7. أنكرت الأشاعرة والمعتزلة صفة الرّحمة؛ بدعوى أنّها في المخلوق ضعفٌ وخَوَر وتألُّم للمرحوم، وهذا من أقبح الجهل؛ فإنّ الرّحمة إنّما تكون من الأقوياء للضّعفاء، فلا تستلزم ضعفًا ولا خورًا؛ بل قد تكون مع غاية العزّة والقُدرة؛ فالإنسان القويُّ يَرحَم ولده الصّغير وأبويه الكبيرين، ومن هو أضعفُ منه، وأين الضّعف والخور- وهما من أذمِّ الصّفات - من الرّحمة الّتي وصف اللّه نفسه بها، وأثنى على أوليائه المتَّصفين بها، وأمرهم أن يتواصَوا بها؟![1]

8. رحمته سبحانه وَسِعت في الدّنيا المؤمنَ والكافر والبرَّ والفاجر؛ ولكنّها يومَ القيامة تكون خاصَّةً بالمتَّقين؛ 

كما قال تعالي

فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ

[الأعراف: ١٥٦]،


وقال تعالى:

كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ

[الأنعام: ٥٤]

 أي: أوجبها على نفسه تفضُّلاً وإحسانًا، ولم يوجبها عليه أحد[2]

9.

قوله تعالى:

رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا

يدلُّ على أن كلَّ شيء وَصَله علم الله، وهو واصل لكلِّ شيء، فإنَّ رحمته وصلت إليه؛ لأن الله قرن بينهما في الحكم

رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا

وهذه هي الرحمة العامَّة التي تشمل جميع المخلوقات، حتى الكفَّارَ؛ لأن الله قَرَن الرحمة هذه مع العلم، فكلُّ ما بلغه علمُ الله - وعلمُ الله بالغٌ لكلِّ شيء - فقد بلغته رحمته، فكما يَعلَم الكافرَ، يَرحَم الكافر أيضًا[3].

10. رحمة الله تعالى للكافر هي رحمة جسدية بَدَنية دنيوية قاصرة غاية القصور بالنسبة لرحمة المؤمن، فالذي يَرزُق الكافر هو الله الذي يَرزُقه بالطعام والشراب واللباس والمسكن والمنكح وغير ذلك[4]

11. رحمة الله للمؤمنين هي رحمة خاصَّة؛ لأنها رحمة إيمانية دينية دنيوية؛ ولهذا تجد المؤمن أحسن حالاً من الكافر، حتى في أمور الدنيا؛

لأن الله يقول:

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ ﱠ

[النحل: 97]

 والحياة الطيِّبة هذه مفقودة بالنسبة للكفَّار؛ فحياتهم كحياة البهائم، أما المؤمن فإن أصابته سرَّاءُ، شكر، وإن أصابته ضرَّاءُ صبر، فهو في خير في الحالين، وقلبُه منشرِح مطمئنٌّ متَّفِق مع القضاء والقدر، لا جزع عند البلاء، ولا بطر عند النعماء؛ بل هو متوازن مستقيم معتدل[5].

12. الجمع بين

قوله تعالى:

رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا

[غافر: 7]

وقوله:

﴿ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾

[الأحزاب: 43]

(ِبالْمُؤْمِنِين) متعلِّق بـ(رحيمًا)، وتقديم المعمول يدلُّ على الحصر، فيكون معنى الآية: وكان بالمؤمنين لا غيرِهم رحيمًا؛ فالرحمة في الآية الأولى رحمة عامَّة للكافر والمؤمن، وفي الآية الثانية رحمةٌ خاصَّة متَّصِلة برحمة الآخرة، لا ينالها الكفَّار[6]. 

13 .  قال تعالى:

كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَﱠ

[الأنعام: ٥٤]

أي: أوجب على نفسه الرحمة، فالله عزَّ وجلَّ لكرمه وفضله وجُوده أَوْجَب على نفسه الرحمة، وجَعَل رحمته سابقةً لغضبه؛

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ

ﱠ[فاطر: 45]

 لكن حِلمه ورحمته أوجبت أن يبقى الخلق إلى أجل مسمًّى[7]

14. إن الرحمن دالٌّ على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دالٌّ على تعلُّقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دالٌّ أن الرحمة صفته، والثاني دالٌّ على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردتَ فَهم هذا، فتأمَّل

قوله:

﴿ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾

[الأحزاب: 43]،

﴿ إِنَّهُۥ بِهِمۡ رَءُوفٞ رَّحِيمٞﱠ ﴾

[التوبة: 117]،

ولم يجئ قطُّ (رحمن بهم)، فعُلم أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته[8].

15. جعلُ صفة الرحمة واسم الرحمة مجازًا كجعلِ صفة الْمُلك والربوبية مجازًا، ولا فرق بينهما في شرع ولا عقل ولا لغة. وإذا أردتَ أن تعرف بُطلان هذا القول، فانظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته الخاصَّة والعامَّة[9].

المراجع

  1. "شرح العقيدة الواسطية" لمحمد خليل هرَّاس (ص: 106، 107).
  2. "شرح العقيدة الواسطية" لمحمد خليل هرَّاس (ص: 107).
  3. شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 248، 249).
  4. "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 249).
  5. "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 249).
  6. شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 250، 251).
  7. شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 251)
  8. بدائع الفوائد" لابن القيم (1/ 24)
  9. مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم (ص 481 . 482)


14. «إن الله تجاوز لأمَّتي ما حدَّثت به أنفسَها ما لم تتكلَّم به أو تعمل»: المراد به الخواطرُ التي لا تستقِرُّ، وسواءٌ كان ذلك الخاطر غِيبةً أو كُفْرًا أو غيرَه، فمن خطر له الكفرُ مجرَّد خَطَرانٍ من غير تعمُّد لتحصيله، ثم صَرَفه في الحال، فليس بكافر، ولا شيء عليه[1].

15. قال الصحابة: يا رسول الله، نجد في نفوسنا ما نحبُّ أن نكون حمَمَةً – يعني: فحمة محترقة - ولا نتكلَّم به، قال: «ذاك صريح الإيمان»؛ يعني: ذاك هو الإيمان الخالص؛ لأن الشيطان لا يُلقي مثلَ هذه الوساوس في قلب خَرِب، في قلب فيه شكٌّ؛ إنما يتسلَّط الشيطان على قلبٍ مؤمن خالصٍ ليُفسده[2].

16. لو أن المسلم حدَّث نفسَه بمعصية، لم يؤاخذ، فأما إذا عزم على المعصية، فإنه يَخرُج عن تحديث النفس، ويصير من أعمال القلب؛ فإنَّ عَقْدَ النيَّة على الفعل من عمل القلب، فحينئذ يَأثَم بنيَّة السرِّ[3].

المراجع

  1. "الأذكار" للنوويِّ (ص: 345).
  2. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 324).
  3. " كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (3/ 488).

54. من أسماء الله الحسنى أنه غفور رحيم؛

قال تعالى:

﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ﴾

[الزمر: 53]

فالله - عزَّ وجلَّ - يغفر الذنوب، صغيرَها وكبيرَها.

55. من أعظم أسباب المغفرة، وأجلّها عند الله تعالى: توحيدُه، وإفرادُه بالعبادة، وترك الشرك؛

قال تعالى:

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10)﴾

.[المائدة: 9- 10]،

وقال تعالى:

﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِۦ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰٓ إِثْمًا عَظِيمًا﴾

[النساء: 48]

وفي الحديث: «يا بْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً».

56. «ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» فيه: دلالة على فضل التوحيد وأهميته، وأنه سببٌ لمغفرة الذنوب؛

قال تعالى:

﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِۦ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰٓ إِثْمًا عَظِيمًا﴾

[النساء: 48]

 فمهما عظُمت الذنوب، فرحمةُ الله أعظم؛ طالما أنه موحِّد لربِّه، لا يُشرك به شيئًا.


4. في الحديث بعض صفات الله تعالى، وأسماء الله وصفاته لا تُعلَم إلا بالتوقيف، والتوقيفُ كتاب الله تعالى وسنَّة نبيِّه ، وليس للقياس في ذلك مدخل؛ فيجب الإيمان بها وَفْقَ ما جاءت به نصوص الكتاب والسنَّة، من غير تعطيل أو تشبيه أو تمثيل؛

قال تعالى:

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ

[الشورى: 11]

 وما سوى ذلك فهو قول على الله بلا علم.
5. صفاتُه تعالى جميعُها من صفات الكمال، التي لا يعتريها النقص بأيِّ وجه من الوجوه، ومن هذه الصفات: العلمُ والحياة، والسمع والبصر، والقدرة والحكمة، والعزَّة والمغفرة، والرحمة والعفو واللطف، وغير ذلك من صفات الكمال والجلال التي اتَّصف بها ربُّ العالمين.
6. إن الله تعالى طيِّب، وأفعالُه طيبةٌ، وصفاته أطيبُ شيء، وأسماؤه أطيبُ الأسماء، واسمه الطيِّبُ، ولا يصدُر عنه إلا طيبٌ، ولا يصعَدُ إليه إلا طيبٌ، ولا يَقرُب منه إلا طيِّب، وإليه يصعَدُ الكَلِم الطيبُ، وفِعلُه طيِّب، والعمل الطيِّب يَعرُج إليه؛ فالطيِّبات كلُّها له، ومضافةٌ إليه، وصادرة عنه، ومنتهية إليه[1].
7. صفات الله تعالى تنقسم إلى قسمين: ثبوتية وسلبية، فالصفات الثبوتية هي التي أثبتها الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله ؛ كالعلم والرحمة والقدرة والعلوِّ ونحوها، فيجب إثباتها على الوجه اللائق به سبحانه، والصفات السلبية هي التي نفاها الله تعالى عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله ؛ كالنوم والموت والظلم ونحوها، فيجب نفيُها عن الله تعالى مع وجوب إثبات ضدِّها على الوجه الأكمل، من كمال الحياة والقيومية والعدل ونحو ذلك.
8. في الحديث إثبات أن لله وجهًا حقيقةً، ويشهد له

قوله تعالى:

 وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ

[الرحمن: ٢٧]

 ونقول بأن هذا الوجه لا يماثل أوجه المخلوقين

لقوله تعالى:

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ

[الشورى: 11]

 ونجهل كيفية هذا الوجه

لقوله تعالى:

وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا

[طه: 110][2].

 
9. في الحديث نفيُ صفة النوم عن الله تعالى؛ إذ النومُ مستحيلٌ في حقِّه تعالى، فهي صفة من صفات النقص، ومُحَالٌ على الله تعالى أن يكون به نقصٌ؛ ما يستلزم إثبات ضدِّها، وهو كمال حياته وقيوميَّته

قال تعالى:

اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ

[البقرة: 255].

10. الحديث فيه دليلٌ على إثبات صفة العُلوِّ لله تعالى؛ لقول النبيِّ : «يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ».

المراجع

  1. "الصلاة وأحكام تاركها" لابن القيم (ص 151).
  2. "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 284).

10. (الحيُّ)؛ فالله هو الحيُّ الكامل في حياته، لم يَسبِق حياتَه عَدَمٌ، ولا يَلحَقها فناءٌ؛ لأنه الأول الذي ليس قبلَه شيءٌ، والآخِر الذي ليس بعدَه شيءٌ، فهو تعالى الحيُّ الكامل في حياته، كذلك حياتُه لا يَلحَقها نقصٌ بوجه من الوجوه، وحياة غيره كلُّها نقصٌ فالسمع والبصر والصحة، كل ذلك ناقصٌ، أما الربُّ عزَّ وجلَّ فهو كامل الحياة[1].

11. (القيُّوم) له معنيان: القائم بنفسه، والقائمُ على غيره؛ فالقائم بنفسه، لا يحتاج لغيره

{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}

[آل عمران: ٩٧]

{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}

[الزمر: ٧]

والقائمُ على غيره، فهو قائم على كلِّ مَن سواه تعالى [2].

المراجع

  1. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 685).
  2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 685، 686).


10. ثبت اسم الله تعالى (الصَّمَد) في القرآن والسنَّة على سبيل الإطلاق، مرادًا به العَلَمية، ودالًّا على الوصفية، والصَّمَدُ اسمٌ يدلُّ على ذات الله وحدَها بالتضمُّن، وعلى صفة الصمدية المطلَقة بدلالة المطابقة، ويدلُّ باللزوم على صفات الأَحَدية، والحياة، والقيُّومية، وكمال العِلم، والقدرة، والعزَّة، والقوَّة، والحكمة، والعظمة، والعدل، والحُكم، وكلِّ ما يلزم لكمال الذات والصفات التي تحقِّق السُّؤْدَدَ في كلِّ شيء. 

11. ورد (الصمد) في القرآن الكريم في موضع واحد، في سورة الإخلاص، وورد في السنَّة في عدَّة مواضع؛ منها ما ورد في الحديث القدسيِّ:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:

«قَالَ اللَّهُ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ، لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفْئًا أَحَدٌ»[1].

12. الصمد هو السيِّد الذي لا يكافئه من خلقه أحد، والمستغني عن كلِّ مَن سواه، وكلُّ من سواه مفتقِر إليه، معتمِد عليه، وهو الكامل في جميع صفاته وأفعاله، لا نقص فيه بوجه من الوجوه، ولا يوصف بصفته أحد، وليس فوقه أحد، الذي يَصمُد إليه الناس في حوائجهم وسائر أمورهم، فأُصمِدت إليه الأمور، فلم يقضِ فيها غيرُه، هو المقصود إليه الرغائب، والمستغاث به عند المصائب، هو الذي لا جوف له، وليست له أحشاء، لا يدخل فيه شيء، ولا يخرج منه شيء.

المراجع

  1. رواه البخاريُّ (4974).


17. في الحديث جعل إنكار المنكَر بالقلب من مراتب الإيمان، وهو بُغضه وكراهته المستلزم لتركه[6].

المراجع

  1. انظر: "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل" لابن القيم (ص: 170).


3. في الحديث أنه ما من أحد أتى بعد بعثة رسول الله ﷺ وسمع بدعوته وبما أُنزل به، ثم اختار ألَّا يؤمن به، إلَّا كان مصيرُه النارَ، ويشهد لذلك

قوله تعالى:

 إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ

[آل عمران: 19]

وقوله تعالى:

وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ

[آل عمران: 85].

4. في الحديث إشارةٌ إلى أن من لم تبلغه الدعوة، ولا سَمِع بها، فهو معذور أمام الله تعالى

لقوله تعالى:

وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًاﱠ

[الإسراء: 15]

 وكذلك مَن سَمِع بالدعوة، ولم يستطع فَهْمَها بسبب العُجمة، أو عيوب الحواسِّ والإدراك، أو من وَصَلَتْه مشوَّهةً محرَّفة غيرَ واضحة.

5. في الحديث إشارة إلى أن كلَّ من سَمِع بأمره ﷺ في أطراف الأرض وجزائر البحور من أهل الشرك، ففَرْضٌ عليه البحثُ عن حاله والإيمان به[1].

6. صحَّ أنه لا عذاب على كافر أصلًا حتى يَبلُغه نِذَارة الرسول ﷺ، وأما من بَلَغه ذِكر النبيِّ محمدٍ ﷺ وما جاء به ثم لا يَجِد في بلاده من يُخبِره عنه، ففَرْضٌ عليه الخروجُ عنها إلى بلاد يَستبرئ فيها الحقائق[2].

7. في الحديث نَسْخُ الْمِلل كُلِّها برسالة نَبِيِّنا ﷺ[3].

8. يشمل قَوْلُهُ ﷺ: «لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ» من كان موجودًا في زمنه ﷺ ومن أتى بعده إلى يوم القيامة، فكلُّهم يجب عليهم الدّخول في طاعته ﷺ.

9. ذَكَر ﷺ اليهوديَّ والنّصرانيَّ تنبيهًا على من سواهما؛ لأنّ اليهود والنصارى لهم كتاب، فإذا كان هذا شأنَهم مع أنّ لهم كتابًا، فغيرُهم ممّن لا كتاب له أَوْلى[4].

10. اختلف أهل العلم فيمن لم تبلغه الدعوة ومات على ذلك، وكذلك أطفال المشركين على أقوال ذكرها ابن القيم بأدلَّتها، واختار "أنهم يُمتحَنون في عَرَصات القيامة، ويُرسَل إليهم هناك رسول، وإلى كلِّ مَن لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنة، ومن عصاه أدخله النار، وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنة، وبعضهم في النار، وبهذا يتألَّف شمل الأدلَّة كلِّها، وتتوافق الأحاديث... وقد جاءت بذلك آثارٌ كثيرة يؤيِّد بعضُها بعضًا[5].

11. إن الله يقضي بين عباده يوم القيامة بحُكمه وعَدله، ولا يعذِّب إلَّا من قامت عليه حُجَّته بالرُّسل، فهذا مقطوع به في جُملة الخلق[6].

12. كَوْنُ زَيْدٍ بعَينه وعَمْرٍو بعَينه قامت عليه الحُجَّة أم لا، فذلك مما لا يمكِن الدخول بين الله وبين عباده فيه؛ بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كلَّ من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذِّب أحدًا إلَّا بعد قيام الحُجَّة عليه بالرسول. هذا في الجملة، والتعيينُ موكولٌ إلى علم الله عزَّ وجلَّ، وحكمُه هذا في أحكام الثواب والعقاب. وأما في أحكام الدنيا، فهي جارية مع ظاهر الأمر[7].

13. ظاهر الحديث أن مجرَّد السماع تقوم به الحُجَّة؛ لأنه قال «لا يَسْمَعُ بِي»؛ ولكن قيِّد هذا الإطلاق بسماع يبيَّن به الأمر

لقوله تعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ

[إبراهيم: 4]

 فلابدَّ أن يَحصُل البلاغ الذي تقوم به الحُجَّة[8].

14. الذين في أوربا وغيرها ممن لم يصل إليهم الإسلام إلَّا مشوَّهًا، هل يُعذَّبون؟ نقول في هؤلاء: هم الآن يَدِينون بالكُفر، ويَرَون أنهم طَرَفُ نَقيضٍ مع الإسلام، فنحن نَحكُم عليهم بأنهم كفَّار في الظاهر، فإذا لم تَبلُغهم الدعوة على وجهٍ تَقوم به الحُجَّة، فأمرهم إلى الله يوم القيامة؛ لكن نحن نعاملهم الآن بما تقتضيه حالهم؛ لأنهم كفَّار[9].

15. في الحديث دليل على أن الّذين كانوا متمسِّكين بدين المسيح قبل مبعث محمّدٍ ﷺ كانوا على دين اللّه - عزَّ وجلَّ - وأمّا من حين بُعِث محمّد ﷺ فمن لم يؤمن به فهو من أهل النّار[10].

المراجع

  1. "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم (5/ 117، 118).
  2. "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم (5/ 117، 118).
  3. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 188).
  4. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 188).
  5. "طريق الهجرتين وباب السعادتين" لابن القيم (ص: 587، 588).
  6. "طريق الهجرتين وباب السعادتين" لابن القيم (ص: 413).
  7. "طريق الهجرتين وباب السعادتين" لابن القيم (ص: 413).
  8. "التعليق على مسلم" لابن عثيمين (1/490-491).
  9. "التعليق على مسلم" لابن عثيمين (1/490-491).
  10. "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" لابن تيمية (2/ 90).

21. إن محبَّة الله تعالى ورسوله ﷺ يجب أن تكون مقدَّمةً على حبِّ الإنسان لأهله وماله وولدِه، وتلك علامةُ الإيمان؛ عَنْ أَنَسٍ رضى الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»[1].

22. إن محبَّة النبيِّ ﷺ من أصول الإيمان، وهي مقارِنةٌ لمحبَّة الله - عزَّ وجلَّ - وقد قَرَنها الله بها، وتوعَّد من قدَّم عليها شيئًا من الأمور المحبوبة طَبْعًا من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك

فقال تعالى:

قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ 

[التوبة: 24]

 فيجب تقديم محبَّة الرسول ﷺ على النفوس، والأولاد، والأقارب، والأهلين، والأموال، والمساكن، وغير ذلك مما يُحبُّه الإنسان غاية المحبَّة[2].

23. بيَّن الله تعالى أن التوحيد الخالص لا يكون إلا بإفراد المحبَّة لله

قال تعالى:

 وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ

[البقرة: 165].

24. الولاء والبراء من أوثق عرى الإيمان، والولاء: محبة الله ورسوله والصحابة وعباده الصالحين، والبراء: بُغض من خالف الله ورسوله والصحابة والمؤمنين الموحدين

قال تعالى:  

إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ

  [المائدة: 55]


وقال تعالى:

لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ

 [المجادلة: 22].

25. المحبة صفة ثابتة لله تعالى بالكتاب والسنَّة

قال تعالى:

وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 

[البقرة: 195]


وقال تعالى: 

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ

[البقرة: 222]

وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضى الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ»[3].

المراجع

  1. رواه البخاريُّ (15)، ومسلم (44).
  2. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب (1/ 49).
  3. رواه البخاريُّ (3009)، ومسلم (2406).

21.   حبُّ الصحابة الكرام علامةٌ على الإيمان، وبُغْضَهم آيةٌ على النِّفاق.

22.   الصحابة كلُّهم عُدول؛ بتعديل الله تعالى لهم ورسوله ﷺ.

23.   الكفُّ عما شجر من نزاع أو خلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم.

24.   عقيدة جمهور العلماء: أن من رآه - عليه الصلاة والسلام - وكان في عِدَاد أصحابه، فقد حَصَّل فضيلةً لا يُدرِكها أفضلُ كلِّ من يأتي بعدَه[1].

25.   أدنى الصحابةِ صُحبةً هو أفضلُ من القرن الذين لم يَرَوْهُ ﷺ، ولو لَقُوا اللهَ بجميع الأعمال، كان هؤلاء الذين صَحِبوا النبيَّ ﷺ ورَأَوْهُ، وسَمِعوا منه، ومن رآه بعَيْنه وآمن به ولو ساعةً، أفضلُ بصُحبته من التابعين، ولو عَمِلوا كلَّ أعمال الخير[2].

26.   سبُّ الصَّحابة - رضي اللّه عنهم – حرامٌ، من فواحِش المحرَّمات، سواءٌ من لابَسَ الفِتَن منهم وغيرُه؛ لأنّهم مجتهِدون في تلك الحروب، متأوِّلون. وسبُّ أحدِهم من المعاصي الكبائر، ومذهبُ الجمهور أنّه يُعزَّر ولا يُقتل، وقال بعض المالكية: يُقتَل[3].

المراجع

  1. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 570).
  2. "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائيِّ (1/ 180).
  3. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 93).

32. حبُّ الصحابة رضى الله عنهم دين وإيمان، وبُغضهم كفر ونفاق؛ فحبُّ الصحابة الكرام علامةٌ على الإيمان، وبُغْضهم آيةٌ على النِّفاق؛ فهم أفضل الخلق بعد النبيِّين عليهم الصلاة والسلام.

33. أفضلُ الصحابة: أبو بكر الصدِّيق رضى الله عنه، ثم عمرُ بنُ الخطَّاب رضى الله عنه، ثم عثمانُ بنُ عفَّانَ رضى الله عنه، ثم عليُّ بنُ أبي طالب رضى الله عنه، ثم باقي العشَرةِ المبشَّرين بالجنَّة رضى الله عنه.

34. الصحابة كلُّهم عُدول؛ بتعديل الله تعالى لهم ورسوله ﷺ.

35. الكفُّ عما شجر من نزاع أو خلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم.

36.عقيدة جمهور العلماء: أن من رآه - عليه الصلاة والسلام - وكان في عِدَاد أصحابه، فقد حَصَّل فضيلةً لا يُدرِكها أفضلُ كلِّ من يأتي بعدَه[1].

المراجع

  1. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 570).

9. التصديق بالغَيبيَّات من دلائل الإيمان.

10. في الحديث إثبات النعيم في القبر للمؤمنين، والعذاب للكفّار والمنافقين.

11. وجوب الإيمان بالبعث بعد الموت.

12. وجوب الإيمان بالملائكة وإثبات اختلاف عملهم.

13. في الحديث إثبات سؤال الْمَلَكين للميِّت في القبر.

14. الإيمان بالنبيِّ من أركان الإسلام.

15. في الحديث إظهار قُدرة الله تعالى في تَعذيب العُصاة والكافرين، وتَنعيم المؤمنين في القبر دُون أن يَشعر بذلك سائرُ البَشر.

25- الشّرك والكفر قد يُطلَقان بمعنًى واحد، وهو الكفر باللّه تعالى، وقد يُفرَّق بينهما، فيُخصُّ الشِّرك بعَبَدة الأوثان وغيرها من المخلوقات، مع اعترافهم باللّه تعالى؛ ككفَّار قُريش، فيكون الكفر أعمَّ من الشّرك[1]

26- تارك الصّلاة، إن كان منكِرًا لوجوبها، فهو كافر بإجماع المسلمين، خارج من مِلَّة الإسلام، إلّا أن يكون قريبَ عهد بالإسلام، ولم يخالِط المسلمين مدَّةً يَبلُغه فيها وجوب الصَّلاة عليه[2]

27- اختلف العلماء في حكم تارك الصلاة تكاسلًا مع اعتقاده وجوبها، فذهب مالك والشّافعيُّ والجماهير من السَّلف والخَلَف إلى أنّه لا يَكفُر؛ بل يَفسُق ويُستتاب، فإن تاب وإلَّا قُتِل حَدًّا؛ كالزَّاني المحصَن؛ ولكنَّه يُقتَل بالسَّيف، وذهب جماعة من السَّلف إلى أنّه يَكفُر، وهو مَرْويٌّ عن عليِّ بنِ أبي طالب، وهو إحدى الرّوايتين عن أحمدَ بنِ حنبل، وبه قال عبد اللّه بن المبارك، وإسحاقُ بنُ راهوَيْهِ، وهو وجه لبعض أصحاب الشّافعيِّ، وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة، والمزنيُّ صاحب الشّافعيِّ أنّه لا يكفُر ولا يُقتَل؛ بل يُعزَّر ويُحبَس حتّى يُصلِّيَ[3]

المراجع

  1.  "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 71).
  2.  "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 70).
  3.  "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 70).

19. أحاديث خروج الدجَّال حُجَّة لمذهب أهل الحقِّ في صحَّة وجوده، وأنه شخصٌ بعَينِه، ابتلى اللهُ تعالى به عبادَه، وأَقدَره على أشياءَ من مقدورات الله تعالى، من إحياء الميِّت الذي يَقتُله، وظهور زهرة الدنيا والخِصب معه، واتِّباع كنوز الأرض له، وأمر السماء أن تُمطِر فتُمطِر، والأرض أن تُنبِت فتُنبِت، فيقع كلُّ ذلك بقُدرة الله تعالى ومشيئته، ثم يُعجِزه الله تعالى بعد ذلك، فلا يَقدِر على قتل ذلك الرجل ولا غيرِه، ويَقتُله عيسى عليه السلام، ويثبِّت الله الذين آمنوا[1].

15- ما في الحديث يقوله سبحانه وتعالى لكلِّ مصلٍّ قرأ الفاتحة، فلو صلَّى الرّجل ما صلَّى من الرّكعات قيل له ذلك، وفي تلك السّاعة يصلِّي من يقرأ الفاتحة من لا يُحصي عدده إلّا اللُّه، وكلُّ واحد منهم يقول اللّه له كما يقول لهذا، كما يحاسبهم كذلك فيقول لكلِّ واحد ما يقول له من القول في ساعة واحدة، وكذلك سمعه لكلامهم يسمع كلامهم كلَّه مع اختلاف لغاتهم وتفنُّن حاجاتهم، يسمع دعاءهم سمع إجابة، ويسمع كلَّ ما يقولونه سمع علم وإحاطة، لا يَشغَله سمع عن سمع، ولا تغلِّطه المسائل، ولا يتبرَّم بإلحاح الملحِّين [1]

16- قوله تعالى: «حَمِدَنِي عَبْدِي، وَأَثْنَى عَلَيَّ، وَمَجَّدَنِي» إنّما قاله لأنّ التّحميد الثّناءُ بجميل الفِعَال، والتّمجيد الثّناء بصفات الجلال، ويُقال: أثنى عليه في ذلك كلِّه؛ ولهذا جاء جوابًا للرّحمن الرّحيم؛ لاشتمال اللّفظين على الصّفات الذّاتيّة والفعليّة [2]

17- إنّ الله تعالى هو الّذي خلَق هذا كلَّه، وهو الّذي يرزق هذا كلَّه، وهو الّذي يوصِّل الغذاء إلى كلِّ جزء من البَدَن على مقداره وصفته المناسبة له، وكذلك من الزّرع. وكرسيُّه قد وَسِع السّمواتِ والأرضَ ولا يؤوده حفظهما، فإذا كان لا يؤوده خلقُه ورزقه على هذه التّفاصيل؛ فكيف يؤوده العلم بذلك، أو سَمْعُ كلامهم، أو رؤية أفعالهم، أو إجابة دعائهم، سبحانه وتعالى عمَّا يقول الظّالمون علوًّا كبيرًا [3]

18- إنّ اللّه تعالى هو المنفرد بالملك يوم الدين، وبجزاء العباد وحسابهم، والدّين: الحساب أو الجزاء، ولا دعوى لأحد ذلك اليوم ولا مجاز، وأمّا في الدّنيا، فلبعض العباد ملك مجازيٌّ، ويدَّعي بعضهم دعوى باطلةً، وهذا كلُّه ينقطع في ذلك اليوم.

19-  إن اللَّه سبحانه وتعالى هو المالك، والْمُلك على الحقيقة للداريْنِ وما فيهما ومن فيهما، وكلُّ من سواه مربوبٌ له عبد مُسَخَّر.

 

المراجع

  1. "مجموع الفتاوى" (5/ 479، 480).
  2. "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 104).
  3.  "مجموع الفتاوى" (5/ 479، 480).

7. لقد ضلَّت القَدَرية بفَهمهم لمثل هذا الحديث؛ أنهم يدخلون الجنة بأعمالهم، وهي حقٌّ بمجرَّد الأعمال دون مشيئة اللّه؛ بل ذلك النعيم عوض وثمن، والردُّ على بدعتهم هذه أنه مهما اجتهد العباد في الطاعات والصالحات، حتى لو كان كلُّ نَفَس منهم طاعةً لله تعالى، فهم في محض مِنَّته وفضله وتوفيقه، ومن اعتدَّ بعمله وأنكر فضل الله تعالى ومِنَّته، فقد أنكر إحسانه، وفسدت طَوِيَّتُه، ومن ثَمَّ عقيدته.

23- سبب تعظيم صلاة الجمعة هو الاختيار الربَّانيُّ، والتخصيص الإلهيُّ لهذه الصلاة ويومها بالمزايا والفضائل، وتلك إحدى مظاهر الربوبية لله عزَّ وجلَّ، حيث ينفرد بتعظيم ما يشاء من خلقه، وما يختار من الزمان والمكان، فهو الذي يفعل ما يشاء لحكمة يعلمها سبحانه

6. أهل السنَّة والجماعة يُثبتون صفتَيِ الرحمة والغضب لله عَزَّ وجلَّ بوجه يليق بجلاله وعظمته، لا يكيِّفون ولا يشبِّهون، ولا يؤوِّلون ولا يعطِّلون، والرحمة أوسعُ وأشمل؛ فرحمته تعالى وَسِعت كلَّ شيء.

7. في الحديث دليل على علوِّ الله - عزَّ وجلَّ - على خلقه، وأنه فوق عرشه، بائنٌ من خلقه .

8. في الحديث إثبات صفتَيِ الرحمة والغضب لله - عزَّ وجلَّ - ولا يجوز تأويلهما بإرادة الثواب والعقاب .

9. الغضب صفة له سبحانه وتعالى، لا يَلحَق أثرها بالعباد إلا إذا صَدَر منهم سبب استحقاق الغضب والعقوبة من كفر وعصيان. لذا؛ رحمته تعالى في هذا الوجود سابقةٌ على غضبه سبحانه وتعالى.

10. الرحمة المضافة إلى الله تعالى نوعان: صفة ذاتية، وصفة فعلية. ولا ريب أن الرحمة الذاتية سابقة للغضب في الزمان؛ لأنه سبحانه موصوف بها في الأَزَل، فيصحُّ أن يقال: لم يزل رحيمًا، وأما الغضب فهو صفة فعلية، فهو تابع لمشيئته[1].

11. الأظهر أن الرحمة التي تسبق وتغلب الغضب: هي الرحمة الفعلية التي تكون بمشيئته سبحانه[2].

12. في الحديث إثبات العرش، وأنه خَلْقٌ من خلق الله.     

13. أنكرت الأشاعرة والمعتزلة صفة الرّحمة؛ بدعوى أنّها في المخلوق ضعفٌ وخَوَر وتألُّم للمرحوم، وهذا من أقبح الجهل؛ فإنّ الرّحمة إنّما تكون من الأقوياء للضّعفاء، فلا تستلزم ضعفًا ولا خورًا؛ بل قد تكون مع غاية العزّة والقُدرة؛ فالإنسان القويُّ يَرحَم ولده الصّغير وأبويه الكبيرين، ومن هو أضعفُ منه، وأين الضّعف والخور- وهما من أذمِّ الصّفات - من الرّحمة الّتي وصف اللّه نفسه بها، وأثنى على أوليائه المتَّصفين بها، وأمرهم أن يتواصَوا بها؟![3].

14. رحمته سبحانه وَسِعت في الدّنيا المؤمنَ والكافر والبرَّ والفاجر؛ ولكنّها يومَ القيامة تكون خاصَّةً بالمتَّقين

كما قال تعالى:

فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ

 [الأعراف: ١٥٦]

وقال تعالى:

كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ

[الأنعام: ٥٤]

أي: أوجبها على نفسه تفضُّلاً وإحسانًا، ولم يوجبها عليه أحد[4].

15. قوله تعالى:رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا يدلُّ على أن كلَّ شيء وَصَله علم الله، وهو واصل لكلِّ شيء، فإنَّ رحمته وصلت إليه؛ لأن الله قرن بينهما في الحكم رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا وهذه هي الرحمة العامَّة التي تشمل جميع المخلوقات، حتى الكفَّارَ؛ لأن الله قَرَن الرحمة هذه مع العلم، فكلُّ ما بلغه علمُ الله - وعلمُ الله بالغٌ لكلِّ شيء - فقد بلغته رحمته، فكما يَعلَم الكافرَ، يَرحَم الكافر أيضًا[5].

16. رحمة الله تعالى للكافر هي رحمة جسدية بَدَنية دنيوية قاصرة غاية القصور بالنسبة لرحمة المؤمن، فالذي يَرزُق الكافر هو الله الذي يَرزُقه بالطعام والشراب واللباس والمسكن والمنكح وغير ذلك[6].

17. رحمة الله للمؤمنين هي رحمة خاصَّة؛ لأنها رحمة إيمانية دينية دنيوية؛ ولهذا تجد المؤمن أحسن حالاً من الكافر، حتى في أمور الدنيا

لأن الله يقول:

 مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً

[النحل: 97].

والحياة الطيِّبة هذه مفقودة بالنسبة للكفَّار؛ فحياتهم كحياة البهائم، أما المؤمن فإن أصابته سرَّاءُ، شكر، وإن أصابته ضرَّاءُ صبر، فهو في خير في الحالين، وقلبُه منشرِح مطمئنٌّ متَّفِق مع القضاء والقدر، لا جزع عند البلاء، ولا بطر عند النعماء؛ بل هو متوازن مستقيم معتدل[7].

18. الجمع بين قوله تعالى:

رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا

[غافر: 7]

وقوله:

وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمً

ا[الأحزاب: 43].

(ِبالْمُؤْمِنِين) متعلِّق بـ(رحيمًا)، وتقديم المعمول يدلُّ على الحصر، فيكون معنى الآية: وكان بالمؤمنين لا غيرِهم رحيمًا: فالرحمة في الآية الأولى رحمة عامَّة للكافر والمؤمن، وفي الآية الثانية رحمةٌ خاصَّة متَّصِلة برحمة الآخرة، لا ينالها الكفَّار [8]. 

19.

قال تعالى:

كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ

[الأنعام: ٥٤]

أي: أوجب على نفسه الرحمة، فالله عزَّ وجلَّ لكرمه وفضله وجُوده أَوْجَب على نفسه الرحمة، وجَعَل رحمته سابقةً لغضبه

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ

 [فاطر: 45]

لكن حِلمه ورحمته أوجبت أن يبقى الخلق إلى أجل مسمًّى[9].

20. إن الرحمن دالٌّ على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دالٌّ على تعلُّقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دالٌّ أن الرحمة صفته، والثاني دالٌّ على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردتَ فَهم هذا، فتأمَّل قوله:

وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا

[الأحزاب: 43]

إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ

[التوبة: 117]

ولم يجئ قطُّ (رحمن بهم)، فعُلم أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته[10].

21. جعلُ صفة الرحمة واسم الرحمة مجازًا كجعلِ صفة الْمُلك والربوبية مجازًا، ولا فرق بينهما في شرع ولا عقل ولا لغة. وإذا أردتَ أن تعرف بُطلان هذا القول، فانظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته الخاصَّة والعامَّة[11].

22. إن رحمةَ الله ۵ التي أوجدَها في الدنيا عامَّةٌ تشمل المؤمن وغيره، وهي للمؤمنين خاصَّة يوم القيامة.

المراجع

  1. "فتح الباري بتعليق الشيخ عبد الرحمن البراك" (17 / 462).
  2. "فتح الباري بتعليق الشيخ عبد الرحمن البراك" (17 / 462).
  3. "شرح العقيدة الواسطية" لمحمد خليل هرَّاس (ص: 106، 107).
  4. "شرح العقيدة الواسطية" لمحمد خليل هرَّاس (ص: 107).
  5. "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 248، 249).
  6. "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 249).
  7. "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 249).
  8. "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 250، 251).
  9. "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص:251).
  10. "بدائع الفوائد" لابن القيم (1/ 24).
  11. "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (ص: 481، 482).

29- عن اللَّعِب والسُّرور في النّيروز والْمِهرجان، وفيه دليلٌ على أنّ تعظيم النّيروز والمهرجان وغيرهما - أي: من أعياد الكفّار - منهيٌّ عنه، ومن اشترى فيه شيئًا لم يكن يشتريه في غيره، أو أهدى فيه هديّةً إلى غيره، فإن أراد بذلك تعظيم اليوم كما يعظِّمه الكَفَرة، فَقَد كفر، وإن أراد بالشِّراء التّنعُّم والتّنزُّه، وبالإهداء التّحابَّ؛ جريًا على العادة، لم يكن كفرًا؛ لكنّه مكروه كراهة التّشبُّه بالكَفَرة حينئذٍ، فيُحتَرز عنه[1]

30- لا يجوز الاحتفالُ بأعياد المشركين، والاحتفال بأعياد أهل الكتاب أشدُّ حُرمةً من الاحتفال بأعياد الجاهلية؛ فإن الأُمة قد حُذِّروا مشابهةَ اليهود والنصارى، وأُخْبروا أنْ سيفعل قومٌ منهم هذا المحذورَ، بخلاف دين الجاهلية؛ فإنه لا يعود إلا في آخِر الدهر[2]

31- من مظاهر الربوبية لله عزَّ وجلَّ تعظيم ما يشاء من الخلق والأيام والأوقات والأماكن التي يختارها سبحانه، فاختيار العيدين وتخصيصهما بالمزايا والفضائل هو اختيار ربَّانيٌّ، وتخصيص إلهيٌّ؛ حيث ينفرد سبحانه بتعظيم ما يشاء من خلقه، وما يختار من الزمان والمكان، فهو الذي يفعل ما يشاء لحكمة يعلمها سبحانه.

المراجع

  1.  "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (3/ 1069).
  2.  "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" لابن تيمية (1/ 489).