18. في هذا الحديث حُجَّةٌ على القَدَرية الذين يزعمون أن الله تعالى لا يَخلُق الشرَّ، تعالى الله عَّما يَفتَرُون، وقد أبان النبيُّ ﷺ في هذا الحديث أن الله تعالى هو المالك للشرِّ، والخالقُ له؛ إذ هو الْمَدْعوُّ لصَرْفِه عن العبد، ومُحَال أن يسأله العبد أن يَصرِف عنه ما يَملِكه العبد من نفسه، وما يَقدِر على اختراعه دون تقدير الله عليه[1].
19. الاستخارة هي توحيد خالص لله تعالى، وإيمان به، فيها إقرارُ العبد بضَعفه وعُبوديَّته وعَجزه علمًا وقُدرة، وتوكُّلُه على خالقه ومدبِّر أمرِه، واستعانتُه به، واللجوءُ إليه، وتفويضُه الأمرَ إليه، واستقسامُه بقُدرته وعلمه وحُسن اختياره له، وفيها الرضا بالله ربًّا، والرضا باختياره مهما كان.
20. تضمَّن هذا الدعاءُ الإقرارَ بوجوده سبحانه، والإقرارَ بصفات كماله، من كمال العِلم والقُدرة والإرادة، والإقرارَ بربوبيَّته، وتفويضَ الأمر إليه، والاستعانةَ به، والتوكُّلَ عليه، والخروجَ من عُهدة نفسه، والتبرِّي من الحَول والقوَّة إلَّا به، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه، وقُدرته عليها، وإرادته لها، وأن ذلك كلَّه بيد وليِّه وفاطره وإلهه الحقِّ[2].
21. إذا كان المؤمنُ يؤمن أنه لا يَعلَمُ الغَيبَ إلَّا اللهُ تعالى، ولا يُقدِّرُ الخيرَ والشَّرَّ للعبد سواه، فإنَّ عليه أن يرُدَّ الأمور كلَّها إلى الله، وأن يتبرَّأ من حَوله وقوَّته وقُدرته وعِلمه إلى حَول الله وقوَّته وقُدرته وعِلمه.
المراجع
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 123).
- "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (2/ 405).
11. جَعَلَ ﷺ الرِّضَا بالله قَرِينَ الرضا بدينه ونَبِيِّه، وهذه الثلاثةُ هي أصول الإسلام، التي لا يقوم إلا بها وعليها؛ فإذا حصَّل المؤمن هذه الثلاث، لن يجد لذَّة وحلاوة تُشبهها إلا في الجنة.
12. في الحديث إشارة إلى أن التوحيد هو أصل الإيمان، وهو توحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.
13. من أركان الإيمان الرضا محبَّةً واتِّباعًا واقتداءً واهتداءً بالنبيِّ ﷺ.
14. من أركان الإيمان الرضا بالإسلام دينًا، ونبذ كل ما يخالف دين الإسلام.
18- ألوهيةُ الله فرع عن ربوبيَّته؛ لأن من تعبَّد لله أقرَّ بربوبيته؛ إذ إن المعبود لا بدَّ أن يكون ربًّا، ولا بدَّ أن يكون أيضًا كاملَ الصفات؛ حتى يُعبَد بمقتضى هذه الصفات
ولهذا قال الله تعالى:
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَاﱠ
[الأعراف: ١٨٠]
ادْعوه؛ أي: تعبَّدوا له وتوسَّلوا بأسمائه إلى مطلوبكم؛ فالدعاء هنا يَشمَل دعاء المسألة، ودعاء العبادة.
19-لقد أرسل الله تعالى بهذه الكلمة (لا إله إلا الله) جميعَ الرسل
فقال الله تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ
[الأنبياء: ٢٥]
وقال تعالى:
لَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
[النحل: ٣٦].
20-قوله: «وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ﷺ»؛ أي: تشهد بأن محمدًا ﷺ رسولُ الله إلى الناس كافَّةً
كما قال الله تعالى:
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﱠ
[الفرقان: 1]
وقال تعالى:
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَﱠ
[الأعراف: 158].
21- قوله: «وأن محمدًا رسول الله» يجب أن تَشهَد بلسانك، مُقِرًّا بقلبك، أن محمدًا رسول الله، أرسله إلى العالمين جميعًا؛ رحمةً بالعالمين
كما قال الله:
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ
[الأنبياء: ١٠٧]
وأن تؤمن بأنه خاتم النبيين
كما قال الله تعالى:
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ
ﱠ [الأحزاب: ٤٠]
فلا نبيَّ بعده، ومن ادَّعى النبوَّة بعده، فهو كافر كاذب، ومن صدَّقه فهو كافر. ويَلزَم من هذه الشهادة أن تتَّبِعه في شرعه وسُنَّته، وأن لا تبتدع في دينه ما ليس منه[1].
22- لقد جمعت الشهادتان: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله) شَرْطَيِ العبادة، وهما: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله ﷺ؛ لأن من قال: "لا إله إلا الله" أخلص لله، ومن شهد أن محمدًا رسول الله، اتَّبَع رسول الله، ولم يَتَّبِع سواه.
23-عُدَّت الشهادتان ركنًا واحدًا من أركان الإسلام؛ لأنهما يعودان إلى شيء واحد، وهو تصحيح العبادات؛ لأن العباداتِ لا تصحُّ إلا بمُقتَضى هاتين الشهادتين: شهادةِ أن لا إله إلا الله، التي يكون بها الإخلاص، وأن محمدًا رسول الله، التي يكون بها الاتِّباع[2].
24-في هذا الحديث، وفي حديث «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ»[3]، المقصودُ تمثيلُ الإسلامِ ببُنيانه، ودعائمُ البُنيان هذه الخمسُ، فلا يَثبُت البُنيان بدونها، وبقيَّةُ خِصال الإسلام كتَتمَّة البُنيان، فإذا فُقِد منها شيء، نَقَص البُنيان، وهو قائمٌ لا يَنتقِض بنَقْصِ ذلك، بخِلاف نَقْضِ هذه الدَّعائم الخمسِ، فإنَّ الإسلام يَزُول بفَقْدِها جميعًا بغير إشكال، وكذلك يَزُول بفَقد الشَّهادتينِ، والمرادُ بالشَّهادتين الإيمانُ باللّه ورسوله[4].
25-قوله في بعض الرّوايات: (فإذا فعلتُ ذلك، فأنا مسلم؟) قال: «نعم»، يدلُّ على أنَّ من كمَّل الإتيان بمباني الإسلام الخمس، صار مسلمًا حقًّا، مع أنَّ من أقرَّ بالشَّهادتين، صار مسلمًا حُكمًا، فإذا دخل في الإسلام بذلك، أُلزِم بالقيام ببقيَّة خصال الإسلام، ومن ترك الشَّهادتين، خرج من الإسلام، وفي خروجه من الإسلام بترك الصَّلاة خلاف مشهور بين العلماء، وكذلك في تركه بقيَّة مباني الإسلام الخمس[5].
26-الإيمانُ بالقدر على درجتين؛ إحداهما: الإيمان بأنّ اللّه تعالى سَبَق في علمه ما يَعمَله العباد من خير وشرٍّ، وطاعة ومعصية، قبل خلقهم وإيجادهم، ومن هو منهم من أهل الجنَّة، ومن هو منهم من أهل النّار، وأَعَدَّ لهم الثَّوَاب والعقاب؛ جزاءً لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم، وأنّه كتب ذلك عنده وأحصاه، وأنّ أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه. والدَّرجة الثَّانية: أنّ اللّه خَلَق أفعال العباد كلَّها من الكُفر، والإيمان، والطَّاعة، والعصيان، وشاءها منهم[6].
27-لفظا "الإسلام والإيمان" إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا؛ بمعنى: أنهما إذا اجتمعا في الذكر بالنصِّ، افترقا في المعنى؛ بحيث يُصبح لكل واحد منهما مدلول، وإذا افترقا فأُفرد أحدهما بالذكر، اجتمعا في المعنى، واشتمل المذكور منهما على الآخر. لذا؛ فرَّق النّبيُّ ﷺ في هذا الحديث بين الإسلام والإيمان، وجعل الأعمال كلَّها من الإسلام، لا من الإيمان، والمشهورُ عن السَّلَف وأهل الحديث أنّ الإيمان قولٌ وعمل ونيَّة، وأنّ الأعمال كلَّها داخلة في مسمَّى الإيمان، وحكى الشّافعيُّ على ذلك إجماع الصَّحابة والتّابعين ومَن بعدَهم ممَّن أدركهم، وأنكر السّلف على من أخرج الأعمال من الإيمان إنكارًا شديدًا.
المراجع
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 351).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 351).
- رواه البخاريُّ (8)، ومسلم (16).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 145).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 98- 101).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 103).
15. حرَّم الله الظُّلم على نفسه ابتداءً، ثم حرَّمه على العباد؛
قال تعالى:
إنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
[يونس: 44]
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ،
فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا…
[1]
16. أعظمُ أنواع الظُّلم: الشركُ بالله؛
قال تعالى.
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِیمٌ
[لقمان: 13]،
فهو تجاوزٌ للحدِّ مع الله تعالى، وهو أعظم الذنوب وأكبرُها؛
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ:
"أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»
[2]
17.قوله: «بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ»: معرفة مقدار الطاعة والمعصية كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً مُفَوَّضٌ عِلْمُها إلى اللَّه سبحانه[3]
المراجع
- رواه مسلم (2577).
- رواه البخاريُّ (4477)، ومسلم (86).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (8/ 3201).
14. قوله ﷺ: «لا يُؤْمِنُ أحَدُكُم» معناه: لا يؤمِنُ الإيمانَ الكاملَ التامَّ؛ وإلا فأصلُ الإيمان يحصُل لمَن لم يكنْ بهذه الصفة [1].
15. المقصود بقوله: «لا يؤمن أحدكم» الكمال الواجب؛ لأن نفيَ الإيمان في مثل هذا المقام يدلُّ على أنه قد نقص من إيمانه الواجب، وليس معنى ذلك أن الإيمان قد انمحى، أو أنه صار لا يُجزئ؛ بل الإيمان في أصله صحيح؛ ولكن نقص منه قدر واجب، في مشيئة الله، إن شاء عذَّب الإنسان عليه، وإن شاء غفر، إلا أن يكون له حسنات تمحو، أو شفاعة.
16. "المراد بنَفي الإيمان نفيُ بُلوغ حقيقته ونهايته؛ فإن الإيمان كثيرًا ما يُنفى لانتفاء بعض أركانه وواجباته،
كقوله ﷺ:
«لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ»
[2] [3].
17. اختلف العلماء في مرتكِب الكبائر: هل يُسمَّى مؤمنًا ناقص الإيمان، أم لا يسمَّى مؤمنًا؛ وإنّما يُقال: هو مسلم، وليس بمؤمن؟ على قولين، وهما روايتان عن الإمام أحمدَ [4].
18. مَن ارتكب الصّغائر، لا يزول عنه اسم الإيمان بالكُلّيّة؛ بل هو مؤمن ناقص الإيمان، يَنقُص من إيمانه بحسَبِ ما ارتكب من ذلك [5].
19. القول بأنّ مرتكِب الكبائر يُقال له: مؤمن ناقص الإيمان. مرويٌّ عن جابرِ بنِ عبد اللّه، وهو قول ابن المبارك وإسحاقَ وأبي عُبَيد وغيرهم، والقول بأنّه مسلم، ليس بمؤمن. مرويٌّ عن أبي جعفرٍ محمّدِ بنِ عليٍّ، وذَكَر بعضهم أنّه المختار عند أهل السُّنَّة [6].
20. قال ابن عبَّاس: الزّاني يُنزَع منه نور الإيمان. وقال أبو هريرة: يُنزَع منه الإيمان، فيكون فوقه كالظُّلَّة، فإن تاب عاد إليه. وقال عبد اللّه بن رواحة وأبو الدَّرداء: الإيمان كالقميص، يَلبَسه الإنسان تارةً، ويَخلَعه تارةً أخرى، وكذا قال الإمام أحمدُ وغيره، والمعنى: أنّه إذا كَمُل خصال الإيمان، لَبِسه، فإذا نَقَص منها شيء نزعه، وكلُّ هذا إشارة إلى الإيمان الكامل التّامِّ الّذي لا يَنقُص من واجباته شيء [7].
21. في الحديث بيانُ علامةٍ من علامات الإيمانِ، وهي حُبُّ الخير للمسلم.
22. إن الإيمان يَزيد ويَنقُص، ومما يَنقُصه الحسدُ، والأنانيةُ، وفسادُ ذات البَين، ومن مكمِّلاته حبُّ الخير، وصلاحُ ذات البَين.
المراجع
1. انظر: "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (2/ 16).
2. رواه البخاريُّ (2475)، ومسلم (100).
3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 303).
4. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 303).
5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 303).
6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 303).
7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 303).
14. حتى تصِحَّ عقيدةُ المؤمن؛ لا بدَّ أن يواليَ المؤمنين ويَنصُرَهم ويحبَّهم، ويتمنَّى لهم الخير.
15. لا يَكمُلُ إيمانُ المرءِ إلَّا إذا أحبَّ لأخيهِ ما يُحِبُّ لنفْسهِ مِن الخيرِ، ويَكرهُ لأخيهِ ما يَكرَهُ لنفْسِه مِن الأذَى والشرِّ؛
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:
«لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»
[1].
16. من مقتضيات الإيمان: العمل بما تستلزمه الأخوَّة بين المؤمنين من التراحم والتوادِّ والتعاطف، وأن التقصير في ذلك والتهاون فيه ضعفٌ في الإيمان؛ "ولهذا كان المؤمن يَسُرُّه ما يَسُرُّ المؤمنين، ويَسُوءُه ما يسوءُهم، ومن لم يكن كذلك، لم يكن منهم" [2].
17.
قال الله تعالى:
﴿وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍۢ ۚ﴾
[التوبة: ٧١]؛
أَيْ: قُلُوبُهُمْ مُتَّحِدَةٌ فِي التَّوَادُدِ، وَالتَّحَابُبِ، وَالتَّعَاطُفِ؛ بِسَبَبِ ما جَمَعَهم من أَمْر الدِّينِ، وضَمَّهُم من الإيمان باللَّه" [3].
المراجع
1. رواه البخاريُّ (13)، ومسلم (45).
2. "مجموع الفتاوى" (2/ 373).
3. "فتح القدير" للشوكانيِّ (2/ 434).
31. هذه الآية حُجَّة في زيادة الإيمان ونقصانه؛ لأن هذه الآية نزلتْ يوم عرفة في حجَّة الوداع يوم كَمَلت الفرائض، والسُّنن، واستقرَّ الدِّين، وأراد الله قبضَ نبيِّه، فدلَّتْ هذه الآية أن كمال الدين إنما حصل بتمام الشريعة، فمَن حافَظ على التزامها، فإيمانه أكملُ من إيمان مَن قَصَّرَ في ذلك وضَيَّع؛ ولهذا أورده البخاريُّ في باب زيادة الإيمان ونقصانها[1].
المراجع
- انظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (1/ 102).
14. أَجْمَعَ السَّلَفُ على أن الإيمانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، يَزِيدُ وينقُص، ومعنى ذلك: أنه قولُ القلب، وَعَمَلُ القلب، ثم قولُ اللسان، وعَمَلُ الجوارح، وخالف الْمُرْجِئةُ أهلَ السنَّة والجماعة وقالوا: إن الأعمال ليست من مسمَّى الإيمان، والصوابُ أن الأعمال من الإيمان؛ كما ذكر هنا في شعب الإيمان: الحياء - وهو من أعمال القلب - وإماطة الأذى عن الطريق - وهي من أعمال البدن - وثبت في الأدلَّة أن بعض الأعمال تَرْكُها كفرٌ؛ كالصلاة، وبعضها ليس كذلك، وأن بعض الأعمال فِعْلُها كفر؛ كالاستهزاء بالله تعالى، أو آياته، أو رسوله ﷺ.
21. في الحديث الردُّ على من زعم من المرجئة أن الإيمان قول باللسان دون عقد بالقلب[1].
22. في الحديث أن مَدَار الأعمال كلِّها على النيَّة والإخلاص لله تعالى، وملازمةِ الإخلاص في الأعمال كلِّها الظاهرة والباطنة.
23. في الحديث الحذر من الرياء والسُّمعة والعمل لغير الله عزَّ وجلَّ؛ فإن الله عزَّ وجلَّ غنيٌّ عن الأعمال التي يُشرَك فيها معه غيرُه
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:
«قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»[2].
24. قوله: «إنما الأعمال بالنيات» يرجع إلى معنيين؛ أحدهما: تجريد العمل من الشرك بالله بخالص التوحيد، والآخر: تجريده بخالص السنَّة[3].
المراجع
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 120).
- رواه مسلم (2985).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (6/ 332).
19. إن أفعال الله تعالى تَدُور بين الفضل والعدل، فما كَتَبه الله تعالى وقدَّره في هذه الحياة الدنيا، وكلُّ ما في الدنيا والآخرة، هو دائرٌ بين فضل الله وعَدْلِه؛ فرحمةُ الله تعالى فضلٌ، وتعذيبُه للعاصين عَدْلٌ، وقد أخبر سبحانه أن رحمتَه سَبَقت غضبه، وأن رحمته وَسِعَتْ كلَّ شيء، وأَمَرَنا أن نسأله من فضله وعطائه الجزيل.
21. الرحمة صفة ثابتة لله، وصف بها نفْسه، فهو سبحانه الرحمنُ الرحيم، والرحمةُ أيضًا صفةٌ يوصَف بها المخلوق، وللخالق سبحانه من الوصف ما يَليق بكماله، وللمخلوق ما يَتناسب معه، وتعالى سبحانه عن أن يُشبه خلقه، أو يُشبهه شيءٌ من خَلْقه.
22. أنكرت الأشاعرةُ والمعتزِلة صفة الرّحمة؛ بدعوى أنّها في المخلوق ضَعْفٌ وخَوَر وتألُّم للمرحوم، وهذا من أقبح الجهل؛ فإنّ الرّحمة إنّما تكون من الأقوياء للضُّعفاء، فلا تستلزم ضعفًا ولا خَوَرًا؛ بل قد تكون مع غاية العزَّة والقُدرة، فالإنسان القويُّ يرحم ولده الصَّغير وأبويه الكبيرين، ومن هو أضعف منه، وأين الضّعف والخور- وهما من أذمِّ الصّفات - من الرّحمة الّتي وصف اللّه نفسه بها، وأثنى على أوليائه المتصّفين بها، وأمرهم أن يتواصَوا بها؟! [1].
23. رحمته سبحانه وسعت في الدّنيا المؤمن والكافر والبرّ والفاجر؛ ولكنّها يوم القيامة تكون خاصّةً بالمتّقين؛
كما قال تعالى:
{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِـَٔايَٰتِنَا يُؤْمِنُونَ}
[الأعراف: ١٥٦]،
وقال تعالى:
{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ۖ }
[الأنعام: ٥٤]؛
أي: أوجبها على نفسه تفضُّلاً وإحسانًا، ولم يوجبها عليه أحد [2].
24.
{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍۢ رَّحْمَةً }
يدلُّ على أن كلَّ شيء وَصَله علم الله، وهو واصل لكلِّ شيء، فإنَّ رحمته وصلت إليه؛ لأن الله قرن بينهما في الحكم
{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍۢ رَّحْمَةً}
وهذه هي الرحمة العامَّة التي تشمل جميع المخلوقات، حتى الكفَّارَ؛ لأن الله قَرَن الرحمة هذه مع العلم، فكلُّ ما بلغه علمُ الله - وعلمُ الله بالغٌ لكلِّ شيء - فقد بلغته رحمته، فكما يَعلَم الكافرَ، يَرحَم الكافر أيضًا [3].
25. رحمة الله تعالى للكافر هي رحمة جسدية بَدَنية دنيوية قاصرة غاية القصور بالنسبة لرحمة المؤمن، فالذي يَرزُق الكافر هو الله الذي يَرزُقه بالطعام والشراب واللباس والمسكن والمنكح وغير ذلك [4].
26. رحمة الله للمؤمنين هي رحمة خاصَّة؛ لأنها رحمة إيمانية دينية دنيوية؛ ولهذا تجد المؤمن أحسن حالاً من الكافر، حتى في أمور الدنيا؛ لأن الله يقول:
{مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةً طَيِّبَةً ۖ }
[النحل: 97].
والحياة الطيِّبة هذه مفقودة بالنسبة للكفَّار؛ فحياتهم كحياة البهائم، أما المؤمن فإن أصابته سرَّاءُ، شكر، وإن أصابته ضرَّاءُ صبر، فهو في خير في الحالين، وقلبُه منشرِح مطمئنٌّ متَّفِق مع القضاء والقدر، لا جزع عند البلاء، ولا بطر عند النعماء؛ بل هو متوازن مستقيم معتدل [5].
27. الجمع بين قوله تعالى:
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍۢ رَّحْمَةً
[غافر: 7]،
وقوله:
{وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}
[الأحزاب: 43].
(ِبالْمُؤْمِنِين) متعلِّق بـ(رحيمًا)، وتقديم المعمول يدلُّ على الحصر، فيكون معنى الآية: وكان بالمؤمنين لا غيرِهم رحيمًا: فالرحمة في الآية الأولى رحمة عامَّة للكافر والمؤمن، وفي الآية الثانية رحمةٌ خاصَّة متَّصِلة برحمة الآخرة، لا ينالها الكفَّار [6].
28.
قال تعالى:
{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ۖ }
[الأنعام: ٥٤]؛
أي: أوجب على نفسه الرحمة، فالله عزَّ وجلَّ لكرمه وفضله وجُوده أَوْجَب على نفسه الرحمة، وجَعَل رحمته سابقةً لغضبه؛
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍۢ}
ﱠ [فاطر: 45]؛
لكن حِلمه ورحمته أوجبت أن يبقى الخلق إلى أجل مسمًّى [7].
29. إن الرحمن دالٌّ على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دالٌّ على تعلُّقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دالٌّ أن الرحمة صفته، والثاني دالٌّ على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردتَ فَهم هذا،
فتأمَّل قوله:
{وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}
[الأحزاب: 43]،
﴿ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾
[التوبة: 117]،
ولم يجئ قطُّ (رحمن بهم)، فعُلم أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته [8].
المراجع
1. "شرح العقيدة الواسطية" لمحمد خليل هرّاس (ص: 106، 107).
2. "شرح العقيدة الواسطية" لمحمد خليل هرّاس (ص: 107).
3. "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 248، 249).
4. "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 249).
5. "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 249).
6. "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 250، 251).
7. "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 251).
8. "بدائع الفوائد" لابن القيم (1/ 24).
8-هذا الحديث حُجَّةٌ أن الفرائض تُسمَّى إسلامًا، ودلَّ قوله: «أفلح إن صدق» على أنه إن لم يَصدُق في التزامها أنه ليس بمفلِح، وهذا خلاف قول المرجئة[1]
9- إن طلبَ الجنة بالأعمال الصالحة مطلوبٌ شرعًا، وفي هذا ردٌّ على الصوفية الذين يرَوْن أن طلبَ الثواب، والخوف من العقاب نقصٌ[2]
المراجع
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 104).
- انظر: "الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية وتتمتها الرجبية"، عبد الرحمن بن ناصر البراق (ص: 47).
36.في الحديث بيان أن الشرك بالله هو أعظم الكبائر على الإطلاق؛
قال الله تعالى:
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}
[لقمان: 13]،
وعن عَبْدِاللهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ:
سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ». قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ...
[1].
37.الساحر وإن لم يُسَمِّ أفعاله عبادةً للشيطان، فهو عبادةٌ له، وإن سمَّاه بما سمَّاه به؛ فإن الشِّرك والكفر هو شرك وكُفر لحقيقته ومعناه، لا لاسمه ولَفظِه؛ فمن سَجَد لمخلوق وقال: ليس هذا بسجود له، هذا خضوع وتقبيل الأرض بالجبهة كما أقبِّلها بالنِّعم، أو هذا إكرام، لم يَخرُج بهذه الألفاظ عن كونه سجودًا لغير الله، فليسمِّه بما شاء[2].
38.اختلفوا فيمن يتعلَّم السِّحر ويستعمله. فقال أبو حنيفة ومالك وأحمدُ: يكفر بذلك، وعن بعض الحنفيّة: إن تعلَّمه ليتَّقِيَه أو ليجتنَّبه، فلا يكفر، ومن تعلَّمه معتقدًا جوازَه أو أن ينفعه، كفر، وكذا من اعتقد أن الشّياطين تفعل له ما يشاء، فهو كافر[3].
قال الشّافعيُّ: إذا تعلَّم السِّحر، قلنا له: صِفْ لنا سحرك، فإن وَصَف ما يوجب الكفر؛ مثل ما اعتقده أهل بابل من التّقرُّب إلى الكواكب السَّبعة، وأنّها تفعل ما يُلتمَس منها، فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر، فإن اعتقد إباحته فهو كافر[4].
المراجع
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 573).
- رواه البخاريُّ (4477)، ومسلم (86).
- "بدائع الفوائد" لابن القيم (2/ 760).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للبخاريِّ (14/ 63).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للبخاريِّ (14/ 63).
17. «لا إله إلا الله» هي كلمة الإخلاص والتوحيد، ومعناها: لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، فهي مشتملة على نفي وإثبات، نفيٍ عامٍّ في أوَّلها، وإثبات خاصٍّ في آخرها، النفيُ العامُّ الذي في أولها هو نفيُ العبادة عن كلِّ ما سوى الله، والإثبات الخاصُّ الذي في آخرها هو إثبات العبادة لله وحده لا شريك له[1].
18. أفضل شُعب الإيمان وأعلاها: التوحيدُ، وهو "قول: لا إله إلا اللهُ"، القول المواطئ للقلب، بإخلاص وصِدق ويقين، فيطمئنُّ القلب بها، وتَأنَس النفس إليها، فلا يصحُّ شيءٌ من هذه الشُّعب إلا بها.
19. قول: "لا إله إلا الله" يشمَل القول باللسان، والتصديقَ والاعتقادَ بالقلب.
20. "قوله: «لا شريك له»، تأكيدٌ لقوله: «وحدَه»؛ لأن المتَّصِف بالوحدانية لا شريكَ له[2].
21. «لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»؛ أي: لله تعالى الْمُلْكُ المطلَق، وله جميع أصناف المحامد كلِّها في الأولى والآخرة، وحَمْدُ أهل السماء والأرض، فهو المستحِقُّ لها وحدَه، وهو سبحانه القادرُ على فعل كلِّ شيء، له القدرةُ الظاهرة والباطنة في السموات والأرض.
22. «اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ»؛ أي: لا يستطيع أحدٌ أن يمنع عطاءً أو رزقًا أو قضاءً لأحد من خلقك، ولا يُعطي أحدًا أردتَ مَنعَه؛ فكلُّ عطاء أو منعٍ إنما يكون بإذن الله وأمره.
المراجع
- "شرح سنن أبي داود" للعباد (3/191).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (6/ 133).
27. من أوضح صفات الإيمان وشُعبه وأفضلِها: ذكرُ الله تعالى؛ فهو حياة قلب المؤمن؛ بل إن الله تعالى حَصَر الإيمان وقَصَره على بعض الصفات، أوَّلُها الذين تَجِل قلوبهم عند ذكر الله وآياته
قال تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}
[الأنفال: ٢]
9. قوله: «كان اللّه ولم يكن شيء غيره» فيه دلالة على أنّه كان الله سبحانه وتعالى في الأزل متفرِّدًا وحدَه، ولم يكن شيء غيره، لا الماء، ولا العرش، ولا غيرهما؛ لأنّ كلَّ ذلك غير الله تعالى.
10. قوله: «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ»؛ أي: عرش الرّحمن الذي استوى عليه - جلَّ جلاله - وهو أعلى المخلوقات وأكبرها وأعظمها، وصفه الله تعالى في كتابه بأنّه عظيم، وبأنّه كريم، وبأنه مجيد.
11.
قال اللّه تعالى:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ
[غافر: ٧]
وقال سبحانه:
وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ
[الحاقة: ١٧]
فأخبر أنّ للعرش حَمَلةً اليومَ، ويومَ القيامة، وأنّ حَمَلته ومن حوله يسبِّحون ويستغفرون للمؤمنين
وقال تعالى:
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ
[الزمر: ٧٥]
فذكر هنا أنّ الملائكة تَحُفُّ من حول العرش، وذكر في موضِعٍ آخَرَ أنّ له حَمَلةً، وجَمَع في موضع ثالث بين حَمَلته ومَن حولَه فقال:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُﱠ
[غافر: ٧][1].
12. أخبر الله تعالى في كتابه أنّ عرشه كان على الماء قبل أن يَخلُق السّمواتِ والأرضَ
قال تعالى:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِﱠ
[هود: ٧]
وثبت في صحيح مسلم عن عبد اللّه بن عمرو عن النّبيِّ ﷺ أنّه قال: «إنّ اللَّه قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يَخلُق السّمواتِ والأرضَ بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء»، وهذا التّقدير بعد وجود العرش وقبل خلق السّموات والأرض بخمسين ألفَ سنةٍ[2].
13. تمدَّح الله سبحانه وتعالى بأنّه ذو العرش
كقوله سبحانه:
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ
[غافر: ١٥].
14. إن أهل السنَّة والجماعة من أصحاب الرسول ﷺ والتابعين لهم بإحسان مجمِعون على أن الله في السماء، وأنه فوق العرش، وأن الأيديَ تُرفَع إليه سبحانه كما دلَّت على ذلك الآيات والأحاديث الصحيحة، كما أجمعوا أنه سبحانه غنيٌّ عن العرش وعن غيره، وأن جميع المخلوقات كلها فقيرة إليه، كما أجمعوا أنه سبحانه في جهة العُلْوِ فوق العرش، وفوق جميع المخلوقات، وليس في داخل السموات - تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا - بل هو سبحانه وتعالى فوق جميع المخلوقات، وقد استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، ولا يشابه خلقه في ذلك، ولا في شيء من صفاته، كما قال الإمام مالك رحمه الله لَمَّا سُئل عن الاستواء، قال: (الاستواء معلوم، والكَيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) يعني عن كيفية الاستواء[3].
15. في الحديث أنّ الله تعالى قد كتب في اللَّوح المحفوظ جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة.
16. عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»[4]. والمراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره، لا أصل التقدير؛ فإن ذلك أزليٌّ لا أوَّلَ له.
17. قولُه: «وكان عرشه على الماء»؛ معناه: أنّه خَلَق الماءَ سابقًا، ثمَّ خلق العرش على الماء، وقد وقع في قصَّة نافعِ بنِ زيدٍ الحِمْيَريِّ بلفظ: «كان عرشه على الماء، ثمّ خَلَق القَلَم فقال: اكتُبْ ما هو كائن، ثمّ خلق السّماواتِ والأرضَ وما فيهنّ»، فصرَّح بترتيب المخلوقات بعد الماء والعرش[5].
18. أشار بقوله: «وكان عرشه على الماء» إلى أنّ الماء والعرش كانا مبدأَ هذا العالم؛ لكونهما خُلِقا قبل خلق السّماوات والأرض، ولم يكن تحت العرش إذ ذاك إلّا الماء، ومحصِّل الحديث أنّ مُطلَق قوله: «وكان عرشه على الماء» مقيَّد بقوله: «ولم يكن شيء غيره»، والمراد بـ(كان) في الأوَّل الأَزَليَّة، وفي الثّاني: الحدوث بعد العَدَم.
19. ما رواه أحمدُ والتّرمذيُّ وصحَّحه من حديث عبادةَ بنِ الصّامت مرفوعًا: «أوّل ما خلق اللّه القلم، ثمّ قال: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة»، يُجمَع بينه وبين حديث الباب بأنّ أوَّليَّة القَلَم بالنّسبة إلى ما عدا الماءَ والعرش، أو بالنّسبة إلى ما منه صَدَر من الكتابة؛ أي: أنّه قيل له: اكتب أوّل ما خُلق[6].
المراجع
- "مجموع الفتاوى" (6/ 550، 551).
- "مجموع الفتاوى" (6/ 550، 551).
- "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز" (2/105).
- رواه مسلم (2653).
- "فتح الباري" لابن حجر (6/ 289).
- "فتح الباري" لابن حجر (6/ 289).
29. الخلاف بين الأشاعرة وأهل السنَّة هو في أصل كلام الله تعالى؛ فأهل السنَّة يقولون: كلام الله تعالى كلام حقيقيٌّ مسموع يتكلَّم سبحانه بصوت وحرف، والأشاعرة لا يُثبتون ذلك؛ وإنما يقولون: كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بحرف وصوت؛ ولكن الله تعالى يَخلُق صوتًا يعبِّر به عن المعنى القائم بنفسه، ولا شكَّ في بطلان قولهم، وهو في الحقيقة قول المعتزلة؛ لأن المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق، وهو كلام الله، وهؤلاء يقولون: القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام الله، فقد اتَّفَق الجميع على أن ما بين دفَّتي المصحف مخلوق[1].
30. التّحريم لغةً: المنع عن الشّيء، وشرعًا: ما يستحقُّ فاعله العقاب، وهذا غير صحيح إرادته في حقّه تعالى؛ بل المراد به أنّه تعالى منزَّه متقدِّس عن الظُّلم، وأطلق عليه لفظ التّحريم لمشابهته الممنوع بجامع عدم الشّيء، والظُّلم مستحيل في حقِّه تعالى؛ لأنّ الظُّلم في عُرف اللّغة التّصرُّف في غير الْمُلك أو مجاوزة الحدِّ، وكلاهما مُحَال في حقِّه تعالى؛ لأنّه الملك للعالم كلِّه المتصرِّف بسُلطانه في دقِّه وجِلِّه[2]؛ فاللهُ تعالى وحْدَه هو الـعدلُ، وبالـعدل أمَر عباده
قال تعالى:
﴿وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾
[ق: 29]
وقال تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾
[النساء: 40].
31. في الحديث إشارة إلى أن مُلْكه سبحانه لا يَزيدُ بطاعة العباد، ولو كانوا كلُّهم بَرَرةً أتقياءَ، ولا يَنقُص مُلْكُه سبحانه بمعصية العاصين، ولو كان الجنُّ والإنس كلُّهم عُصاةً فَجَرةً؛ فإنه سبحانه الغنيُّ بذاته عمَّن سواه، وله الكمالُ المطلَق في ذاته وصفاته وأفعاله، فمُلْكُه مُلكٌ كاملٌ، لا نقْصَ فيه بوجه من الوجوه[3].
32. إن العباد لا يقدِرون أن يوصلوا إلى الله نفعًا ولا ضرًّا؛ فإن اللهَ تعالى في نفْسه غنيٌّ حميدٌ، لا حاجةَ له بطاعات العباد، ولا يعود نفْعُها إليه؛ وإنما هم ينتفعون بها، ولا يتضرَّرُ بمعاصيهم؛ وإنما هم يتضرَّرون بها
قال الله تعالى:
﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ۚ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾
[آل عمران: 176][4]
فاللهُ وحْدَه هو مَن يملك النَّفعَ والضرَّ.
33. في الحديث كمال سلطان الله عزَّ وجلَّ وغناه عن خلقه؛ لقوله عزّ وجل: «إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوْا ضَرِّي... وَلَنْ تَبْلُغُوْا نَفْعِي»؛ وذلك لكمال سلطانه عزَّ وجلَّ وكمال غناه، فكأنه تعالى قال: إنما طلبتُ منكم الاستغفار من الذنوب لا لحاجتي لذلك، ولا لتضرُّري بمعاصيكم؛ ولكن المصلحة لكم[5].
34. قَوْلُهُ تَعَالَى: «كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ» ظَاهِرُ هذا أنهم خُلقوا على الضلال إِلَّا مَن هداه اللَّهُ تعالى، وفي الحديث المشهور: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» فقد يكون المراد بالأوَّل وصفَهم بما كانوا عليه قبل مبعث النّبيِّ ﷺ، وأنّهم لو تُركوا وما في طباعهم من إيثار الشّهوات والرّاحة وإهمال النّظر لضلُّوا، وفي هذا دليل لمذهب سائر أهل السّنَّة أنّ المهتديَ هو من هداه اللّه، وبهدى اللّه اهتدى، وبإرادة اللّه تعالى ذلك، وأنّه سبحانه وتعالى إنّما أراد هداية بعض عباده وهم المهتدون، ولم يُرد هداية الآخرين، ولو أرادها لاهتدَوا، خلافًا للمعتزلة في قولهم الفاسد أنّه سبحانه وتعالى أراد هداية الجميع جلَّ الله أن يريد ما لا يقع، أو يقع ما لا يريد[6].
35. إن الله تعالى قادر على الظلم؛ لكنه حرَّمه على نفسه؛ لكمال عدله، ووجُه ذلك: أنه لو كان غيرَ قادر عليه، لم يُثْنِ على نفسه بتحريم الظلم لأنه غيرُ قادر[7].
36. من صفات الله ما هو منفيٌّ؛ مثل الظلم؛ ولكن اعلم أنه لا يوجد في صفات الله عزّ وجل نفيٌ إلا لثبوت ضدِّه، فنفيُ الظلم يعني ثبوت العدل الكامل الذي لا نقصَ فيه[8].
37. في الحديث الردُّ على القدرية في قولهم باستقلال العبد في إيمانه، وكفره، وهداه، وضلاله[9].
38. في الحديثِ الردُّ على الجبرية، وإثبات فعل العبد[10].
39. الـخيرُ والشرُّ كلُّه من الله خلْقًا، ومن الـعبْدِ كَسبًا[11].
40. التَّشبيهُ في الـحديث لتقريب الــمعنى إلى أفهام الـعباد؛ وإلا فمِن الــمعلوم يقينًا أنَّ عطاء الله عبادَه مهما بلَغ لا يَنقُص شيئًا قطُّ من خزائنه [12].
المراجع
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 238).
- "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 669).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 46- 47).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 43).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 249).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 132، 133).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 243).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 243).
- انظر: "الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية وتتمتها الرجبية"، عبد الرحمن بن ناصر البراق (ص: 54).
- انظر: "الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية وتتمتها الرجبية"، عبد الرحمن بن ناصر البراق (ص: 57).
- انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للمُلَّا علي القاري (4/ 1614).
- انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 133).
كما في قوله تعالى:
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا
[الأعراف: 180]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ
[الإسراء: 110]
المراجع
- أخرجه أحمد (4318)، وابن حبان في صحيحه (972)، وصحَّحه الهيثميُّ في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (10/ 136).
15. «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»؛ أي: أنت سيِّدي، ومالكي، لا معبودَ لي غيرُك، ولا ربَّ لي سواك؛ ففيه الإقرار لله تعالى بالربوبية والألوهية.
16. «خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ»؛ أي: لا يستحقُّ أحدٌ أن أتوجَّه إليه بالعبادة غيرُك، فأنت خالقي. وفيه إقرار لله تعالى بالربوبية والألوهية.
17. قيل في «وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ»: يعني العهد الذي أخَذَه الله على عباده في أصل خلقهم، حين أخرجهم من أصلاب آبائهم أمثال الذَّرِّ، وأشهدهم على أنفسهم:
{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ}
[الأعراف: 172]
فأقرُّوا له في أصل خلقهم بالربوبية، وأذعنوا له بالوَحدانية[1].
المراجع
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 75).
17. أعمال الكافر مردودة عليه في الآخرة، ولا تُقبَل منه؛
قال تعالى:
ومنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
[البقرة: 217]