عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا،وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ»


فقه

1- النبيُّ ﷺ أنَّ الدينَ الإسلاميَّ الحنيفَ يمتاز بسهولة أحكامه ويُسر تكاليفه، فلا تخرج عن الطاقة البشرية، ولا تَحوي التكاليف الشاقَّة التي كانت في الشرائع السابقة؛ فقد كان الرجل من بني إسرائيلَ إذا أَذنَب ذنبًا، لا تُقبَل توبتُه إلا بقتله، وإذا أصابتْ ثوبَه النجاسةُ، لا يَطهُر إلا بقطع ما أصابته النجاسة، و

لهذا قال سبحانه في وصف النبي ﷺ:

{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}

[الأعراف: 157].

ومن يُسر دين الإسلام أيضًا أنَّه جعل التكاليف مشروطةً بالاستطاعة، قال ﷺ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[1]؛ فالزكاةُ لا تجب على الفقير المحتاج، بل على الغنيِّ الذي يمتلك النِّصابَ المعروف، والحجُّ لا يجب إلا بشرط الاستطاعة في المال والصِّحَّةِ والطريق، وكذلك الصلاة؛ حيث يُصَلِّي العاجزُ عن القيامِ قاعدًا أو مضطجعًا أو كيْفما شاء، ويُفطِر المسافرُ والمريضُ مرضًا يُرجى بُرْؤه ثم يقضي ما أفطره، والمريضُ الذي لا يمكنه الصومُ بحالٍ يُفطِر ويُطعِم عن كل يومٍ مسكينًا، وهكذا في كل التكاليف الشرعية.

ومِن يُسرِ الإسلامِ كذلك أنَّه وضع الرُّخَصَ لأصحاب الأعذار، كتشريع صلاةِ الخوف لمن هم في حالة القتال، وقصرِ الصلاةِ والجمع بين الصلاتين للمسافر، والمسحِ على الخُفِّ للمقيم يومًا وليلةً وللمسافر ثلاثةَ أيام بلياليها، ونحو ذلك[2]

2- ولن يتشدَّدَ أحدٌ في أحكام الدين ويَدَعَ الرِّفقَ فيه فيَتعنَّت ويُلزِم نفسه فوقَ ما يستطيع؛ إلا عجَز وانقطع، فمهْما تمالَك نفسه وساعدته قُوَّته في الصَّبر على ما ألْزَم به نفسه إلا أنه سيَمَلُّ ويعود إلى اليُسر مُرهَقًا، فخيرُ الهَديِ هديُ النبيِّ ﷺ، ولذلك لمَّا قال عبدُ الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: «لَأقومنَّ الليلَ وأصومَنَّ النهارَ ما عِشت» بلغ ذلك النبيَّ ﷺ فنهاه عنه وأمره أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وأن يقوم وينام، فأبى عبد الله  اعتمادًا على قوته وأنه يطيق أكثر من ذلك، فقال ﷺ: «صُم يومًا وأفطر يومَين»، فقال: إني أطيق أكثر من ذلك، فقال ﷺ: «صُم يومًا وأفطِر يومًا». يقول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وبعدما كَبِر وعجز عن المحافظة على صومه قال رضي الله عنه: «لَأَنْ أَكُونَ قَبِلْتُ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامَ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي»[3]، لأنه كره أن يغيِّر شيئًا فارق عليه النبي ﷺ .

3- ولهذا لا بد من السِّداد في العمل، وهو التوسُّطُ بين الإفراط والتفريط، والمقاربةُ في الأعمال، وهي أننا إنْ لم نَستطِعِ الأخذَ بالأكمل فعلينا أن نسعى إلى أخذ الأقرب[4]

وهذا أمر من النبيِّ ﷺ بالاقتصاد والتوسُّط في العبادة دون إفراط ولا تفريط، فإذا لم يستطعِ الإنسانُ الإتيان بالأفضل من النوافل والطاعات، فلْيَأتِ بما يُقارِب الأفضل؛ لأن ما لا يُدرَكُ كلُّه لا يُترَك جُلُّه[5]

4- ثم ساق النبيُّ ﷺ البُشرى تطييبًا لأُمَّته؛ فإنَّهم وإنْ قصَّروا في الأعمال وعجَزوا عن الإتيان بالعبادة على الوجه الأمثل، إلَّا أنَّ اللهَ سبحانه أعدَّ لهم الجزاءَ العظيم، دون أن يَنقص من أُجورهم شيءٌ.

5- ولمَّا عَلم النبيُّ ﷺ أنَّ النَّاس لا يَقدرون على المداومة على العبادة أبدًا، أرشدهم إلى اغتنام أوقات نَشاطهم في عبادة الله والحرص على طاعاته، وهي أوَّل النَّهار، وآخره، كما حثَّهم على العبادة في أحبِّ الأوقات وأفضلها، وهي العبادة في آخرِ الليل[6]

اتباع

1- (1) استخدم النبيُّ ﷺ حرف "إنَّ" الناسخة، لإفادة التوكيد والمصداقية على كلامه. وهذا من أساليب البلاغيين والخطباء التي ينبغي على الدُّعاة استعمالها.

2- (1) إذا تفكَّر الإنسانُ في التكاليف الشرعية ورأى ما فيها من سهولة ويُسر، وما فيها من الرُّخص والتسهيل للمرضى والعاجزين؛ عَرَف مدى رحمة الله ولُطفه بعباده، فازداد حبًّا له وحِرصًا على مرضاته بأداء الطاعات.

3- (2) أفاد الحديثُ أنَّ ترك الرُّخَص في موضع الضرورة تنطُّعٌ وخسرانٌ، فمتى احتاج العبدُ إلى رُخْصَةٍ من الرُّخَص، فالحزمُ والسُّنَّةُ أن يأخذ بالرُّخصة ولا يُشدِّد على نفسه، فمتى صَعُب على مسافرٍ الصومُ فليُفطِر، ومتى أتعبَ المريضَ القيامُ للصلاة جلَس، وإن أحوج الفقرُ والجوعُ العبدَ إلى أكلِ الميتةِ ونحوها أحْيا نفسه بذلك ولا يُلقي بيده إلى التهلكة[7]

4- (2) لا يجوز للإنسان أن يتشدد في دين الله ويُوجب على نفسه ما لم يفرضه الله عليه، فالتشدد في الطاعات تنطعٌ.

5- (2) ليس معنى الحديث أنَّ المجتهد في الطاعات مسيءٌ، وإنما الإساءة في تكليف النفس ما لا تطيق.

6- (2) التمسُّك بسُنَّةِ النبيِّ ﷺ خيرٌ من الزيادة عليها، فالصومُ والفطرُ والقيامُ والنومُ خيرٌ من صيام الدهر وقيامه، ولهذا قال ﷺ للنفر الذين تقالُّوا عبادة النبيِّ ﷺ وأرادوا الزيادةَ عليها: «أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»[8]

7- (2) في الحديث دليلٌ على أنّ المشروع هو الاقتصاد في الطّاعات؛ لأنّ إتعاب النّفس فيها والتّشديد عليها يُفضي إلى ترك الجميع، والدِّينُ يُسر، ولن يشادَّ الدّين أحد إلّا غلبه، والشّريعة المطهَّرة مبنيَّة على التّيسير وعدم التّنفير[9]

8- (2) الأَولى للعامل أن لا يُجهِد نفسه بحيث يَعجِز وينقطِع عن الطاعة؛ بل يعمل بتلطُّف حتى يدوم عمله ولا ينقطع، وفي الحديث: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ»[10]

9- (3) المطلوب من العبد أن يبذل جهده في طاعة اللهِ تعالى والحرص على نَيل الكَمال ما استطاع، فيُجاهِد في تحقيق الخشوع الكامل في الصلاة، وفي إتقان العمل تمامًا، وفي فَهم دروسه ومذاكرتها كُلِّها، وفي الابتعاد عن جميع المعاصي وإتيان جميع المأمورات. فإن أدرك بعدَ مجاهدة نفسه جُلَّ ذلك فهو مشكورٌ مأجورٌ.

10- (3) السُّنَّةُ وسطٌ بين نقيضين؛ الإفراط والتفريط. فلا يُفْرِط الإنسانُ ويُشدِّد على نفسه في العبادات، ولا يُفَرِّط ويتساهل في ترك المأمورات وإتيان المنهيَّات.

11- (4) من السُّنَّة أن يُبشِّر الداعيةُ والفقيهُ العبدَ بفضل الله تعالى وثوابه على طاعته، وألَّا يُقنِّطه من رحمة الله.

12- (5) على الإنسان أن يختار أوقاتَ نشاطه في عبادة الله وطاعته، فإذا أحسَّ من نفسه الكسلَ أو الفتور يَرقُد ويرتاح، ثم يستأنفُ حين ينشط ويقوى. وذلك في العبادات والطاعات وأعمال الدنيا وطلب العلم وغير ذلك.

13- (5) توزيع الأعمال على مدار اليوم بحيث يكون له قسطٌ من الطاعة كل حينٍ خيرٌ من جمع الطاعات لساعةٍ واحدة تُرهق النفسَ والجسدَ.

14-(5) من رحمة الله تعالى بنا أنَّه لم يَفرِض علينا قيام الليل، ولا حثَّنا إلى قيامِ جميعه، بل قال ﷺ في الحديث: «وشَيءٍ من الدُّلجة» تخفيفًا وتيسيرًا لمشقَّةِ عمل الليل، وإلا لقال: «والدُّلجة»[11]

15-عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:

أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْتَجِرُ حَصِيرًا بِاللَّيْلِ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ، وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَثُوبُونَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ حَتَّى كَثُرُوا، فَأَقْبَلَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ»

[12]

16- دخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم فإذا حبلٌ ممدود بين الساريتين، فقال: «ما هذا الحبل؟» قالوا: هذا حبلٌ لزينب فإذا فَتَرَتْ تعلقت، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا، حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أحدُكم نشاطَه، فإذا فَتَرَ فلْيَقْعُدْ»[13]


المراجع

  1.  رواه مسلم (1337).
  2.  "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 121، 122).
  3.  رواه البخاري (1131)، ومسلم (1159).
  4.  "فتح الباري" لابن حجر (1/ 95).
  5.  "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123).
  6.  "فتح الباري" لابن حجر (1/ 95).
  7.  ينظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94، 95).
  8.  رواه البخاري (5063)، ومسلم (1401)، عن أنسٍ رضي الله عنه.
  9. . "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (6/ 123).
  10.  رواه البخاري (6464)، ومسلم (783)، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
  11.  "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (3/ 87).
  12.  رواه البخاري (5861)، ومسلم (782).
  13.  رواه البخاري (1150)، ومسلم (784)، عن أنسٍ رضي الله عنه.



مشاريع الأحاديث الكلية