الفوائد العلمية
{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ}
1. في الحديث إشارةٌ إلى أن الاستغفار له صيغ متنوِّعة، وألفاظ كثيرة، فإذا اقترف العبد ذنبًا، أو وقع في معصية، وأراد الاستغفار، فله أن يستغفر ربَّه بأيِّ لفظ شاء، فيقول: اللهم اغفر لي، أو يقول: أستغفر الله، أو غيرهما.
2. في الحديث بيان أفضل صيغ الاستغفار على الإطلاق، وأشرفها، وأكثرها نفعًا وثوابًا.
3. جَمَع ﷺ في هذا الحديث من بديع المعاني، وحُسن الألفاظ، ما يحقُّ له أنه يسمَّى سيِّد الاستغفار؛ ففيه: الإقرار لله وحده بالألوهية، والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده به، والاستعاذة من شرِّ ما جنى العبد على نفسه، وإضافة النعماء إلى موجِدِها، وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو[1].
4. في الحديث توجيه وإرشاد إلى أن تُقِرَّ لله عزَّ وجلَّ بلسانك وبقلبك أن الله هو ربُّك المالك لك، المدبِّر لأمرك، المعتني بحالك، وأنت عبده كَوْنًا وشَرْعًا، عبدُه كونًا يفعل بك ما يشاء، إن شاء أمرضك، وإن شاء أصحَّكَ، وإن شاء أغناك، وإن شاء أفقرك، وإن شاء أضلَّكَ، وإن شاء هداك، حسبما تقتضيه حكمته عزَّ وجلَّ، وكذلك أنت عبده شرعًا تتعبَّد له بما أَمَر، تقوم بأوامره، وتنتهي عن نواهيه[2].
5. «سيد الاستغفار» لأن السَّيِّد في الأصل: الرئيس الّذي يُقصَد في الحوائج، ويُرجَع إليه في الأمور، ولَمّا كان هذا الدّعاء جامعًا لمعاني التّوبة كلِّها، استُعير له هذا الاسم، ولا شكَّ أن سيّد القوم أفضلهم، وهذا الدّعاء أيضًا سيد الأدعية، وهو الاستغفار[3].
6. مَا الْحِكْمَة فِي كَونه سيد الاسْتِغْفَار؟ أُجيب بأنه وأمثاله من التعبُّديات، وَالله تعالى أعلم بذلك؛ لَكِن لَا شكَّ أن فِيه ذكرَ الله تعالى بأكمل الأوصاف، وذكر نَفسه بأنقص الحالات، وهو أقصى غايةِ التضرُّع، ونهاية الاستكانة لمن لا يستحقُّها إلَّا هو[4].
7. في الحديث بيان أنه ينبغي لكلِّ مؤمن أن يدعوَ الله تعالى أن يُمِيتَه على ذلك العهد، وأن يتوفَّاه الله على الإيمان؛ لينال ما وعد تعالى مَن وَفَى بذلك؛ اقتداءً بالنبيِّ ﷺ في دعائه بذلك[5].
8. في الحديث توجيه وإرشاد إلى أن تُقِرَّ بأن الله خلقك، هو الذي أَوْجَدك من العَدَم، وأنك على عهده ووعده ما استطعتَ على عهده؛ لأن كل إنسان قد عاهد الله أن يَعمَل بما عَلِم، فمتى أعطاك الله علمًا، فإنه قد عَهِد إليك أن تعمل به.
9. قوله: «وعلى وعدك»؛ أي: تطبيق وعدك، ما وعدتَ أهل الخير من الخير، وما وعدت أهل الشرِّ من الشرِّ؛ ولكن أنا على وعدك في الخير؛ لأنك في هذه الكلمات تتوسَّل إلى الله عزَّ وجلَّ[6].
10. «مَا اسْتَطَعْتُ»: اشتراط الاستطاعة في ذلك معناه: الاعتراف بالعجز والتقصير عن القيام بحقوق الله، وواجباته عليَّ [7]. فلا أحد يستطيع أن يؤدِّيَ حقَّ الله عليه، ولا شكر نِعَمه التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى
{ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}
ولذلك لم يكلِّف الله العباد فوق استطاعتهم
{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
11. إن أحدًا لا يقدر على الإتيان بجميع ما لله، ولا الوفاء بجميع الطاعات والشكر على النِّعَم؛ إذ إن نِعَمَه تعالى كثيرةٌ ولا يُحاط بها
{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}
فمن يَقدِر مع هذا أن يؤدِّيَ شكر النِّعم الظاهرة، فكيف الباطنة؟! لكن قد رَفَق الله بعباده، فلم يكلِّفهم من ذلك إلا وُسْعهم، وتجاوز عمَّا فوق ذلك[8].
12. في الحديث إرشاد إلى أن تتعوَّذ بالله من شرِّ ما صنعتَ؛ لأن الإنسان يصنع خيرًا فيُثاب، ويَصنَع شرًّا فيُعاقَب، ويَصنَع الشرَّ فيكون سببًا لضلاله
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}
فأنت تتعوَّذ بالله من شرِّ ما صنعتَ[9].
13. من أراد الله به خيرًا، فَتَح له باب الذُّلِّ والانكسار، ودَوَام اللجوء إلى الله تعالى، والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه، وجهلها، وعُدْوانها، ومشاهدة فضل ربِّه، وإحسانه، ورحمته، وجُوده، وبِرِّه، وغناه، وحمده[10].
14. على المؤمن أن يَحرِص على حفظ هذا الدعاء، وأن يحافظ عليه صباحًا ومساءً، حتى إذا أدركه الأجل في يومه أو ليلته، كان من أهل الجنَّة.
المراجع
- "فتح الباري" لابن حجر (11/ 100).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 717).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (22/ 278).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (22/ 278).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 76).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 717، 718).
- "أعلام الحديث" للخطَّابيِّ (3/ 2237).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 76).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 718).
- "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص: 7).
الفوائد العقدية
15. «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»؛ أي: أنت سيِّدي، ومالكي، لا معبودَ لي غيرُك، ولا ربَّ لي سواك؛ ففيه الإقرار لله تعالى بالربوبية والألوهية.
16. «خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ»؛ أي: لا يستحقُّ أحدٌ أن أتوجَّه إليه بالعبادة غيرُك، فأنت خالقي. وفيه إقرار لله تعالى بالربوبية والألوهية.
17. قيل في «وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ»: يعني العهد الذي أخَذَه الله على عباده في أصل خلقهم، حين أخرجهم من أصلاب آبائهم أمثال الذَّرِّ، وأشهدهم على أنفسهم:
{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ}
فأقرُّوا له في أصل خلقهم بالربوبية، وأذعنوا له بالوَحدانية[1].
المراجع
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 75).
الفوائد اللغوية
18. «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ»: السيِّد هنا مستعارٌ من الرئيس المقدَّم، الذي يُصمَد إليه في الحوائج، ويُرجَع إليه في الأمور، كهذا الدعاء، الذي هو جامعٌ لمعاني التوبة كلِّها؛ فالتوبةُ غاية الاعتذار[1].
المراجع
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (6/ 1844).