عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: «أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: 24]». ثُمَّ قَالَ لِي: «لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي القُرْآنِ، قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ». ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، قُلْتُ لَهُ: «أَلَمْ تَقُلْ: لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ؟»، قَالَ: «﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]، هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ».

فوائد الحديث

الفوائد العلمية

1. في الحديث بيانُ أن سورة الفاتحة هي أعظمُ السُّور في القرآن؛ أي: في أجرها، وثواب قراءتها، ولِما فيها من معاني الثناء، والسؤال، والدعاء.

2. في الحديث تصريح بأن المراد بقوله تعالى:

{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}

[الحجر: ٨٧]

هي الفاتحة [1].

3. الفاتحة هي أمُّ القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السّبع المثاني والقرآن العظيم، وهي الشّافية، وهي الواجبة في الصّلوات، لا صلاة إلّا بها، وهي الكافية تكفي من غيرها، ولا يكفي غيرها عنها[2].

4. أمُّ القرآن اسم الفاتحة، وسمِّيَت أمُّ القرآن لأنّها فاتحته، كما سمِّيَت مكَّةُ أمَّ القرى؛ لأنّها أصلها[3].

5. من سنن الله تعالى في خلقه أنه فضَّل بعض الأماكن على بعض، وفضَّل بعض الأزمنة على بعض، وفضَّل بعض الناس على بعض، وفضَّل النبيين على سائر الناس، وفضَّل بعض النبيِّين على بعض، وفضَّل بعض الكتب المنزَّلة على بعض، وفضَّل القرآن وجعله مصدِّقًا لِمَا أَنزل من التوراة والإنجيل، وشاهدًا عليهما.

6. في الحديث دليل على جواز تفضيل بعض القرآن على بعض؛ فالقرآن كلام الله، أَنزَله على خير خلقِه محمَّدٍ ﷺ، له قُدُسية خاصَّة، ولسُوَره جميعِها إجلالٌ وتعظيم؛ إلا أنه فضَّل بعضها على بعض، وبعضَ آياتها على بعض

قال تعالى:

{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}

[البقرة: 106]

و"إن دلالة النصوص النبوية والآثار السلفية والأحكام الشرعية والحُجَج العقلية على أن كلام الله بعضُه أفضلُ من بعض، هو من الدلالات الظاهرة المشهورة"[4].

7.

عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ:

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ»[5].

8.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ:

بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: «هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ»[6]

9.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:

«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الفُرْقَانِ مِثْلُهَا، وَإِنَّهَا سَبْعٌ مِنَ المَثَانِي وَالقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُهُ»[7].

10.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:

«مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ – ثَلَاثًا - غَيْرُ تَمَامٍ»، فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ؟ فَقَالَ: «اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ»؛ فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ:{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} [الفاتحة: 2]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ}[الفاتحة: 3]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ}[الفاتحة: 4] ، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي - وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي - فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ:{ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ (6) صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 6- 7] قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»[8].

11.

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ:

كُنَّا فِي مَسِيرٍ لَنَا فَنَزَلْنَا، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ، فَقَالَتْ: إِنَّ سَيِّدَ الحَيِّ سَلِيمٌ، وَإِنَّ نَفَرَنَا غَيْبٌ، فَهَلْ مِنْكُمْ رَاقٍ؟ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مَا كُنَّا نَأْبُنُهُ بِرُقْيَةٍ، فَرَقَاهُ فَبَرَأَ، فَأَمَرَ لَهُ بِثَلاثِينَ شَاةً، وَسَقَانَا لَبَنًا، فَلَمَّا رَجَعَ قُلْنَا لَهُ: أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً - أَوْ كُنْتَ تَرْقِي؟ - قَالَ: لا، مَا رَقَيْتُ إِلَّا بِأُمِّ الكِتَابِ، قُلْنَا: لا تُحْدِثُوا شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَ - أَوْ نَسْأَلَ - النَّبِيَّ ﷺ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ ذَكَرْنَاهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: «وَمَا كَانَ يُدْرِيهِ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ»[9].

12. من فضائل سورة الفاتحة: اشتمالها على أفضل الدعاء، وهو الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم، وآداب الدعاء، وهي البَدْءُ بالحمد أولاً، ثم الثناء، ثم التمجيد، ثم إفراد العبودية له، ثم الاستعانة به دون سواه

عَنْ فَضَالَةَ بْن عُبَيْدٍ، صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَال:

سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يُمَجِّدِ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «عَجِلَ هَذَا»، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: - أَوْ لِغَيْرِهِ - «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَبْدَأْ بِتَمْجِيدِ رَبِّهِ جَلَّ وَعَزَّ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ»[10].

13. سورة الفاتحة فيها للّهِ الحمدُ، فله الحمدُ في الدّنيا والآخرة، وفيها للعبد السّؤال، وفيها العبادة للّه وحدَه، وللعبدِ الاستعانة، فحَقُّ الرّبِّ حمدُه وعبادته وحده، وهذان حمدُ الرّبِّ وتوحيدُه، يدور عليهما جميع الدّين[11].

14. يمكن أن نستخرجَ من سورة الفاتحة علومَ الدُّنيا والآخرة كلَّها؛ وذلك أنه يُقال: في هذه السورة عِلم الحمد، وعِلم الألوهية، وعِلم الربوبية، وعِلم العالمين، وعِلم الرحمة، وعِلم الْمُلك، وعِلم الدين، وعِلم العبادة، وعِلم الاستعانة، وعِلم الهداية، وعِلم الصراط، وعِلم الاستقامة، وعِلم النعمة، وعِلم ما يُجتَنَب من الغضب، وعِلم ما يُجتَنب من الضلالة[12].

المراجع

  1. "فتح الباري مع هدي الساري" لابن حجر (8/ 158).
  2. "مجموع الفتاوى" (14/5).
  3. "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 101).
  4. "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (17/ 57).
  5. رواه البخاريُّ (756)، ومسلم (394).
  6. رواه مسلم (254).
  7. رواه مسلم (806).
  8. رواه مسلم (395).
  9. رواه البخاريُّ (5007)، ومسلم (2201).
  10. رواه أبو داود (1481)، والترمذيُّ (3477)، والنسائي (1284) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.
  11. "مجموع الفتاوى" (6/ 259).
  12. "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (8/ 157).


الفوائد الفقهية

15. في هذا الحديث دليلٌ على أن الأمر على الْفَوْر؛ لأنَّه عاتَبه لَمَّا تَأَخَّر عن إجابته[1].

16. فِي الحديث دليل على لُزُوم الْعَمَل بِمُقْتَضى اللَّفْظ، إِلَّا أن يَصرِف عنه دَلِيلٌ؛ لأنه قال: «أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ:

{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}»[2].

17. قراءة الفاتحة في الصلاة في كلِّ ركعة واجبة، ومتعيِّنة لا يُجزي غيرُها إلّا لعاجز عنها[3]. وفي سورة الفاتحة من كليَّات العقيدة الإسلامية، وكليات التصوُّر الإسلاميِّ، وكليات المشاعر والتوجُّهات، ما يُشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتَّكرار في كلِّ ركعة، وحكمة بُطلان كل صلاة لا تُقرأ فيها.

18. قوله: (الْحَمد لله) دَلِيلٌ على أن البسملة ليست منها؛ لأنه ابتدأ بـ (الْحَمد)[4].

19. في الحديث أن حُكم لفظ العموم أن يَجريَ على جميع مقتضاه، وأن الخاصَّ والعامَّ إذا تقابلا، كان العامُّ منزَّلاً على الخاصِّ؛ لأن الشارع حرَّم الكلام في الصلاة على العموم، ثم استثنى منه إجابةَ دعاء النبيِّ ﷺ في الصلاة[5].

20. القولُ بأنّ كلام اللّه بعضُه أفضلُ من بعض هو القول المأثور عن السَّلف، وهو الّذي عليه أئمّة الفقهاء من الطّوائف الأربعة وغيرهم، وكلام القائلين بذلك كثير منتشر في كتب كثيرة[6].

المراجع

  1. "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (4/ 162).
  2. "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (4/ 162).
  3. "شرح النوويِّ على مسلم" (4/102، 103).
  4. "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (4/ 162، 163).
  5. "فتح الباري مع هدي الساري" لابن حجر (8/ 158).
  6. "مجموع الفتاوى" (17/ 13).
الفوائد اللغوية

21. في قوله: «هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيتُه» دلالة على أن الفاتحة هي القرآن العظيم، وأن الواوَ ليست بالعاطفة التي تَفصِل بين الشيئين؛ وإنما هي التي تجيء بمعنى التفصيل

كقوله:

فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ[1].

[الرحمن: ٦٨]

22. يُحتمَل أن يكون قوله: «والقرآن العظيم» محذوفَ الخبر، وتقديرُه (ما بعد الفاتحة) مثلاً، فيكون وصف الفاتحة انتهى بقوله: «هي السبع المثاني»، ويكون التقدير: والقرآن العظيم هو الذي أوتيتُه زيادةً على الفاتحة[2].

المراجع

  1. "فتح الباري مع هدي الساري" لابن حجر (8/ 159).
  2. "فتح الباري مع هدي الساري" لابن حجر (8/ 159).


مشاريع الأحاديث الكلية