فقهٌ
1. يَذكر النبي ﷺ أنَّ مَن صام شهر رمضان مؤمنًا بأن اللهَ عزَّ وجلَّ قد فرَضه عليه، ومُصَدِّقًا بموعود الله تعالى للصائمين وما أعدَّه لهم، ومحتسِبًا الأجرَ والثوابَ من الله سبحانه، لا يرجو جزاءَ ذلك من أحدٍ غيره، بل يريدُ به وجهَ الله تعالى من غير رياءٍ أو سُمعة، مُتلقِّيًا الشهر بطِيب نفسٍ، مغتنِمًا الأوقاتِ في طاعة الله تعالى والقُرب منه – فجزاؤه أنَّ اللهَ سبحانه يَغفر له ما تقدَّم من ذَنْبه.
والصِّيامُ: الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة، بِنية العبادة لله تعالى، من أذان الفجر إلى أذان المغرب؛ لقوله تعالى:
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}
وقال الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي:
«يَدَعُ شَهْوَتَه وطعامَه من أجْلي»
2. ثم أخبَر ﷺ أنَّ مَن قام ليلة القدر بالصلاة والدعاء والذِّكر وقراءة القرآن ونحو ذلك من العبادات، شريطةَ الإيمان والاحتساب كذلك؛ فقد غُفر له ما تقدَّم من ذَنْبه. ولا يُشترَط في ذلك أن يقوم العبدُ الليلةَ كلَّها، بل يحصل ذلك بقيام جزءٍ منها ولو يسيرًا، كما في مُطلَق التهجُّد أو إدراك صلاة القيام مع الإمام [2].
وقد سُمِّيت ليلةُ القدْر بهذا الاسم لأنَّها عظيمة القَدْرِ عند الله؛ ففيها نزل القرآنُ إلى بيت العزة في السماء الدنيا؛ لقوله تعالى:
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}
وفيها نسخُ مقادير العباد التي تَحدُث في تلك السَّنة من اللَّوح المحفوظ، فتُساق إلى مواقيتها [3]. وقد منَّ اللهُ سبحانه على عباده بمُضاعَفة الحسنات في تلك الليلة، فهي كما قال سبحانه:
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}
وليلةُ القدر مُبهَمةٌ في العشر الأواخر من رمضان، فمن قام العشرَ جميعًا فقد أدرك ليلةَ القدر لا مَحالة؛ قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
«كان النبيُّ ﷺ إذا دخل العشْرُ، شدَّ مِئْزَرَهُ، وأحْيا ليله، وأيقَظ أهله»
وهي أحرى أن تكون في الوتر من تلك الليالي؛ لقوله ﷺ:
«تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ»
3. وفي الحديث الآخر أخبَر ﷺ أنَّ من قام جميع ليالي رمضان مؤمنًا محتسِبًا، فقد غُفر له ما تقدَّم من ذنبه. ولا تعارض بين مغفرة الذنوب بقيام رمضان كله وبقيام ليلة القدر؛ فإنَّ كلَّ واحدٍ منهما صالحٌ لتكفير السيئات، إلَّا أنَّ في كلِّ واحدٍ ما ليس في الآخر؛ فقيام جميع رمضان شاقٌّ إلا أنَّ قائمَه يُدرِك ليلة القدر لا مَحالة، فيُغفَر له بقيام رمضان وبإدراك ليلة القدر، وقيام ليلة القدر ليست في مَشقة قيام الشهر كلِّه، إلَّا أنَّها تحتاج إلى تَحَرٍّ وتخمينٍ، وقد يصيبُها المرءُ بعد ذلك وقد لا يصيبها، فصار الأفضل قيام جميع الشهر؛ لِما فيه من الأجر، ولتَيقُّن قيام ليلة القدر.
اتباع
1. (1) مِن عظيم لُطف الله بنا أن جَعَل لبعض الأزمنة والأماكن فضائلَ ومزايا ليست لغيرها؛ فجَعَل يومَ عرفةَ خيرَ أيَّام العام، ويومَ الجُمُعة أفضلَ أيام الأسبوع، وجعل الكعبةَ أفضلَ البقاع، وشهرَ رمضان أفضلَ الشهور، وليلةَ القَدْر أفضلَ الليالي جميعًا. وقد جعل الله في تلك الأوقات والأماكن من الفَوز العظيم والفلاح المُبين ما يُحفِّز الإنسانَ على العمل، واغتنام النَّفَحات.
2. (1) لا بُد في الأعمال من الإيمان والاحتساب؛ فإنَّ الأعمال لا تُقبَل من غير المؤمن، ولا يُؤجَر عليها مَن لم يَحتسِب العملَ أو جعَله رياءً وسمعةً؛ لقوله ﷺ: «إنما الأعمالُ بالنِّيَّات» [6]. فعلى المسلم أن يَستحضر النيَّة الخالصة في جميع أعماله، وأن يحتسِبَ كلَّ ما يعمله ابتغاءَ مرضات الله عزَّ وجل.
3. (1) الإيمان والاحتساب أصلُ كلِّ عملٍ، حتى إنَّهما اجتمَعا في تعريف طَلْق بن حَبيب رحمه الله تعالى للتقوى بقوله: "أن تَعمَل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تتركَ مَعصية الله، على نُور من الله، تَخاف عِقاب الله"، فلا بدَّ لكل عملٍ أن يكون مَبدؤُه الإيمانَ، وغايتُه ثوابَ الله، وابتغاءَ مرضاته [7].
4. (2) أخفى اللهُ عزَّ وجل ليلةَ القدر ليَجتهِد العبدُ في طاعة الله تعالى في جميع الأوقات، فلا يَجتهد في ليلةٍ ويَدَع سائر الليالي، كما أخفى سبحانه ساعةَ الإجابة يوم الجمعة لذلك؛ كي يدعوه عبادُه في جميع اليوم.
5. (2) المعاصي من أكبر الأسباب التي تَحُول بين العبد وبين التوفيق لاغتنام الطاعات؛ فإنَّ النبيَّ ﷺ خرج يُخبِر النَّاسَ بليلة القدر، فوجد رجُلَين يتشاجرانِ في المسجد، فنَسِي النبيُّ ﷺ وقتَها بسبب ذلك [8]. فعلى المسلم أن يبتعد عن المعاصي حتى ينير اللهُ قلبَه ويوفِّقَه لاغتنام النَّفَحات والطاعات.
6. (3) أمامك طريقان لتَنال غُفران الله؛ أحدهما فيه مشقَّة لا تخلو عن لذَّة الطاعة والقُرب من الله تعالى، بقيام ليالي رمضانَ كلِّها. والآخَر: يسير، وهو الاقتصار على قيام ليلة القدر وتحرِّيها، فالأول يقين، والآخر مَبْناه على الظنِّ والتَّخْمِين، فأيَّهما تختار: الظنَّ أم اليقين؟
7. (3) قال ابن رجب رحمه الله: "المحبُّون تطُول عليهم الليالي فيَعُدُّونها عدًّا لانتظار ليالي العشر في كل عام، فإذا ظَفِروا بها نالوا مَطلوبهم، وخدَموا مَحبوبهم" [9].
8. قال الشاعر:
رَمَضَانُ بِالحَسَنَاتِ كَفُّكَ تَزْخَرُ = وَالكَوْنُ فِي لَأْلاءِ حُسْنِكَ مُبْحِرُ
يَا مَوْكِبًا أَعْلامُهُ قُدْسِيَّةٌ = تَتَزَيَّنُ الدُّنْيَا لَهُ تَتَعَطَّرُ
أَقْبَلْتَ رُحْمًا فَالسَّمَاءُ مَشَاعِلٌ = وَالأَرْضُ فَجْرٌ مِنْ جَبِينِكَ مُسْفِرُ
هَتَفَتْ لِمَقْدِمِكَ النُّفُوسُ وَأَسْرَعَتْ = مِنْ حُوبِهَا بِدُمُوعِهَا تَسْتَنْفِرُ
1. رواه البخاريُّ (1894)، ومسلم (1151).
2. انظر: "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقي (4/ 161).
3. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (2/ 390).
4. رواه البخاريُّ (2024)، ومسلم (1174).
5. رواه البخاري (2017)، ومسلم (1169).
6. رواه البخاريُّ (1)، ومسلم (1907).
7. انظر: "الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه" لابن القيم (1/ 10)، "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 459).
8. رواه البخاري (2023).
9. "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 204).