عن أبي هُرَيرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: «قال اللهُ عزَّ وجلَّ: كلُّ عمَلِ ابن آدمَ له، إلَّا الصيامَ؛ فإنه لي، وأنا أَجْزِي به، والصِّيامُ جُنَّةٌ، وإذا كان يومُ صومِ أحدكم، فلا يَرْفُثْ، ولا يَصْخَبْ، فإن سابَّهُ أحدٌ أو قاتَلَهُ، فليقُلْ: إني امرؤٌ صائمٌ، والذي نفْسُ محمدٍ بيده، لَخُلُوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله مِن ريحِ المِسْك، للصائمِ فَرْحتانِ يَفرَحُهما: إذا أفطَرَ فَرِحَ، وإذا لَقِيَ ربَّهُ فَرِحَ بصومِه»

فقه

1. يُخبِر النبيُّ ﷺ عن ربِّ العزَّةِ جلَّ جلاله أنَّه قال: «كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم؛ فإنه لي، وأنا أجزي به»، وإضافة الصوم لله سبحانه دون سائر العبادات وإن كانت له أيضًا؛ إضافةُ تشريفٍ وتخصيصٍ، كتَسمية المسجد الحرام بأنه "بيت الله" وقوله تعالى:

{نَاقَةَ اللَّهِ}

[الشمس: 13].

واختصَّ الصومُ بذلك لأنَّه عبادةٌ لا يَدخلها الرياءُ؛ فإنَّ جميع العبادات لا يُمكِن إخفاؤها عن الملائكة والبشر إلا الصومَ، ولأنَّه عبادةٌ فيها المشقَّة للبدن تتضمَّن كَسْر النفس والصبر على الجوع والعطش، ولأنَّ في الصوم اجتماعَ أنواع الصبر جميعًا؛ فهو صبرٌ على الطاعة، وصبرٌ عن المعصية؛ حيث يمنعه الصوم عن اللغو والفسوق والمعاصي، وصبرٌ على قَدَر الله؛ حيث يتحمَّل الجوع والعطش [1].

ولهذا استأثر اللهُ عزَّ وجل بمعرفة جزاء الصوم، فإذا كان سبحانه قد أطْلَع الملائكةَ الكَتَبة بأنَّ أجر الصلاة كذا حسنةً، وأجر الزكاة كذا وكذا حَسَنةً، فإنه قد أخفى عنهم جزاء الصيام؛ ليجازي عبادَه عليه بنفسه جلَّ وعلا.

  1. ثم أخبَر ﷺ أنَّ الصيامَ سِترٌ ووقايةٌ؛ فإنَّه يَحُول بين العبدِ وبين النَّار يوم القيامة؛ قال ﷺ:

    «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا»

    [2].

وهو كذلك وقايةٌ وسِترٌ عن المعاصي؛ فإنَّه يَكسِر النَّفْسَ ويُضعِف القوة ويُطفِئ الشهوة، ولهذا قال ﷺ:

«يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»

[3]،

أي: وقاية.

3. ولمَّا كان الصيام وِقايةً للعبد عن النَّار وما يُقرِّب إليها من المعاصي، أرشد النبيُّ ﷺ أُمَّته إلى ترك ما لا يجوز للصائم من الجِماع ومقدِّماته التي تُفضِي إليه، والصِّياحُ ورفع الصوت والخِصامُ، ونحوها. فإنَّ سابَّه أحدٌ أو تَشاجَر معه فلْيَقُل: «إني امرؤٌ صائمٌ»، يقولها في نفسه ليَمتنِع بذلك عمَّا لا يجوز له، ويَجهَر بها لخَصْمه ليَعلم أنَّه إنما ترَكه وسكت عنه لأنه صائمٌ لله تعالى، وإلا فهو قادرٌ على الفَتْك به، فيَنزجِر خَصْمُه بذلك ولا يظنُّ أنَّ سُكوته ذلٌّ منه وضعفٌ، بل رُبَّما كان الآخرُ صائمًا كذلك، فيتوب ويرجع حين يُذَكِّره بصومه [4].

4. ثُمَّ يُقسِم النبيُّ ﷺ بربِّه جلَّ وعلا -وهو الصَّادِقُ المُصَدَّق- أنَّ الرائحة الناتجة عن تغيُّرِ فَمِ الصائم بسبب صيامه أفضلُ عند الله من رِيح المِسْك؛ فإذا كانت تلك الرائحة الكريهة حادثةً بسبب الصيام لله تعالى، فهي أحَبُّ عنده وأدعى للقُرْب منه من رِيح المِسْك، واللهُ تعالى يجازي عبدَه عليها بأن تَفوح منه يوم القيامة رائحة أطيب وأذْكى من المِسْك، كما يُجازي الشهيد في سبيل الله بأن يكون دمُه برائحة المِسْك، وأنَّ اللهَ تعالى إن كان يُجازي على استعمال المسك حيث نُدِب إليه في الجُمَعِ والجماعاتِ والأعياد ونحوها، فإنَّ عِوَضَ ذلك الخُلُوف والرائحة الكريهة من الثَّواب أعظم من أجر المتطيِّب بالمسك [5].

5. ثُم يُخبِر ﷺ أنَّ للصائم فرحتَين يَفرحهما؛ إذا أفطر فَرِح بفطره؛ لِما يجده من الطعام والشَّراب بعد الجوع والعطش، وهو فرَح طبيعيٌّ جائزٌ، وفرحٌ بأن أتمَّ اللهُ عليه صومَه ووفَّقه إليه وسلَّمه من الفساد.

والفرحة الأخرى إذا لَقِي الله تعالى، فيَرى ما أعدَّه له من النعيم والجزاء الذي أخفاه عن خَلْقه.

اتباع

1. (1) شرَّف اللهُ تعالى الصِّيَام وجعله خاصًّا به، لا يَعلم ثوابَه غيره؛ وذلك لعظيم أجره وفضله، فلْيَغتنِم المسلمُ ذلك ويُكثِر من التطوع بالصيام.

2. (1) كفى بالصيام شرفًا أنْ أضَافَه الله تعالى إليه قائلًا: «فإنه لي»، وكفى بالمؤمن طاعةً أن يَغتنِم هذا الفضلَ والشَّرف بالإكثار من صيام النوافل بعد صيام الفريضة.

3. (2) الصَّومُ وِقايةٌ للإنسان من الشيطان ووساوسه، ولهذا نبَّه ﷺ الشبابَ إليه عند عَجْزهم عن الزواج، فعلى المسلم أن يلجأ إلى الصيام يحتمي به عن الشهوات والفِتَن.

4. (2) الصومُ وقايةٌ للعبد من النَّار التي وَقودها النَّاس والحجارة، وقد أخبر سبحانه أنه: 

{مَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}

[آل عمران: 185]

فمن أراد الفوز والنجاة من النَّار فعليه بالصوم.

5. (3) نهى النبيُّ ﷺ الصائمَ عن الصَّخَب والجهل والسِّباب ونحوه، وهي أمورٌ لا تجوز للصائمِ وغيره، تأكيدًا على منزلة الصائم، وأنه لا ينبغي أن يَتدنَّى إلى تلك الدرجة من الجَهالة والبَذاءة.

6. (3) يجوز للإنسان أن يُصَرِّح بشيءٍ من عبادته بقصد جَلْب الخير ودفع الشَّر، من غير أن يتعلَّق ذلك بالرياء، ولهذا جاز للصائم إذا سابَّه أحدٌ أو تشاجَر معه أن يَذكر له صيامَه.

7. (4) أكَّد النبيُّ ﷺ كلامَه بالقَسَمِ وهو الصَّادقُ المصدوق، زيادةً في توكيد الكلام. فربما يَحسُن بالداعية والمعلم والمُرَبِّي أن يلجأ إلى ذلك أحيانًا من غير أن يُكثِر منه.

8. (4) إذا تأذَّى الصائمُ بما يَجِد من كراهية رائحة فمِه، فلْيَطمِئن بأنَّ تلك الرائحة طيِّبةٌ عند الله سبحانه مأجورٌ عليها.

9. (4) لا يُفهَم من الحديث كراهية استعمال السواك للصائم؛ فإنَّ تلك الرائحة تخرج من الجَوف لا من الفمِ، كما أنَّه ليس في الحديث الأمرُ بترك تلك الرائحة على حالها، وإنما مواساةُ الصائمِ لِما يجده منها.

10. (5) أفاد الحديثُ أنَّ الفرح بانتهاء الصيام واستطاعة الإنسان الأكلَ والشُّربَ ليس مكروهًا أو محرَّمًا، بل هو فرَحٌ مباحٌ فطَره اللهُ تعالى على حُبِّ الطعامِ والشَّراب.

11. (5) إذا كان الفرحُ بالطعام والشراب للصائم مباحًا، فالفرحُ بأنْ أتمَّ اللهُ على العبدِ صومَه ووفَّقَه إليه شُكرٌ لله تعالى على نِعمه، وهي عبادةٌ يُؤجَر الإنسانُ عليها.

12. قال الشاعر: 

جَاءَ الصِّيَامُ فَجَاءَ الخَيْرُ أَجْمَعُهُ = تَرْتِيلُ ذِكْرٍ وَتَحْمِيدٌ وَتَسْبِيحُ

فَالنَّفْسُ تَدْأَبُ فِي قَوْلٍ وَفِي عَمَلٍ = صَوْمُ النَّهَارِ وَبِاللَّيْلِ التَّرَاوِيحُ

13. وقال غيره:

إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّمْعِ مِنِّي تَصَامُمٌ = وَفِي مُقْلَتِي غَضٌّ، وَفِي مَنْطِقِي صَمْتُ

فَحَظِّي إِذًا مِنْ صَوْمِيَ الجُوعُ وَالظَّمَا = وَإِنْ قُلْتُ: إِنِّي صُمْتُ يَوْمًا، فَمَا صُمْتُ

المراجع

1. انظر: "أعلام الحديث" للخطَّابيِّ (2/ 946)، "المسالك في شرح موطَّأ مالك" لابن العربيِّ (4/ 240)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 212)، "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنَّة" للبيضاويِّ (1/ 490)، "الشرح الممتع على زاد المستقنع" لابن عثيمين (6/ 458).

2.رواه البخاري (2840)، ومسلم (1153).

3. رواه البخاري (5065)، ومسلم (1400).

4. انظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (13/ 20)، "الشرح الممتع على زاد المستقنع" لابن عثيمين (6/ 432).

5. انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (4/ 112)، "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقيِّ (4/ 96).




مشاريع الأحاديث الكلية