع عن ربوبيَّته؛ لأن من تعبَّد لله أقرَّ بربوبيته؛ إذ إن المعبود لا بدَّ أن يكون ربًّا، ولا بدَّ أن يكون أيضًا كاملَ الصفات؛ حتى يُعبَد بمقتضى هذه الصفات
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَاﱠ
ادْعوه؛ أي: تعبَّدوا له وتوسَّلوا بأسمائه إلى مطلوبكم؛ فالدعاء هنا يَشمَل دعاء المسألة، ودعاء العبادة.
19-لقد أرسل الله تعالى بهذه الكلمة (لا إله إلا الله) جميعَ الرسل
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ
لَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
20-قوله: «وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ﷺ»؛ أي: تشهد بأن محمدًا ﷺ رسولُ الله إلى الناس كافَّةً
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﱠ
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَﱠ
21- قوله: «وأن محمدًا رسول الله» يجب أن تَشهَد بلسانك، مُقِرًّا بقلبك، أن محمدًا رسول الله، أرسله إلى العالمين جميعًا؛ رحمةً بالعالمين
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ
وأن تؤمن بأنه خاتم النبيين
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ
فلا نبيَّ بعده، ومن ادَّعى النبوَّة بعده، فهو كافر كاذب، ومن صدَّقه فهو كافر. ويَلزَم من هذه الشهادة أن تتَّبِعه في شرعه وسُنَّته، وأن لا تبتدع في دينه ما ليس منه[1].
22- لقد جمعت الشهادتان: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله) شَرْطَيِ العبادة، وهما: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله ﷺ؛ لأن من قال: "لا إله إلا الله" أخلص لله، ومن شهد أن محمدًا رسول الله، اتَّبَع رسول الله، ولم يَتَّبِع سواه.
23-عُدَّت الشهادتان ركنًا واحدًا من أركان الإسلام؛ لأنهما يعودان إلى شيء واحد، وهو تصحيح العبادات؛ لأن العباداتِ لا تصحُّ إلا بمُقتَضى هاتين الشهادتين: شهادةِ أن لا إله إلا الله، التي يكون بها الإخلاص، وأن محمدًا رسول الله، التي يكون بها الاتِّباع[2].
24-في هذا الحديث، وفي حديث «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ»[3]، المقصودُ تمثيلُ الإسلامِ ببُنيانه، ودعائمُ البُنيان هذه الخمسُ، فلا يَثبُت البُنيان بدونها، وبقيَّةُ خِصال الإسلام كتَتمَّة البُنيان، فإذا فُقِد منها شيء، نَقَص البُنيان، وهو قائمٌ لا يَنتقِض بنَقْصِ ذلك، بخِلاف نَقْضِ هذه الدَّعائم الخمسِ، فإنَّ الإسلام يَزُول بفَقْدِها جميعًا بغير إشكال، وكذلك يَزُول بفَقد الشَّهادتينِ، والمرادُ بالشَّهادتين الإيمانُ باللّه ورسوله[4].
25-قوله في بعض الرّوايات: (فإذا فعلتُ ذلك، فأنا مسلم؟) قال: «نعم»، يدلُّ على أنَّ من كمَّل الإتيان بمباني الإسلام الخمس، صار مسلمًا حقًّا، مع أنَّ من أقرَّ بالشَّهادتين، صار مسلمًا حُكمًا، فإذا دخل في الإسلام بذلك، أُلزِم بالقيام ببقيَّة خصال الإسلام، ومن ترك الشَّهادتين، خرج من الإسلام، وفي خروجه من الإسلام بترك الصَّلاة خلاف مشهور بين العلماء، وكذلك في تركه بقيَّة مباني الإسلام الخمس[5].
26-الإيمانُ بالقدر على درجتين؛ إحداهما: الإيمان بأنّ اللّه تعالى سَبَق في علمه ما يَعمَله العباد من خير وشرٍّ، وطاعة ومعصية، قبل خلقهم وإيجادهم، ومن هو منهم من أهل الجنَّة، ومن هو منهم من أهل النّار، وأَعَدَّ لهم الثَّوَاب والعقاب؛ جزاءً لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم، وأنّه كتب ذلك عنده وأحصاه، وأنّ أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه. والدَّرجة الثَّانية: أنّ اللّه خَلَق أفعال العباد كلَّها من الكُفر، والإيمان، والطَّاعة، والعصيان، وشاءها منهم[6].
27-لفظا "الإسلام والإيمان" إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا؛ بمعنى: أنهما إذا اجتمعا في الذكر بالنصِّ، افترقا في المعنى؛ بحيث يُصبح لكل واحد منهما مدلول، وإذا افترقا فأُفرد أحدهما بالذكر، اجتمعا في المعنى، واشتمل المذكور منهما على الآخر. لذا؛ فرَّق النّبيُّ ﷺ في هذا الحديث بين الإسلام والإيمان، وجعل الأعمال كلَّها من الإسلام، لا من الإيمان، والمشهورُ عن السَّلَف وأهل الحديث أنّ الإيمان قولٌ وعمل ونيَّة، وأنّ الأعمال كلَّها داخلة في مسمَّى الإيمان، وحكى الشّافعيُّ على ذلك إجماع الصَّحابة والتّابعين ومَن بعدَهم ممَّن أدركهم، وأنكر السّلف على من أخرج الأعمال من الإيمان إنكارًا شديدًا.
المراجع
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 351).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 351).
- رواه البخاريُّ (8)، ومسلم (16).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 145).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 98- 101).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 103).
الفوائد التربوية
28-وَضَع كفَّيْهِ على فَخِذَيْ نفسه، لا على فَخِذَيِ النبيِّ ﷺ، وذلك من كمال الأدب في جِلسة المتعلِّم أمام المعلِّم، بأن يجلس بأدب واستعداد لِما يَسمَع، واستماع لِما يُقال من الحديث[1].
29-في الحديث قال: يا محمدُ، أخبرني، ولم يقل: يا رسول الله؛ كصَنيع أهل البادية الأعراب؛ لأن الأعراب إذا جاؤوا إلى النبيِّ ﷺ يقولون: يا محمدُ. أما الذين سَمِعوا أدب اللهِ - عزَّ وجلَّ - لهم فإنهم لا يقولون: يا محمدُ؛ وإنما يقولون: يا رسولَ الله
لأن الله تعالى قال في كتابه:
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًاﱠ
وهذا يَشمَل دعاءه عند النداء باسمه، ويَشمَل دعاءه إذا أَمَر أو نهى، فلا نَجعَل أمره كأمر الناس: إن شئنا امتثلْنا، وإن شئنا تَرَكْنا، ولا نجعل نهيَه كنهيِ الناس: إن شئنا تَرَكْنا، وإن شئنا فَعَلْنا. كذلك عندما ندعوه، لا ندعوه كدعاء بعضنا بعضًا، فنقول: يا فلانُ يا فلان، مثلما تنادي صاحبَك؛ وإنما تقول: يا رسولَ الله؛ لكن الأعراب - لبُعدهم عن العلم، وجهل أكثرِهم - إذا جاؤوا ينادونه باسمه، فيقولون: يا محمدُ[2].
المراجع
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 347).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 347).