عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أُرَاهُ فُلاَنًا»، لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ كَانَ فُلانٌ حَيًّا - لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ - دَخَلَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ؛ الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الوِلادَةُ» 

فوائد الحديث

الفوائد العلمية

1. الإسلام هو دين الفِطرة السَّوِيَّة، الذي يهذِّب الغرائز الإنسانية، ويحدِّد الأُطُر بين النساء والرجال في العلاقات الاجتماعية، يترفَّع بها عن الحيوانية، ويصل بها إلى الراحة المنشودة لكلٍّ من الرجل والمرأة، فلا يَنكِح الرجل أمَّه، ولا أختَه، ولا ابنتَه، ولا عمَّته، ولا خالتَه... إلى آخر المحرَّمات.

2. في الحديث بيان أنه يَحرُم من الرَّضاع مثلُ الذي يَحرُم من النَّسَب؛ حيث إن المرأة التي تُرضِع طفلاً تكون بمثابة الأمِّ له؛ فقد غذَّته بلَبَنها، وضمَّته إلى صدرها؛ حتى نبت لحمُه، واشتدَّ عظمُه.

3.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّه عنهمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي بِنْتِ حَمْزَةَ:

«لاَ تَحِلُّ لِي، يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، هِيَ بِنْتُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ»

[1].

4.

عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ:

اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي القُعَيْسِ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الحِجَابُ، فَقُلْتُ: لاَ آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ فِيهِ النَّبِيَّ ﷺ، فَإِنَّ أَخَاهُ أَبَا القُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي؛ وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي القُعَيْسِ، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ ﷺ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي القُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «وَمَا مَنَعَكِ أَنْ تَأْذَنِي؟! عَمُّكِ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي؛ وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي القُعَيْسِ، فَقَالَ: «ائْذَنِي لَهُ؛ فَإِنَّهُ عَمُّكِ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ»

[2].

5. لا يُعرَف اسم عمِّ عائشةَ الذي سألتْ عنه، ووَهِمَ من فسَّره بأفلحَ أخي أبي القُعيس؛ لأن أبا القُعيس أبو عائشة من الرضاعة، وأما أفلحُ فهو أخوه، وهو عمُّها من الرضاعة، وفي الحديث أنه عاش حتى جاء يستأذن على عائشةَ، فأمرها النبيُّ ﷺ أن تأذن له بعد أن امتنعت، وقولها: "لو كان حيًّا" يدلُّ على أنه كان مات، فيَحْتَمِل أن يكون أخًا لهما آخَرَ، ويَحْتَمِل أن تكون ظنَّت أنه مات لبُعْدِ عهدها به، ثم قَدِم بعد ذلك، فاستأذن [3].



المراجع

1. رواه البخاريُّ (2645)، ومسلم (1447).

2. رواه البخاريُّ (4796)، ومسلم (1445).

3. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (9/ 140).



الفوائد الفقهية

6. هناك إجماعٌ على أنه يَحرُم من الرضاعة مثلُ الذي يَحرُم من الولادة والنَّسَب، وتُبيح ما تُبيحه، فإذا حَرُمت الأمُّ، فكذا زوجُها؛ لأنه والدُه؛ لأن اللبن منهما جميعًا، وانتشرت الحُرمة إلى أولاده، فأخو صاحب اللبن عمٌّ، وأخوها خالُه من الرَّضاع، فيَحرُم من الرضاع: العمَّاتُ، والخالاتُ، والأعمام، والأخوات، وبناتهن كالنسب [1].

7. الرضاع يُنزَّل منزلة النسب والولادة في تحريم النكاح، وجواز النَّظَر، والخلوة، والسفر، دون بقية الأحكام من الميراث، ووجوب النفقة، وردِّ الشهادة، وسقوط القصاص، ولو كان أبًا أو أمًّا؛ فإنهما كالأجنبيِّ في سائر هذه الأحكام [2].

8. اتَّفق الفُقهاءُ على أنَّ الحُرمة بالرَّضاعة تَثْبُتُ بِخَمس رضَعاتٍ فصاعدًا، واختلفوا فيما دونَها، وحديث عائشة نصٌّ في المسألة؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: «كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ، بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ، وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ» [3]. 

9. إذا أرضعتِ امرأةُ الرجل بنتًا، حَرُمت هذه البنت على ابنه، وعلى أبيه، وعلى جَدِّه، وعلى بني بَنِيه وبني بَناتِه، وعلى كلِّ وَلَدٍ ذكر، وولَد وَلَده، وعلى كلِّ جَدٍّ له من قِبَلِ أبيه وأمِّه، وإذا كان المرضَعُ غلامًا، حرَّم الله عليه وَلَدَ المرأة التي أرضعتْه، وأولادَ الرجل الذي أُرضِع هذا الصبىُّ بلَبَنِه، وهو زوج المرضِعة، ولا تَحِلُّ له عمَّتُه من الرضاعة، ولا خالتُه، ولا بنتُ أخيه، ولا بنتُ أخته من الرضاعة [4].

10. لا بأس أن يتزوَّج الرجل المرأةَ التي أرضعت ابنَه، وكذلك يتزوَّج بنتَ المرأة التي هي رضيعةُ ابنه، ولأخي هذا الصبيِّ المرضَع أن يتزوَّج المرأة التي أرضعت أخاه، ويتزوَّج ابنتها التي هي رضيعُ أخيه، وما أراد من ولدها ووَلَدِ ولدها؛ وإنما يَحرُم نكاحهن على المرضَع [5].

11. في هذا الحديث دليلٌ واضح على أنّ لبن الفحل يحرِّم الذَّكَر العمَّ، ولولا لبنُ الفحل ما ذُكِر العمُّ؛ لأنّ بمراعاة لبن الرّجل صار أبًا، فصار أخوه عمًّا [6].

12. التَّحريم لا يتعدَّى الرضيع إلى أحدٍ من قرابته؛ فليس أختُه من الرَّضاعة أختًا لأخيه، ولا بنتًا لأبيه؛ إذْ لا رضاع بينهم.

13. قيل في حكمة التحريم بالرضاع: إنَّ الشَّرع اعتَبَر في التحريم ما ينفصِل من أجزاء المرأة وهو اللَّبن، ويتَّصِل بالرضيع فيَغتذي به فتصير أجزاؤها أجزاءه، فينتشر التَّحريم بينهما، واعتَبَر في حقِّ صاحب اللبن: أنَّ وجود اللَّبن بسبب مائه وغذائه. فأمَّا قرابات الرَّضيع فليسَ بينَهم ولا بين المرضعة، ولا زوجها، نسبٌ، ولا سببٌ.

14. أجمع العلماء على أنّ الرَّضَاع يحرِّم ما يحرِّمه النَّسَب، ولنذكر المحرَّمات من النَّسَب كلَّهنّ حتّى يُعلَم بذلك ما يَحرُم من الرّضاع، فنقول: الولادة والنَّسَب قد يؤثِّران التّحريم في النِّكاح، وهو على قسمين؛ القسم الأول: تحريم مؤبَّد على الانفراد، وهو نوعان؛ أحدهما: ما يحرم بمجرَّد النّسب، والثاني: ما يَحْرُمُ من النَّسَبِ مع سبب آخَرَ، والقسم الثاني: التحريم الْمُؤَبَّد على الاجتماع دون الانفراد [7].

15. ما يَحرُم بمجرَّد النَّسَب: يَحرُم على الرّجل أصولُه وإن عَلَوْنَ، وفروعُه وإن سَفَلْنَ، وفروعُ أصله الأدنى وإن سفلن، وفروع أصوله البعيدة دون فروعهنّ، فيَدخُل في أصوله أمَّهاته وإن عَلَوْنَ من جهة أبيه وأمِّه، وفي فروعه بناتُه وبنات أولاده وإن سَفَلْنَ، وفي فروع أصله الأدنى أخواتُه من الأبوين، أو من أحدهما، وبناتهنّ وبنات الإخوة وأولادهم وإن سفلن، ودخل في فروع أصوله البعيدة العمَّات والخالات وعمَّات الأبوين وخالاتهما وإن علون، فلم يبقَ من الأقارب حلالًا للرّجل سوى فروع أصوله البعيدة، وهنّ بنات العمّ وبنات العمّات، وبنات الخال، وبناتُ الخالات [8].

16. ما يَحرُم من النَّسَب مع سبب آخَرَ، وهو الْمُصاهَرة، فيَحرُم على الرّجل حلائلُ آبائه، وحلائل أبنائه، وأمَّهات نسائه، وبنات نسائه المدخولُ بهنّ، فيَحرُم على الرّجل أمُّ امرأته وأمَّهاتها من جهة الأمِّ والأب وإن عَلَوْنَ، ويَحرُم عليه بنات امرأته، وهنّ الرّبائب وبناتهنّ وإن سَفَلْنَ، وكذلك بناتُ بني زوجته، وهنّ بنات الرّبائب، ويَحرُم عليه أن يتزوَّج بامرأة أبيه، وإن علا، وبامرأة ابنه وإن سَفَل، ودخولُ هؤلاء في التّحريم بالنَّسَب ظاهر؛ لأنّ تحريمهنّ من جهة نسب الرّجل مع سبب المصاهرة. وأمّا أمّهاتُ نسائه وبناتُهنّ، فتحريمهنّ مع المصاهرة بسبب نسب المرأة، فلم يَخرُج التّحريم بذلك عن أن يكون بالنّسب مع انضمامه إلى سبب المصاهرة، فإنّ التّحريم بالسّبب المجرَّد، والنَّسَبِ المضاف إلى المصاهَرة، يشترك فيه الرّجال والنّساء، فيَحرُم على المرأة أن تتزوَّج أصولَها وإن عَلَوا، وفروعَها وإن سَفَلوا، وفروعَ أصولها الأدنى وإن سَفَلوا من إخوتها، وأولاد الإخوة وإن سفلوا، وفروع أصولها البعيدة وهم الأعمام والأخوال وإن علوا دون أبنائهم، فهذا كلُّه بالنَّسَب المجرَّد، أمّا بالنَّسَب المضاف إلى الْمُصاهرة، فيَحرُم على المرأة نكاح أبي زوجها وإن علا، ونكاح ابنه وإن سَفَل بمجرَّد العقد، ويَحرُم عليها زوج ابنتها وإن سَفَلت بالعقد، وزوجُ أمِّها وإن علت؛ لكن بشرط الدّخول بها [9].

17. التّحريم المؤبَّد على الاجتماع دون الانفراد، وتحريمُه يختصُّ بالرّجال؛ لاستحالة إباحة جمع المرأة بين زوجين، فكلُّ امرأتين بينهما رَحِم محرَّم يَحرُم الجمع بينهما، بحيث لو كانت إحداهما ذَكَرًا لم يَجُز له التّزوُّج بالأخرى، فإنّه يَحرُم الجمع بينهما بعقد النِّكاح. قال الشّعبيُّ: كان أصحاب محمّد  يقولون: لا يَجمَع الرّجلُ بين امرأتين لو كانت إحداهما رجلًا لم يَصلُح له أن يتزوَّجها. وهذا إذا كان التّحريم لأجل النَّسَب، وبذلك فسَّره سفيانُ الثَّوْريُّ وأكثر العلماء، فلو كان لغير النَّسَب مثلَ أن يجمع بين زوجة رجل وابنته من غيرها، فإنّه يُباح عند الأكثرين، وكرهه بعض السَّلَف [10].

18. إذا عُلِم ما يَحرُم من النَّسَب، فكلُّ ما يَحرُم منه، فإنّه يَحرُم من الرَّضاع نَظيرُه، فيَحرُم على الرّجل أن يتزوَّج أمّهاتِه من الرَّضاعة وإن عَلَون، وبناتِه من الرّضاعة وإن سَفَلن، وأخواتِه من الرّضاعة، وبناتِ أخواته من الرّضاعة وعمَّاته وخالاته من الرّضاعة، وإن عَلَون دون بناتهنّ [11].

19. إن المرأة إذا أَرضَعت طفلًا الرَّضاعَ الْمُعتبَر في المدَّة المعتبَرة، صارت أمًّا له بنصِّ كتاب اللّه، فتَحرُم عليه هي وأمَّهاتها، وإن عَلَون من نسب أو رَضاع، وتصير بناتها كلُّهنّ أخواتٍ له من الرّضاعة، فيَحرُمن عليه بنصِّ القرآن، وبقيَّة التّحريم من الرّضاعة استُفيد من السّنَّة [12].

20. استُفيد من السُّنَّة أنّ تحريم الجمع لا يختصُّ بالأختين؛ بل المرأةِ وعمَّتها، والمرأة وخالتِها كذلك، وإذا كان أولاد المرضِعة من نسب أو رضاع إخوةً للمرتضِع، فيَحرُم عليه بنات إخوته أيضًا، وقد امتنع النّبيُّ  من تزويج ابنة عمِّه حمزةَ، وابنةِ أبي سلمةَ، وعلَّل بأنّ أبوَيهما كانا أخوين له من الرّضاعة [13].

21. يَحرُم على المرتضِع أيضًا أخواتُ المرضِعة؛ لأنّهنّ خالاتُه، وينتشر التّحريم أيضًا إلى الفحل صاحب اللّبن الّذي ارتضع منه الطّفل، فيصير صاحبُ اللّبن أبًا للطّفل، وتصير أولاده كلُّهم من المرضِعة أو من غيرها من نسب أو رضاع إخوةً للمرتضِع، ويصير إخوته أعمامًا للطّفل المرتضِع، وهذا قول جمهور العلماء من السَّلَف، وأجمع عليه الأئمّة الأربعة ومن بعدَهم [14].

22. سُئل ابن عبَّاس عن رجل له جاريتان، أرضعت إحداهما جاريةً والأخرى غلامًا، أيَحِلُّ للغلام أن يتزوَّج الجارية؟ فقال: لا، اللِّقاح واحد [15].

23. مشروعية الاستئذان، ولو في حقِّ الْمَحرَم؛ لجواز أن تكون المرأة على حال لا يحلُّ للْمَحرَم أن يراها عليه.

24. لا يجوز للمرأة أن تَأذَن للرجل الذي ليس بمَحرَم لها في الدخول عليها، ويجب عليها الاحتجاب منه.



المراجع


1. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (20/ 92).

2. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (20/ 92).

3. رواه مسلم (1452).

4. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (7/ 193).

5. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (7/ 194).

6. "الاستذكار" لابن عبد البرِّ (6/ 241).

7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 438، 439).

8. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 438، 439).

9. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 439، 440).

10. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 440).

11. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 440).

12. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 440).

13. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 440، 441).

14. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 441).

15. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 440، 441).



الفوائد العلمية

25. في الحديث تعاهُدُ النبيِّ ﷺ لزوجاته، وتعليمهن ما يخفى عليهن من تعاليم الإسلام وأحكامه.

مشاريع الأحاديث الكلية