9 - من توحيِد الربوبيِّة لله تعالى

عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ، فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ»، قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ، فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا أَهْلَ اليَمَنِ، إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ»، قَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالُوا: جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ. قَالَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ» فَنَادَى مُنَادٍ: ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ يَا بْنَ الحُصَيْنِ، فَانْطَلَقْتُ، فَإِذَا هِيَ يَقْطَعُ دُونَهَا السَّرَابُ، فَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَرَكْتُهَا.

فقه

  1. دخل عمران بن الحصين  على النبيِّ ﷺ وربط ذراع ناقته برِجْلها حتى لا تتفلت أو تهرب.

  2. فبينما هو جالسٌ عند النبيِّ ﷺ إذ دخل عليه وفدٌ من قبيلة تميم، فقال ﷺ: أبشروا، وكان المستحسن منهم أن يقبلوا البشرى الصادرة من رسول الله ﷺ  أيًا كانت، خصوصًا أنه يبشرهم بأن من أسلم نجا من الخلود في النار..[1].

  3. فلمَّا سمع بنو تميم البشرى جنحوا إلى طلب الدنيا، فقالوا: «قد بشَّرتنا فأعطنا»، فغضب منهم ﷺ إذ لم يهتموا بالبشرى، وعلَّقوا آمالهم بالدنيا الفانية، ولم يفهموا من البشرى إلا العطاء المادي فقط.

  4. ثم بعد ذلك دخل عليه ناسٌ من اليمن، وهم الأشعريون، قوم أبي موسى الأشعري، فقال لهم: «اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم» مع أنَّ بني تميم أسلمت ولكن لحداثة إسلامهم وقتها لم تقبل البشرى القبول المطلوب حيث قرنت القبول بطلب المال، فكأنها لم تقبلها[2].

  5. وكان أهل اليمن أفقه من بني تميم، فقَبِلوا البشرى دون قيودٍ أو مطالب، ولهذا قال ﷺ: «الإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ»[3].

  6. ثمَّ إنهم بعد أن قبلوا البشرى سألوا رسولَ اللهِ ﷺ عن هذا الكون أو الخلق المشاهد الذي يشهدونه، ولم يظهر في السؤال ما سألوا عنه، غير أنَّه ظهر من إجابته ﷺ.

  7. فأجاب ﷺ عن سؤالهم بأنَّه تعالى كانَ ولم يكن شيءٌ معه من هذا العالم المشاهد، لا السموات ولا الأرض، ولا يمنع أن يكون خلق قبل ذلك أشياء، فالعرش مخلوق قبل ذلك وموجود كما دل عليه الحديث، والله يخلق ما شاء [4]

  8. ثم أخبرهم بأنَّه تعالى كان عرشه على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض

    قال تعالى:

    ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾

    [هود: 7]

    ولمَّا خلق السموات والأرض استوى على العرش فوق السموات،

    قال سبحانه:

    ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾

    [الأعراف: 54].

وعرش الرحمن أعلى المخلوقات وأعظمها وأكبرها، والعرشُ يقصد به سرير المُلْك.

9.  ثمَّ بيَّن ﷺ أن الله تعالى كتب مقادير العباد وما يجري للعالم كلِّه في اللوح المحفوظ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» [5]

10. ثم أخبر ﷺ أنه تعالى خلق السماوات والأرض بعد أن خلق الماء والعرش وكتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ. وقد بيَّن اللهُ سبحانه شيئًا من خلق السموات والأرض فقال:

﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾

[فصلت: 9-12].

11. ثمَّ إنَّ أحدًا أخبر عمرانًا  أنَّ ناقته قد تفلَّتت من عقالها وهربت، فخرج يراها، فإذا هي قد غابت عن الأنظار، وحال بينه وبينها السَّراب، وهو ما يُرى في الصحراء في شدة الحرِّ كأنَّه ماءٌ.

12. فتحسَّر عمرانٌ  على خروجه من عند رسول الله ﷺ؛ حيث قام ولم يسمع باقي حديث النبيِّ ﷺ.

اتباع: 

  1. ربط عمران بن حصين ناقته على باب مسجد النبيِّ ﷺ، وهذا مقتضى التوكل على الله تعالى، من حيث الأخذ بالأسباب ثم تسليم الأمر إلى الله تعالى، فلم يقل: أتركها دون قيدٍ وأتوكل.

  2. كان النبيُّ ﷺ يحبُّ أن يُبَشِّر أصحابَه بالمبشرات الطيبة، فزيِّن حديثك مع الآخرين بكل أنواع البشرى، كالبشرى بما أعده الله تعالى  لأهل الإيمان والصبر من الجنة العاجلة والآجلة، ومن البشرى بزوال الهموم وتبدد المخاوف، وعلى المعلمين ألا يقتصروا على بيان أحكام الفقه والعقيدة وغيرها دون حديث النفوس.

  3. الفوز في الآخرة لا يعادله فوزٌ، ولهذا غضب النبيُّ ﷺ من بني تميم حين لم يكتفوا بالبشرى وطلبوا العطاء، فكم نخسر حين نتطلع لأجر الدنيا وندعو لأجل الدنيا ونغفل عن عالم الآخرة الأعظم. 

  4. لا تستحيِ أن تسألَ عن شيءٍ من أمور الدين، سواءً من أحكام الشريعة وما يحل ويحرم، أو عن أحوال القيامة وأخبار الأمم السابقة.

  5. أَحْسِن الظنَّ بربِّك؛ فهو قادرٌ على تحقيقِ ما تتمنى؛ أوليس الذي لا يعجزه خلقُ مثل هذا الكون الفسيح وإمساكُه بيده قادرًا على إجابة دعوتك؟!

  6. إذا كان اللهُ عزَّ وجلَّ قد كتب مقادير الخلق قبل خلق السموات والأرض، فلا ينبغي لعبدٍ أن يتحسر على ما فاته مما كان يرجو من الخير، ولا يجزع لما أصابه مما كان يحذر من الشرِّ، فإنَّ العبدَ إذا فعل ذلك كان ساخطًا على قدر الله تعالى.

  7. ندم عمران بن حصين حين خرج ينظر ناقته وترك حديثَ رسول الله ﷺ، وفيه دلالة على فضل العلم الشرعي، وأنَّ تحصيلَه وفهمَه خيرٌ من الانشغال بالدنيا وما فيها. فلا يليق بعاقلٍ أن يغفل عن تلك الفضيلة.

المراجع

  1. ينظر: "فتح الباري" لابن حجر (13/ 409).
  2. ينظر: "فتح الباري" لابن حجر (13/ 409).
  3. البخاري (3499)، ومسلم (52).
  4. "مجموع الفتاوى" لابن تيمية وقارن: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 289).
  5. مسلم (2653).

مشاريع الأحاديث الكلية