الفوائد العلمية
في الحديث بيانُ أن ما يُرى من أثَر الرحمة من تراحم وتعاطف وخير في جميع المخلوقات، في الإنسان وغيره، كلُّه أثرُ رحمة واحدة، فكيف بتسعةٍ وتسعين؟!
في الحديث حثٌّ على الإيمان بالله تعالى واسع الرحمة وواهبها، واتساع الرجاء في رَحَمَاته سبحانه المدَّخَرة[1]
العدد في الحديث قيل فيه: إن المراد بالعدد التكثيرُ، لا النصُّ على العدد بعَينه؛ فرحمة الله لا نهاية لها.
يُحتمَل أن المراد بالأجزاء المِائة أنواعُ الرحمة، فأنعمَ عليهم في هذه الدنيا بنوع واحدٍ، انتظمت به مصالحهم، وحصلتْ به مرافقهم، فإذا كان يوم القيامة كمل لعباده المؤمنين ما بَقِيَ، فبلغتْ مِائة[2]
في الحديث بِشارة للمسلمين؛ لأنه إذا حصل للإنسان من رحمة واحدة في هذه الدار الْمَبنيَّة على الأكدار: الإسلامُ، والقرآن، والصلاة، والرحمة في قلبه، وغير ذلك مما أنعمَ اللهُ تعالى به، فكيف الظنُّ بمِائة؟![3]
في الحديث ضرَبَ رسولُ اللهِ ﷺ المثلَ بالفرسِ؛ "لأنَّها كانَت أكثرَ الحيوَانات المألُوفةِ التِي يُشاهدُ الناسُ حركتَها معَ ولدِها، ولِما في الفرَسِ مِنَ الِخفَّةِ والسُّرعةِ في التنقُّلِ، ومعَ ذلكَ تَتجنَّبُ أَنْ يصِلَ الضرَرُ مِنهَا إِلى ولدِهَا[4]
المراجع
- نظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (10/ 433).
- فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (10/ 432)
- شرح النوويِّ على مسلم" (17/ 68)
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (10/ 432) بتصرف يسير.
الفوائد العقدية
7. أنكرت الأشاعرة والمعتزلة صفة الرّحمة؛ بدعوى أنّها في المخلوق ضعفٌ وخَوَر وتألُّم للمرحوم، وهذا من أقبح الجهل؛ فإنّ الرّحمة إنّما تكون من الأقوياء للضّعفاء، فلا تستلزم ضعفًا ولا خورًا؛ بل قد تكون مع غاية العزّة والقُدرة؛ فالإنسان القويُّ يَرحَم ولده الصّغير وأبويه الكبيرين، ومن هو أضعفُ منه، وأين الضّعف والخور- وهما من أذمِّ الصّفات - من الرّحمة الّتي وصف اللّه نفسه بها، وأثنى على أوليائه المتَّصفين بها، وأمرهم أن يتواصَوا بها؟![1]
8. رحمته سبحانه وَسِعت في الدّنيا المؤمنَ والكافر والبرَّ والفاجر؛ ولكنّها يومَ القيامة تكون خاصَّةً بالمتَّقين؛
فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ
كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ
أي: أوجبها على نفسه تفضُّلاً وإحسانًا، ولم يوجبها عليه أحد[2]
9.
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا
يدلُّ على أن كلَّ شيء وَصَله علم الله، وهو واصل لكلِّ شيء، فإنَّ رحمته وصلت إليه؛ لأن الله قرن بينهما في الحكم
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا
وهذه هي الرحمة العامَّة التي تشمل جميع المخلوقات، حتى الكفَّارَ؛ لأن الله قَرَن الرحمة هذه مع العلم، فكلُّ ما بلغه علمُ الله - وعلمُ الله بالغٌ لكلِّ شيء - فقد بلغته رحمته، فكما يَعلَم الكافرَ، يَرحَم الكافر أيضًا[3].
10. رحمة الله تعالى للكافر هي رحمة جسدية بَدَنية دنيوية قاصرة غاية القصور بالنسبة لرحمة المؤمن، فالذي يَرزُق الكافر هو الله الذي يَرزُقه بالطعام والشراب واللباس والمسكن والمنكح وغير ذلك[4]
11. رحمة الله للمؤمنين هي رحمة خاصَّة؛ لأنها رحمة إيمانية دينية دنيوية؛ ولهذا تجد المؤمن أحسن حالاً من الكافر، حتى في أمور الدنيا؛
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ ﱠ
والحياة الطيِّبة هذه مفقودة بالنسبة للكفَّار؛ فحياتهم كحياة البهائم، أما المؤمن فإن أصابته سرَّاءُ، شكر، وإن أصابته ضرَّاءُ صبر، فهو في خير في الحالين، وقلبُه منشرِح مطمئنٌّ متَّفِق مع القضاء والقدر، لا جزع عند البلاء، ولا بطر عند النعماء؛ بل هو متوازن مستقيم معتدل[5].
12. الجمع بين
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا
﴿ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾
(ِبالْمُؤْمِنِين) متعلِّق بـ(رحيمًا)، وتقديم المعمول يدلُّ على الحصر، فيكون معنى الآية: وكان بالمؤمنين لا غيرِهم رحيمًا؛ فالرحمة في الآية الأولى رحمة عامَّة للكافر والمؤمن، وفي الآية الثانية رحمةٌ خاصَّة متَّصِلة برحمة الآخرة، لا ينالها الكفَّار[6].
كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَﱠ
أي: أوجب على نفسه الرحمة، فالله عزَّ وجلَّ لكرمه وفضله وجُوده أَوْجَب على نفسه الرحمة، وجَعَل رحمته سابقةً لغضبه؛
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ
لكن حِلمه ورحمته أوجبت أن يبقى الخلق إلى أجل مسمًّى[7]
14. إن الرحمن دالٌّ على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دالٌّ على تعلُّقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دالٌّ أن الرحمة صفته، والثاني دالٌّ على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردتَ فَهم هذا، فتأمَّل
﴿ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾
﴿ إِنَّهُۥ بِهِمۡ رَءُوفٞ رَّحِيمٞﱠ ﴾
ولم يجئ قطُّ (رحمن بهم)، فعُلم أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته[8].
15. جعلُ صفة الرحمة واسم الرحمة مجازًا كجعلِ صفة الْمُلك والربوبية مجازًا، ولا فرق بينهما في شرع ولا عقل ولا لغة. وإذا أردتَ أن تعرف بُطلان هذا القول، فانظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته الخاصَّة والعامَّة[9].
المراجع
- "شرح العقيدة الواسطية" لمحمد خليل هرَّاس (ص: 106، 107).
- "شرح العقيدة الواسطية" لمحمد خليل هرَّاس (ص: 107).
- شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 248، 249).
- "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 249).
- "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 249).
- شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 250، 251).
- شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 251)
- بدائع الفوائد" لابن القيم (1/ 24)
- مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم (ص 481 . 482)
الفوائد التربوية
16. برحمته تعالى أرسل إلينا رسوله ﷺ وأنزل علينا كتابه، وعصمَنا من الجهالة، وهدانا من الضلالة، وبصَّرنا من العمي، وأرشدنا من الغيِّ، وبرحمته عرَّفنا من أسمائه وصفاته وأفعاله ما عَرَفنا به أنه ربُّنا ومولانا، وبرحمته علَّمنا ما لم نكن نعلم، وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا، وبرحمته أطلع الشمس والقمر، وجعل الليل والنهار، وبسط الأرض وجعلها مهادًا وفراشًا وقرارًا وكِفاتًا للأحياء والأموات، وبرحمته أنشأ السحاب وأمطر المطر، وأطلع الفواكه والأقوات والمرعى، ومن رحمته سخَّر لنا الخيل والإبل والأنعام، وذلَّلها منقادة للركوب والحمل والأكل والدَّرِّ[1]
17. برحمته تعالى وضع الرحمة بين عباده ليتراحموا بها، وكذلك بين سائر أنواع الحيوان، فهذا التراحم الذي بينهم بعض آثار الرحمة التي هي صفته ونعمتُه، واشتقَّ لنفسه منها اسم الرحمن الرحيم[2].
18. أوصل الله تعالى إلى خلقه معانيَ خطابه برحمته، وبصَّرهم ومكَّن لهم أسباب مصالحهم برحمته، وأوسع المخلوقاتِ عرشَه، وأوسع الصفاتِ رحمتَه، فاستوى على عرشه الذي وَسِع المخلوقات بصفة رحمته التي وسعت كل شيء، ولَمَّا استوى على عرشه بهذا الاسم الذي اشتقَّه من صفته وتسمَّى به دون خلقه، كتب بمقتضاه على نفسه يوم استوائه على عرشه حين قضى الخلق كتابًا، فهو عنده وضعه على عرشه: أن رحمته سبقت غضبه، وكان هذا الكتاب العظيم الشأن كالعهد منه سبحانه للخليقة كلها بالرحمة لهم، والعفو عنهم، والمغفرة والتجاوز، والستر والإمهال، والحلم والأناة، فكان قيام العالم العلويِّ والسُّفليِّ بمضمون هذا الكتاب الذي لولاه لكان للخلق شأنٌ آخَرُ[3]
19. برحمته تعالى خُلقت الجنة، وبرحمته عمِّرت بأهلها، وبرحمته وَصَلوا إليه، وبرحمته طاب عيشهم فيها، وبرحمته احتجبت عن خلقه بالنور، ولو كُشِف ذلك الحجاب لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه[4].
20. من رحمته تعالى أنه يُعيذ من سخطه برضاه، ومن عقوبته بعفوه، ومن نفسه بنفسه، ومن رحمته أن خلق للذكر من الحيوان أنثى من جنسه، وألقى بينهما المحبَّة والرحمة ليقع بينهما التواصل الذي به دَوَامُ التناسل وانتفاع الزوجين، ويمتَّع كلُّ واحد منهما بصاحبه[5].
21. من رحمته تعالى أنه أَحْوَجَ الخلق بعضهم إلى بعض لتتمَّ مصالحهم، ولو أغنى بعضهم عن بعض لتعطَّلت مصالحهم وانحلَّ نظامها، وكان من تمام رحمته بهم أن جعل فيهم الغنيَّ والفقير، والعزيز والذليل، والعاجز والقادر، والراعيَ والمرعيَّ، ثم أفقر الجميع إليه، ثم عمَّ الجميع برحمته[6]
22. الرحمة التي جعلها الله في قلوب عباده هي من خلقه، والخير الذي أنزله لهم هو من فضله، وكل هذا جزء مما ادَّخَره الله لعباده المؤمنين يوم القيامة.
المراجع
- "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (ص482).
- "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (ص482).
- "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (ص482).
- "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (ص482).
- "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (ص482، 483).
- مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (ص: 483).
الفوائد اللغوية
23. قَوْله: «وَأنزل فِي الأَرْض»، كان القياس أن يُقال: إلى الأرض؛ ولكن حروف الْجَرِّ يَنُوب بعضها عن بعض، وفيه تضمينٌ، وَالْغَرَض منه الْمُبالغة؛ يعنِي: أنزلها منتشرةً فِي جميع الأَرْض[1]
24. قَوْله: «يتراحم الْخلق» من الفعل (تَرَاحَم) الدالِّ على التفاعل، الذي يشترك فيه الجماعة.
المراجع
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (22/ 101، 102)