فقه
بينما النبيُّ ﷺ يمرُّ في السُّوق يتفقدُ أحوال النَّاسِ ويتابعُ البيعَ والشراء، إذ وجد رجلًا يبيع طعامًا، فأدخل يدَه ﷺ في تلك الكَوْمَة التي هيَّأها البائعُ بحيث يكون ظاهرُها جذَّابًا مُغريًا، فوجد ﷺ في باطن الطعامِ بللًا، وذلك يدلُّ على فسادٍ أصابَ الطَّعام فغطَّاه الرجلُ وأخفاه حتى لا يراه المشتري.
فسأله النبيُّ ﷺ عن ذلك مستنكرًا فِعلَته حيث جعل المبلولَ من الطَّعام بالأسفل واليابس بالأعلى، بحيث يظنُّ المشتري أن الجميع يابسٌ لا عيبَ فيه. فأخبره الرجلُ أنَّ المطر سقط على الطَّعام فأفسد أكثره.
فأخبره ﷺ أنَّه كان ينبغي عليه أن يرفع الفاسدَ منه بحيث يراه النَّاس، فذلك مقتضى الأمانةِ والصِّدق في البيع،
«إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ»
ثم ذكر ﷺ قاعدةً عامَّة يُرجع إليها، وهي أنَّ الغاشَّ خارجٌ عن سُنَّةِ النبيِّ ﷺ؛ فإنَّ المكر والخديعة والتدليس صفاتُ الكاذبين والمنافقين، ولا يليق بالنبيِّ وأتباعه أن يتصفوا بتلك الصفات.
وليس المرادُ خروجَ الغاشِّ من الإسلام، وإنما بيانُ مخالفته للدين، وأنه أتى ذنبًا يُوجِب له غضبَ اللهِ تعالى وعقابَه؛ لأنَّه استحلَّ مالَ أخيه المسلم، وأوغر صدرَه، وأورثه البغضاء والكراهية، فأعقب ذلك تفكك الروابط التي تجمع المسلمين.
وهذه القاعدة ليست مقصورةً على البيع والشراء فحسب؛ بل تشمل جميع المعاملات؛ فيدخل فيها غشُّ الإمامِ للرعية وعدم مراعاة مصالحهم واستغلال منصبه في مصالحه الشخصية،
«مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»
كما يشملُ ذلك أيضًا غشَّ الدين، وهو أعظم أنواع الغش وأفدحها أثرًا وأفدحها جُرمًا، وهو أن يكتم العلماءُ ما أمرهم اللهُ تعالى بإبلاغه أو يُحَرِّفوه عن مواضعه ابتغاءَ المناصبِ والأموال، كما وَصَمَ القرآنُ بني إسرائيل بذلك.
اتباع
(1) ينبغي على الدعاة وطلبة العلم أن يَمُرُّوا بالأسواق، ينظروا ما فيها من المخالفات الشرعية في البيوع، وينصحوا النَّاس، ويذكروهم باللهِ تعالى.
(1) كان من سُنَّة النبيِّ ﷺ وأصحابه وتابعيهم في القرون الأولى أن يسيرَ المحتسبُ في الأسواق لتفقد السِّلَع، فحبَّذا إن أعادت الحكوماتُ ذلك لتنظيم حركة البيع والشراء وحفظ حقوق النَّاس.
(2) بادر النبيُّ ﷺ إلى سؤال البائع عن البلل الحاصل قبل أن يتَّهمَه بشيءٍ من الغِشِّ؛ إذ ربما لم يعلم به البائع. فيجدر بنا أن نستبين الأمورَ قبل الحكم على ظواهرها.
(2) على الباعة أن يتعاهدوا بضائعهم بين الحين والآخر، ليروا إن طاله فسادٌ أو ضررٌ أو غير ذلك.
(3) يجب على المسلم أن يكون صادقًا في بيعه وشرائه وجميع تعاملاته، ويحذر أن يأكل حرامًا؛
«إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ»
(3) إياك والتدليس في البيع؛ فإنه سبيلٌ إلى الخسران ومحق البركة في الرزق،
«البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا»
(3) كان جريرُ بنُ عبد الله رضي الله عنه إذا قام إلى السِّلعة يَبيعُها، بصَّر عيوبَها ثم خيَّره، وقال: "إنْ شئتَ فخُذْ، وإنْ شئتَ فاترك. فقيل له: إنك إذا فعلتَ مثلَ هذا لم يَنفُذ لك بيعٌ، فقال: إنا بايعْنا رسول الله ﷺ على النُّصح لكلِّ مسلم [5].
(3) على المسلم أن يحرص على تحرِّي الحلال في طعامه وشرابه؛ فإنَّ الأعمالَ لا تُقبل مع أكل الحرام؛ قال وهب بن الورد رحمه الله: "لو قُمْتَ مَقامَ هذه السارية، لم ينفعك شيء حتى تَنْظُر ما يدخل بَطْنَك حلال أو حرام" [6].
(4) ليعلمْ كلُّ غاشٍّ آكلٍ للحرام أنه لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع، منها: «وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟» [7]. فكيف تُجيب ربَّك حينئذ؟!
(4) كيف ترجو إجابة الدعاء أيها الغاشُّ الذي يأكل أموالَ النَّاسِ بالباطل، وقد ذكَر النبيُّ الرجُلَ يُطِيل السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السماء: يا ربِّ، يا ربِّ، ومطعمُه حرامٌ، ومشرَبُه حرامٌ، ومَلبسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟!» [8].
(4) الأَوْلَى في مثل الأحاديث التي فيها "ليس مني" و"ليس منا" ونحو ذلك تركُها على إطلاقها من غير تفسيرٍ؛ فإنَّ ذلك أشدُّ ردعًا وزجرًا للنَّاس.
(4) قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا يزال الرَّجل يزداد في صحَّة رأيه ما نصح لمستشيره، فإذا غشَّه سلبه الله نُصحه ورأيَه [9].
قال الشاعر:
فَيَا بائعًا بالغِشِّ أَنْتَ مُعَرَّضٌ = لِدَعْوَةِ مَظْلُومٍ إلى سامِعِ الشَّكْوَى
فَكُلْ مِنْ حَلالٍ وَارْتَدِعْ عَنْ مُحَرَّمٍ = فَلَسْتَ عَلَى نارِ الجَحِيمِ غدًا تَقْوَى
14. وقال غيره:
قل للذي لَسْتُ أَدْرِي مِنْ تَلَوُّنِه = أناصِحٌ أم على غِشٍّ يُدَاجيني
إني لَأَكْثَرُ مِمَّا سُمْتَني عَجَبًا = يَدٌ تَشُجُّ وأخرى مِنْكَ تَأْسُوني
تَغْتَابُني عِنْدَ أقوامٍ وتَمْدَحُني = في آخَرِينَ وكلٌّ عنك يأتيني
هَذَانِ أَمْرَانِ شَتَّى بَوْنُ بَيْنِهِمَا = فَاكْفُفْ لِسَانَكَ عِنْ ذَمِّي وتَزْيِيني
1. رواه الترمذي (1210)، وابن ماجه (2146).
2. رواه البخاريُّ (7150)، ومسلم (227).
3. رواه الترمذي (612).
4. رواه البخاري (2079)، ومسلم (1532).
5. رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى - متمم الصحابة" (ص 803)، والطبرانيُّ في "الكبير" (2510).
6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 263).
7. رواه الترمذيُّ (2417).
8. رواه مسلم (1015).
9. "الذريعة إلى مكارم الشريعة" للراغب الأصفهانيِّ (ص 211).