عن أبي سُليمانَ مالكِ بنِ الحُوَيْرثِ رضي الله عنه، قال:أَتَينا النبيَّﷺ ونحن شَبَبةٌ مُتقارِبون، فأقمْنا عنده عِشرين ليلةً، فظنَّ أنَّا اشتَقْنا أهْلَنا، وسألَنا عمَّن ترَكْنا في أهلنا، فأخبرناه، وكان رفيقًا رحيمًا، فقال: «ارْجِعوا إلى أهلِيكم،فعلِّموهم ومُروهم،وصلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي،وإذا حضَرتِ الصلاةُ، فلْيُؤذِّنْ لكم أحدُكم، ثم لِيَؤُمَّكم أكبَرُكم»

فقه

1- وَفَد مالك بن الحُوَيرث رضي الله عنه مع جماعة من أصحابه من بَنِي اللَّيث على النبيِّ ﷺ، وكانوا جميعًا شبابًا متقاربِين في السِّن، فأقاموا عنده عشرين ليلةً يتعلَّمون ويتفقَّهون في دين الله تعالى، فلمَّا أحسَّ منهم ﷺ أنَّهم قد اشتاقوا إلى أهلهم، سألهم إن كانوا تركوا أحدًا من أهليهم، فأخبروه بمن خلَفَهم من الأهل.

2- فلمَّا أخبروه أمرهم بالرجوع إليهم، وذلك من رأفته ورحمته ﷺ بالمؤمنين، وقد قال سبحانه

وتعالى فيه:

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}

[التوبة: 128].

وإنما أمرهم النبيُّ ﷺ بالرجوع إلى أهلهم؛ لأن ذلك كان بعد فتح مكَّةَ؛ إذ انقطعت الهجرة بفتح مكَّةَ؛ لقوله ﷺ: «لا هِجرةَ بعد الفتحِ»[1]، فصار المُقام بالمدينة اختياريًّا، فمَن شاء أقام، ومَن شاء عاد إلى قومه بعد أن يتعلَّم ما يحتاج إليه من العلم والدين، ويعلِّمه قومه[2]

3- ولذلك أمرهم ﷺ بتعليم قومهم ما عَلِموه في دين الله تعالى، بل أخبرهم ﷺ أن التعليم وحده ليس كافيًا، فعلى كلِّ واحدٍ أن يأمر أهله ويراقبهم، فهو مسؤولٌ محاسبٌ عنهم،

قال تعالى:

{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}

[طه: 132]،

وقال ﷺ: «كُلُّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّته» [3] ، فكما أنَّ التعليم واجبٌ، فكذلك الأمرُ والمتابعةُ [4]

4- ثُمَّ وضَع ﷺ القاعدة العريضة في الدِّين وأحكامه، وهي متابعة النبي ﷺ والاتباع له، في الصلاةِ وهيئاتها وأحكامها، وما يُقال فيها وما يُبطلها، وما يوجب سجودَ السهوِ بها؛ فإنَّ أفعالَ النبيِّ ﷺ بيانٌ لِما أجمل اللهُ تعالى ذكرَه في القرآنِ الكريم؛ فلم تأتِ آياتُ القرآنِ مُفَصِّلَةً أحكام الصلاة وعدد ركعاتها ومواقيتها وأركانها وسُننها وهيئاتها، بل أتت تأمر بالحفاظ على الصلاة في أوقاتها، تاركةً بيانَ ذلك لسُنَّتِه ﷺ القولية والفعلية، ولهذا قال ﷺ: «وصلُّوا كما رأيتموني أُصَلِّي».

وأجاز لهم الرجوع وأمرهم به؛ لأنه عَلم أنهم قد تعلَّموا ما يَكفيهم من أمور دينهم من الفقه والتوحيد، وإلَّا فما كان ﷺ لِيَتركهم يرجعون إلى أهليهم فضلًا عن أن يأمرهم بتعليمهم.

وهكذا في سائر التشريعات والأحكام؛ ففي الحجِّ يقول ﷺ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ»[5]، وقد اتفق العلماءُ على أنَّ أفعال النبيِّ ﷺ إذا كانت بيانًا لمجملٍ كالصلاة والصيام والحجِّ، فإنها تُحمَل على الوجوب، إلا أن يدلَّ دليلٌ خاصٌّ على أنَّها ليست للوجوب[6]

5- ثم أرشدهم ﷺ إلى أنَّه إذا حضر وقت الصلاة أن يؤذِّنَ أحدُهم، ويُصَلِّي بهم أكبرهم سِنًّا.

وهذا الوجوب على جميع الأمَّة بشرط أن يَثبُت عنه استمراره على الفعل المعيَّن، فيكون واجبًا على أُمته، أما ما لم يثبُت استمراره عليه فليس بواجب [7]

والأصلُ في الإمامة أن يُقدَّم الأقرأُ للقرآن، كما في حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه 

أن النبيَّ ﷺ قال:

«يؤمُّ القومَ أقرؤُهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً، فأعلمُهم بالسُّنَّة، فإن كانوا في السُّنَّة سواءً، فأقدمُهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً، فأقدمُهم سِلْمًا»

[8]،

وصلَّى عمرو بن سَلِمة رحمه الله بقومه زمان النبيِّ ﷺ وهو ابن سِتِّ سنين؛ لأنَّه كان أقرأَهم [9]. وإنَّما أمرهم النبيُّ ﷺ أن يُقدِّموا أكبرَهم سِنًّا لَما عَلِم من حالهم أنَّ قراءتهم مُتقاربة؛ بدليل قوله في رواية مسلم: «كانا مُتقارِبَين في القراءة [10]، وقد دخلوا الإسلام في وقت واحد؛ فالغالب أن تكون قراءتهم ومعرفتهم بالسُّنَّة متساويةٌ، فلهذا اختار الأكبر سِنًّا.

اتباع

1- (1) في الحديث بيانُ اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بطلب العلم ومعرفة الأحكام الشرعية، وأنهم تركوا في ذلك الأهلَ والوطنَ. وهذا لَما استقرَّ في نفوسهم من فضيلته وعظيم قدره، فلا ينبغي أن يُفَوِّت الإنسانُ على نفسِه ذلك الثواب، خاصةً وأن طلب العلم وتحصيله أصبح يأتيه من غير كَدٍّ أو مشقةِ سفر.

2- (1) اهتمَّ النبيُّ ﷺ بالشباب وحرَص على تعليمهم ثم إرسالهم سُفراء ودعاةً إلى أقوامهم؛ فالشباب عمادُ الأمة وحملة نهضتها، فيجب توجيه اهتماماتهم إلى العمل والدعوة والإصلاح.

3- (1) فَهِم النبيُّ ﷺ خصائص الشباب النفسية وأدرك احتياجاتهم العاطفية، ولهذا سمح لهم بالعودة إلى أهلهم، فينبغي مراعاة متطلباتهم وظروفهم والعناية بهم عناية خاصَّة.

4- (2) يجب على الداعية والمُعَلِّم والمُرَبِّي أن يكون رفيقًا رحيمًا، لا تتعارض دعوتُه مع حاجات النَّاس الضرورية، بل يرفق بهم ما استطاع، ويحرص على الانتفاع بأوقات نشاطهم ويقظتهم، ويمنحهم الراحةَ والفسحةَ التي تلائم أجسادهم وأرواحهم.

5- (2) من فقه الداعية والمُرَبِّي ألَّا يكلف أحدًا بما لا يطيق، بل يراعي قوَّته وقدرته على تنفيذ ما أُمر به شيئًا فشيئًا.

6- (2) ينبغي للإنسان أن يُقيم في أهله ما أمكنه، ولا ينبغي أن يغترب عنهم، ولا أن يبتعد عنهم، حتى إن الرسول ﷺ أمر المسافر إذا قضى حاجته أن يرجِع إلى أهله [11]

7- (3) أوصى النبيُّ ﷺ في هذا الحديث وفي غيره من الأحاديث بتبليغ الدِّين ونشر الدعوة، ومنه قوله ﷺ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» [12]؛ فالداعيةُ مُبَلِّغٌ عن الله تعالى وعن رسوله ﷺ، قائمٌ في النَّاسِ مقامَ النبيِّ ﷺ من دعوة النَّاسِ إلى الخير ونهيهم عن الشر، وبيان شرائع الدين وفقه أحكامه. فمَن لا يريد أن ينزل تلك المنزلة؟!

8- (3) بيَّن النبيُّ ﷺ أن الدعوة تحتاج إلى أمرٍ ومصابرةٍ على التنفيذ، وليست مجرد بيان الأوامر والنواهي، وكم تحمَّل النبيُّ ﷺ في سبيل تبليغ شريعة الله تعالى. فعلى الدُّعاة والعلماء أن يتحلَّوا بالصَّبر والمصابرة في سبيل تطبيق شرع الله تعالى.

9- (4) بيانُ أحكامِ الشرع مَوكولٌ إلى النبيِّ ﷺ وحدَه، لا إلى أقوال الرجال، ولا إلى العقول المجردة، ولا إلى الأهواء؛ فالتعبُّدُ لا بدَّ أن يكون موقوفًا على فعلِ النبيِّ ﷺ وقوله، لا نزيدُ ولا نَنقُص عمَّا شرعه.

10- (4) اتباعُ النبيِّ ﷺ في سُنَنِه سبيلُ الحياة والهداية؛ فبِها عرَف المسلمُ كيفية الصلاة ومواقيتها وأحكامها وأركانها وهيئاتها، وضبط أحكام سائر العبادات مِن زكاة وصيام وزكاةٍ وحجٍّ وغيرها، ولو امتنع مسلمٌ عن اتباع سُنَّته ﷺ لظلَّ حائرًا تائهًا لا يهتدي سبيلًا.

11- (4) يدخل في اتباعه ﷺ في الصلاة: اتباعُه في الأخذ بالرُّخَص؛ فمن حُسن الاقتداء به أن يُصَلِّي المريضُ جالسًا أو متكئًا حسبما يليق بحاله، وأن يفطر المسافرُ والمريضُ إذا تضرر بصيامه، وأن يصلي المسافرُ جمعًا وقصرًا، وغير ذلك من الرُّخص التي أخذ بها ﷺ في حياته،

وقال: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ»

 [13]

12- (5) يرشِد الحديث إلى توقير الكبير وإنزالِه منزلةً تليق به من الأمور المعتبرة شرعًا، وذلك إذا لم يترتب على ذلك مخالفةٌ شرعيةٌ؛ فالنبيُّ ﷺ جعل السِنَّ مُرَجِّحًا للإمامة إذا تساوى النَّاس في مُقَوِّمات الإمامة من القراءة والفقه والقِدم في الإسلام.

المراجع

  1.  رواه البخاريُّ (2783)، ومسلم (1353).
  2.  انظر: "فتح الباري" لابن حجر (13/ 236).
  3.  رواه البخاريُّ (2409)، ومسلم (1829).
  4.  انظر: "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 148).
  5.  رواه مسلم (1297).
  6. انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطّال (10/ 345)، "رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام" للفاكهانيِّ (2/ 167).
  7.  انظر: "فتح الباري" لابن حجر (13/ 237).
  8.  رواه مسلم (673).
  9. رواه البخاريُّ (4302).
  10.  رواه مسلم (674).
  11.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 147).
  12.  رواه البخاريُّ (3461).
  13.  رواه أحمد (5866).

مشاريع الأحاديث الكلية