فقه
هذا الحديث من أعظم ما يبن مراتب الدين، ويجمع أصولها ولهذا قال القاضي عياض: "هذا حديث عظيم قد اشتَمَل على جميع وظائف الأعمال الظاهرة والباطنة، وعلومُ الشريعة كلُّها راجعة إليه، ومتشعِّبة منه"[1].
يروي عمر رضى الله عنه أنهم:
بينما هم جالسون عند رسول الله ﷺ إذ طلع عليهم رجلٌ عجيب الهيئة؛ فهو شابٌّ شديد سواد الشعر، وليس من أصحاب النبيِّ ﷺ المعروفين، ولا يبدو أنه مسافرٌ إذ لا تبدو عليه أمارات السفر من شعث الرأس وغبرة الوجه والثياب.
ثم إن هذا الرجل اقتحم الحلقة حتى جلس أمام النبيِّ ﷺ وألصق ركبتيه بركبتي النبيِّ ﷺ ووضع كفَّيه على فخذي نفسه، متهيئًا مستعدًا لطلب العلم، متواضعًا للنبيِّ ﷺ في جلسته تلك.
ثم قال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام. وإنما قال: يا محمد؛ ليشتبه عليهم أنه من الأعراب؛ فإنَّهم من كانوا ينادون النبيَّ ﷺ باسمه المجرد؛ إذ لم يكن لديهم من العلم والأدب ما عند الصحابة من المهاجرين والأنصار الذين سمعوا أمر الله تعالى وامتثلوه:
﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ﴾
أي: لا تنادوه كما ينادي بعضكم على صاحبه وأخيه؛ فلا تقولوا: يا محمد، وإنما قولوا: يا رسول الله[2].
فأجابه النبيُّ ﷺ عن الإسلام، وذكر له أنَّه يقوم على الخمسة أركان المعروفة، وأولها: شهادة أن لا إله إلا الله؛ كلمة التوحيد التي أرسل الله بها جميع الأنبياء والمرسلين، يجب فيها النطقُ باللسان، والاعتقاد بالقلب، والعمل بمقتضاها بالجوارح؛ فلا يعبد إلا الله، ولا يخاف إلا منه، ولا يتوسل إلا له، ولا يدعو غيره، ولا يخاف سواه خوفَ السِّرِّ، ولا يشرك به في المحبة والرجاء والنذر وسائر العبادات، وأن يُوقن أنه الضارُّ النافعُ، لا يملك أحدٌ غيره نفعَ عبدٍ أو ضرَّه إلا بإذنه، فهو المعبود الحقُّ وما سواه باطل.
ومن مقتضى كلمة التوحيد تصديق رسوله ﷺ فيما أتى به، والإيمان أنَّه مُرسلٌ من ربه، مُصَدَّقٌ فيما جاء به من عند الله، ويستلزم ذلك الإيمان بما شرع والامتثال بما أمر واجتناب ما نهى، وتعظيمه وتوقيره ونصرته والدفاع عنه والجهاد معه.
الركن الثاني من أركان الإسلام: إقامةُ الصلاة، وهو إقامتها على الوجه اللائق بها، كما ينبغي أن تُؤدى، بعد استيفاء الشروط وأداء الأركان، فيخشع في صلاته ويستحضر عظمة الله سبحانه فيها، ولهذا لم يقل: "وتؤدوا الصلاة".
والركن الثالث: أداء الزكاة، وهي ما يجب على الإنسان في ماله الذي رزقه الله، على التفصيل المشروع الذي بيَّنه الشرع الحنيف. فيُخرج الإنسانَ زكاتَه طيبة بها نفسه، مؤمنًا بوجوبها عليه، محتسبًا الأجر والثواب عند الله، لا ينتقي أردأ ماله ليخرجه للزكاة، بل يؤثر رضا الله وثوابه.
والركن الرابع من أركان الإسلام هو الصيام، بالإمساك عن المفطرات من الطعام والشراب والجماع في شهر رمضان، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، كما ورد تفصيل ذلك في كتب الفقه، فيصوم الإنسان مؤمنًا محتسبًا طائعًا غير مُكْرَهٍ ولا متأفف.
ثم الركن الخامس: حجُّ بيتِ الله الحرام في مكة، وما يتبعها من مناسك وعبادات، بأحكم مخصوصة، وهي تجب مرة في العمر بشرط الاستطاعة البدنية والمالية.
والملحوظ أنَّه جمع في تعريف الإسلام بين أركانه الخمسة التي بُني عليها، كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» [3].
وليس معنى هذا أن الإسلام ينحصر في تلك العبادات فحسب، بل هي أركانه التي لا يقوم بدونها، وسائر العبادات من تتمات ذلك البناء التي يؤثر فقدها في تشويه البناء مع بقائه، بخلاف الأركان التي إن فُقدت انهدم البناءُ أصلًا.
10. فلمَّا انتهى النبيُّ ﷺ من جوابه قال له الرجل: صدقتَ، فتعجَّب الصحابة كيف يسأله عن شيء مستفهمًا عنه ثم يُصَدِّقه عليه؛ فإن المُصَدِّق من شأنه أن يكون عالمًا بما قيل، لا جاهلاً يسأل عنه.
11. ثم سأله عن الإيمان، وهي المرتبة الثانية من مراتب الدين بعد الإسلام، فقال ﷺ: الإيمان أن تؤمن بالله؛ أي: تؤمن به ربًّا خالقًا رازقًا مالكًا مدبِّرًا، وتؤمن به إلهًا معبودًا مُطاعًا، وتؤمن بأنَّ له الأسماء الحسنى والصفات العُليا.
12. والإيمان بالملائكة: أن تؤمن بوجودهم، وأنَّهم مخلوقون من النور، وأنَّهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وتؤمن بما ذكر الله منهم بأسمائهم وأعمالهم؛ فجبريل أمين الوحي وهو سيِّد الملائكة، وميكائيل الموكل بالمطر والنبات، وإسرافيل المُوَكَّل بالنفخ في الصور، ومالك خازن النار، ونحو ذلك.
13. والإيمان بالكتب: الإيمان بأنها منزلة من عند الله تعالى، وذلك يقتضي تصديق ما فيها والعمل بما ثبت من أحكامها، إلا أنَّ القرآن جاء ناسخًا لسائر الشرائع قبله، كما أنَّ تلك الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل قد تعرضت للتحريف والتبديل.
14. والإيمان بالرسل: تصديقُهم بما أَتَوا به، وأنَّ الله قد أوحى إليهم أَمْرَه، وأنهم خير خلق الله تعالى، نؤمن بهم جميعًا، مَن جاء ذكره في الكتاب والسُّنة وعَلِمنا خبره ومَن لم نعلم عنه شيئًا، ولا نُفَرِّق بين أحدٍ منهم
﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ﴾
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾
15. والإيمان باليوم الآخر: الإيمان بالبعث والحساب، والجنة والنار، والصراط والميزان، والشفاعة وحوض الكوثر، وسائر ما صحَّت الأخبار به.
16. والإيمان بالقَدَر: أن نؤمن بأن الله عزَّ وجل عَلِم أفعال العباد وما يجري لهم، وأنه سبحانه كتب ذلك عنده في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم، وأن أعمال العباد تجري وفق ما سبق في علم الله تعالى وكتابته، وأنَّ أفعال العبادِ جميعًا مخلوقةٌ لله تعالى؛ الكفر والإيمان، والطاعة والعصيان[4].
17. ثم سأله عن الإحسان، وهي المرتبة الثالثة من مراتب الدين، فأخبره أنَّ الإحسانَ أن يعبدَ الإنسانُ ربَّه على أتمِّ صورةٍ كأنَّه يرى ربَّه أمامه، فإذا لم يستطع الإنسانُ أن يصل لتلك المرتبة من المراقبة والخشية، فدونها أن يستحضر مراقبة الله تعالى، ويعلم أنه يراه.
﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾
ومراتب الدين كلها متداخلة؛ فالإسلامُ أعمُّ من الإيمان والإحسان، وهما داخلان فيه، والإيمان أعمُّ من الإحسان، فمن خرج عن دائرة الإيمان لم يزل مسلمًا، ومن خرج عن مرتبة الإحسان لم يزل في مرتبة الإيمان.
﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾
18.ثم سأله السائلُ عن الساعة؛ متى تقوم؟ فقال ﷺ: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» أي: ليس علمي فيها أكثر من علمك؛ فإنَّه لا يعلم ميعادها إلا الله جل شأنه
﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ﴾
19. فاستعاض عن هذا السؤال بأن يسأله عن علاماتها، فأجابه ﷺ بأن من علاماتها أن تَلِد الجاريةُ سيدتَها، وهو أن يكثر الرقيق حتى تلد الأمةُ لسيِّدها بنتًا، فتكون البنتُ حُرَّةً سيِّدَةً، وأُمُّها أَمَة. وقيل: بل معناه أن الإماء تلد الملوك، وقيل: تلد العجمُ العربَ، والعربُ سادةُ الناس وأشرافهم[5] .
20. ومن علاماتها أيضًا أن يصير الفقراء الذين كانوا يمشون حُفاةً لا نعال لهم، عُرَاةً لا يجدون ما يستر ثيابهم، فقراء لا يجدون من يعولهم، من رُعاة الأغنام من الأعراب والبدو أغنياءَ مُوسرين، حتى إنَّهم يتطاولون في البنيان. ولعلَّ ذلك يشير إلى حديث: «إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر السّاعة»[6]، فقد أُسندت الأمور إلى غير أهلها حتى صار الأعراب الجهلة الجفاة رؤوسًا في أقوامهم، من أصحاب الثروة والجاه[7].
21. ثم انطلق الرجل، فمكث عمر فترةً يسيرةً، ثم قال له ﷺ: أتدري من هذا الرجل؟ فقال عمر: الله ورسوله أعلم، فقال ﷺ: هذا جبريل، جاءكم يعلمكم دينكم.
وقد أعطى اللهُ سبحانه الملائكةَ القدرةَ على التشكُّل في صورة الآدميين وغيرهم، وقد كان جبريل عليه السلام يأتي النبيَّ ﷺ مرارًا في صورة دحية الكلبي الصحابيِّ رضى الله عنهم.
اتباع
لمَّا دخل جبريل عليه السلام على النبيِّ ﷺ جلس إليه مجلس طالب العلم المُنصت المستعدِّ لقبول ما يقال من العلم، دون غرورٍ بمنزلته وفضله، وهو أمين الوحي وروح القدس. وهو أدب لكل من يسأل عالماً أن يحسب الأدب في الجلوس إليه، ولا يسأله بهيئة المتكبر المستغني، كالمتكئ بطريقة لا تليق، أو نبرة لا تليق.
أركان الإسلام من أولى المسائل التي ينبغي أن يعتني بها المسلم في خططه السنوية واليومية، وأن يحاسب نفسه عليها، وأن يكمل كل واحدة منها بإحسان أدائها والزيادة بالمستحبات من جنسها: فينظر في قوة شهادته لله تعالى، ويكملها بكثرة الذكر، ويحسن فرائض صلاته، ويكملها بالنوافل كالوتر والسنن الرواتب وأذكار الصلاة، ويؤدي الزكاة كاملة بطيب نفس، ويزيد بصدقات متفرقة، ويصوم رمضان ولا يخرمه بذنوب، ويزيد ما تيسر من التطوعات، ويحج لبيت الله تعالى ولو مرة، ويزيد ما تيسر له ذلك من حج وعمرة.
قف مع كل ركن من أركان الإيمان، وماذا قام بقلبك في كل ركن منها، كيف إيمانك بالله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته؟، ما منزلة استحضارك لأثر الملائكة وتوقيرك لهم؟، ما مدى فرحك بكتب الله تعالى لخلقه، وتعظيمك لها، وخصوصا لخاتمها الناسخ لها وهو القرآن؟، ما مدى توقيرك لرسله، ومحبتك لهم محبة تدعوك لتطلّب تفاصيل حياتهم، واهتمامك بهديهم؟، ما تعظيمك لليوم الآخر وتذكرك الدائم له؟، ما قوة إيمانك بقدر الله تعالى والرضا بما يجري عليك منه؟
أعلى مراتب الدين مرتبة الإحسان، فهل جربت أن تحمِلَ نفسك على أن تعبد الله وكأنك تراه؟، أو إن لم تكن تراه فاستحضر أن تعبد الله وتعلم أنه يراك، أعظم مما لو نُصبت عليك العيون والمصوِّرات، ولا يكون اللهُ أهونَ الناظرين إليك.
إذا أيقن الإنسانُ واستشعر معيَّة الله ورؤيته إياه ومراقبته له، استحى أن يراه متكاسًلا عن الطاعات، فضلًا عن أن يراه على معصية.
﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾
الإسلام عظَّم شأن اليوم الآخر، وهو إن لم يخبر بوقته فقد أخبر بعلامات له، وهي وغيرها تحفز على الاستذكار الدائم له، فمتى جلسنا مع أنفسنا وتخيلنا اليوم القادم لا محالة؟
المراجع
- "إكمال المُعلم" للقاضي عياض (1/ 204).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 347).
- رواه البخاريُّ (8)، ومسلم (16).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 103).
- ينظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 136 - 137).
- رواه البخاري، برقم: (59)، عن أبي هريرة
- ينظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 139).