فقه
يخبر النبيُّ ﷺ أنَّ خيرَ النَّاسِ وأفضلهم أهلُ زمانه من المؤمنين، وهم أصحابه الذين لقوه وآمنوا به وماتوا على الإسلام، وتحملوا عبء الدعوة وحمل راية الإسلام والجهاد في سبيل اللهِ تعالى ونصرة نبيِّه ﷺ.
وقد أثنى اللهُ تعالى عليهم في كتابه في غير موضعٍ
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
وأخبر في غيرها من الآيات أنَّه تاب عليهم ورضي عنهم. بل فسَّر ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}
فقال: "أصحاب محمد ﷺ اصطفاهم لنبيِّه"[1].
2. ثم يأتي بعد الصحابةِ في الفضل والخيرية: مَن بعدهم من التابعين، الذين أدركوا الصحابةَ وتتلمذوا على أيديهم، ونقلوا عنهم كتابَ اللهِ تعالى وسُنَّةَ نبيه ﷺ، وبلَّغوا عنهم أقوالهم في التفسير والفقه والتوحيد.
3. ثم أتباع التابعين الذين حملوا الرسالة وبلَّغوا العلم ودوَّنوا السُّنَّة، وأظهر اللهُ سبحانه بهم الإسلام، وانتشر الدينُ في بقاع الأرضِ كلها.
وقد أثنى اللهُ تعالى على الجميع فقال في حقِّ الصحابة:
{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}
وقال سبحانه في التابعين وأتباعهم:
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
4. ثم إنَّ عمران بن حصين رضي الله عنه شكَّ هل ذكر النبيُّ ﷺ بعدهم قرنًا آخر أم اكتفى بالقرنين السابقين من التابعين وأتباعهم، وأكثر الروايات جاءت من غير الشكِّ وإقحامِ قرنٍ ثالث.
5. ثم أخبر ﷺ بما يظهر في أمته بعد ذلك من الفساد والشَّرِّ؛ حيث يكون في أمته بعد تلك القرون قومٌ يسبقون بأداء الشهادة من غير أن تُطلب منهم، وليس ذلك لحرصهم على أداء الشهادات وإيفاء الحقوق، وإنما لتهاونهم بالشهادات وشهادتهم بالباطل والزور، ويشهد لهذا رواية ابن مسعود رضي الله عنه للحديث، وفيها: «ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ»[2]، ومعنى ذلك أنهم لا يأبهون بالشهادة ولا يُبالون بأن يكونوا من أهلها أم لا. أما الذين يبادرون بالشهادة لإقامة العدل ونصرة المظلوم فهم خير الشهداء، كما قال ﷺ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا»[3].
6. ومن صفاتهم كذلك أنهم يخونون الأمانات، فلا يأتمنهم النَّاس على دمائهم أو أعراضهم أو أموالهم.
7. ومن صفاتهم كذلك أنهم لا يُوفون بما أوجبوه على أنفسهم للهِ تعالى أو للنَّاس؛ فإن نذر أحدهم طاعةً للهِ تعالى أو وعد إنسانًا بشيءٍ، فإنهم يُخلفون ذلك ولا يُنَفِّذوه.
وهذه الصفات التي اتصفوا بها هي صفات المنافقين الذين أخبر النبيُّ ﷺ بسمتهم في قوله: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذَبَ، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا اؤتمنَ خانَ»[4].
8. ومن سماتهم كذلك أنهم آثروا الدُّنيا وتعلَّقوا بها، حتى ظهر ذلك على أبدانهم، فأصابتهم التُّخمة والسِّمنة التي هي دليلُ الغفلةِ والانهماك في لذَّات الدنيا. ولا يعني ذلك أن يكون كلُّ سمينٍ غافلًا أو فاسقًا، أو يكون كلُّ فاسدٍ منافقٍ سمينًا، وإنما الأمر على التغليب، والمقصود أنه كناية عن حُبِّ الدنيا والانشغال بها.
اتباع:
(1) يجب على كلِّ داعيةٍ ومُرَبٍّ وولي أمرٍ أن يغرس في قلوب النَّاس حبَّ الصحابةِ رضوان الله عليهم وتوقيرهم.
(1) على المسلم أن يقرأ في سير الصحابة وأخبارهم، ويتأسى بأخلاقهم وإيمانهم، فهم كما وصفهم ابن عباس رضي الله عنهما: "قاموا بمعالم الدين، وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذَّبت طُرُقُه، وقَوِيت أسبابه، وظَهَرت آلاء الله، واستقرَّ دينه، ووَضَحت أعلامه، وأذلَّ الله بهم الشِّرك، وأزال رؤوسه، ومحا دعائمه، وصارت كلمةُ الله هي العُليا، وكلمةُ الذين كفروا السُّفلى، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزاكية، والأرواحِ الطاهرة العالية، فقد كانوا في الحياة لله أولياءَ، وكانوا بعد الموت أحياءً، وكانوا لعباد الله نُصَحَاءَ، رحلوا إلى الأخرى قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بَعْدُ فيها"[5].
(1) إياك والانتقاص من قدر الصحابة أو سَبِّهم؛ فإنهم أصحاب النبيِّ وصفوةُ الخلقِ بعد الأنبياء.
(1) الأسلمُ لنفسك ودينك أن تُعرض عمَّا دار بينهم من الخلاف والفتنة؛ فهم مُتَأَوِّلون معذورون.
(1) علامة الإيمان حبُّ الصحابة، وآية النفاق بغضُهم. فانظر في نفسك؛ أمؤمن أم منافق؟
(2) اقرأ سير التابعين من أعلام الأمة، لتتأكد كيف صاروا خيرَ النَّاس بعد الأنبياء والصحابة.
(3) عليك أنْ تترضَّى عن أصحابِ النبيِّ ﷺ، وتترحم على التابعين لهم بإحسان وأتباعهم، وتسأل الله سبحانه أن يجمعك بهم مع النبيِّ ﷺ في الفردوس الأعلى.
(4) من الأمانة العلمية أن تُبين شكَّك أو خطأك في مسألةٍ ما، بدلًا من أن تكابر وتجادل، فتَضِلَّ وتُضِلَّ.
(5) الشهادة أمرٌ عظيمٌ وخطرٌ كبيرٌ، فإياك والاستهانةَ بأمرها، فإن اتضح لك أمرٌ وضوحَ الشَّمسِ وكنتَ أهلًا للشهادة فافعل، وإلا فلا.
(5) لا يتعارض هذا الحديث مع المبادرة إلى الشهادة بما علمت يقينًا؛ فلا تنتظر دعوةَ مظلومٍ لشهادتك، بل بادِر بالشهادة، خاصةً إذا لم يقم مقامَك أحدٌ.
(6) إياك وخيانة الأمانات؛ فقد نهى اللهُ تعالى عنها
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
12. (6) من خيانة الأمانات: عدم إتقان العامل في عمله، والغش في الامتحانات، والغش في البيع والشراء والمعاملات، والتَّغرير بالمرضى لدفع أموالٍ باهظةٍ فيما لا يستدعي.
13. (7) الوفاء بالوعد من علامات المؤمنين وأخلاقهم
{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ}
فتحلَّ بصفات المؤمنين، وإياك وصفات المنافقين.
14. (7) النَّذرُ مكروهٌ، لأنك يلزم نفسك بشيء لا يلزمك في أصل الشرع، فتحرج نفسك وتثقلها بذلك، لكن إذا نذرتَ شيئًا لزمك الوفاءُ به
{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}
15. (8) لا تتعلق بملذَّات الدنيا وشهواتها، بل خذ من الحلالِ ما يُقيم قوتَك ويُغنيك عن الحرام؛ فإن الانشغال بالدنيا مُؤْذِنٌ بالإعراضِ عن الدين.
16. قال الشاعر:
إنّ الذوائبَ منْ فِهْرٍ وإخْوَتهمْ = قدْ بيَّنُوا سُنَّةً للنَّاسِ تُتَّبَعُ
يَرْضَى بهَا كُلُّ مَن كانَتْ سرِيرَتُهُ = تَقْوى الإلهِ وبالأمرِ الذي شَرَعَوا
قومٌ إذا حاربوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمُ = أوْ حاوَلُوا النَّفْعَ في أشياعِهِمْ نَفَعُوا
سَجَيَّةٌ تلكَ منهمْ غيرُ محدَثةٍ = إنَّ الخلائِقَ، فاعلَمْ، شَرُّها البِدَعُ
لا يَرْقَعُ النّاسُ ما أوْهَتْ أكفُّهُمُ = عندَ الدِّفاعِ، ولا يوهونَ ما رَقَعوا
إنْ كان في الناس سَبَّاقُونَ بَعْدَهُمُ = فكُلُّ سَبْقٍ لأدنى سَبْقِهِمْ تَبَعُ
ولا يَضَنُّونَ عَنْ مَوْلًى بِفَضْلِهِمِ = وَلا يُصِيبُهُمُ في مَطْمَعٍ طَبَعُ
لا يَجهَلونَ، وإن حاولتَ جَهْلَهمُ = في فضلِ أحلامهمْ عن ذاكَ مُتَّسَعُ
أعِفّةٌ ذُكِرَتْ في الوَحْيِ عِفَّتُهُمْ = لا يَطْمَعُونَ، ولا يُرْديهمُ الطَّمَعُ
كَمْ من صَدِيقٍ لهمْ نالوا كرامتَهُ = ومِنْ عَدُوٍّ عَليهمْ جاهِدٍ جَدَعوا
أَعَطَوْا نبيَّ الهُدى والبِرِّ طاعتَهمْ = فمَا وَنَى نَصْرُهُمْ عنْهُ وَما نَزَعُوا
أكرِمْ بقومٍ رسولُ اللهِ شِيعتُهمْ = إذا تفرَّقَتِ الأهْوَاءُ والشِّيَعُ
المراجع
- "جامع البيان في تأويل القرآن" للطبريِّ (19/ 482).
- رواه البخاريُّ (2652)، ومسلم (2533).
- رواه مسلم (1719).
- رواه البخاريُّ (33)، ومسلم (59).
- "مروج الذهب" للمسعوديِّ (1/ 371).