الشرح الإجماليُّ للحديث
يروي أَبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»؛ أي: سبعة أصناف من أهل الإيمان، يمنُّ الله عليهم بظلِّه يوم القيامة حيث لا يملك أحد الظلَّ إلا الله تعالى، فيَقِيهم من حرِّ الشمس ووَهَجها، وهم: «الإِمَامُ العَادِلُ» وهو الحاكم أو السلطان أو خليفة المسلمين يحكم بالعدل ويتحرَّاه، «وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ» هو الشابُّ الذي منذ صغره وهو في عبادة الله تعالى، فنَمَا وتربَّى على العبادة، فصارت العبادة كأنها غريزة له، فأَلِفها وأحبَّها، «وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ»، فهو شديد الحبِّ للمساجد، والملازمة لصلاة الجماعة فيها، «وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ»؛ أي: تجمعهما رابطة الدين وحبُّه، وحبُّهما في الله، لا من أجل منفعة أو قرابة، فيجتمعان لله ويتفرَّقان لله، «وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ»؛ أي: طلبته لفعل الفاحشة، والزِّنا بها، فامتنع؛ لشدِّة خوفه من الله تعالى، وتقواه، وحيائه، «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ»؛ أي: تصدَّق فبالغ في الإخفاء وطلب الإخلاص والاستتار بالصدقة عند بذلها، بحيث إنه لا تَعلَم الشمال بما تصدَّقت اليمين مع قربُهما الشديد، «وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاه»؛ أي: ذكر الله بقلبه وفِكره، أو مع لسانه، في موضع ليس فيه أحد غيره، ففاضت وسالت دموع عينيه.
الشرح المفصَّل للحديث
يجمع الله الخلائق يوم القيامة في الْمَحشَر العظيم، فيَشتَدُّ الكَرْبُ، وتدنو الشمس من الرؤوس، ويشتدُّ الحَرُّ على أهل الْمَوقِف؛ إلا أن هناك أناسًا يُظلُّهم الله في ظلِّه، يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه، ومنهم هؤلاء السبعة الذين ذكرهم الرسول ﷺ في الحديث الذي رواه أَبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»؛ أي: سبعة أصناف من أهل الإيمان، «يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»؛ "أي: ظلُّ عرشه على حذف المضاف، والمراد يوم القيامة إذا قام الناس لربِّ العالمين، وقَرُبت الشمس من الرؤوس، واشتدَّ عليهم حرُّها، وأخذهم العَرَق، ولا ظِلَّ هناك لشيء إلا العرش" [1]. وقيل: "يَخلُق الله لهم ما يُظلُّهم يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه، وليس في ذلك اليوم بناء، ولا شَجَر، ولا جبال تُظلِّل، وليس هناك إلا ظلُّ ربِّ العالمين، هذا الظلُّ يُظلُّ الله فيه من يشاء من عباده" [2].
وأما قوله ﷺ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»، فلا ينحصر العدد في هذه السبعة؛ فقد أتى غير هذه الأصناف السبعة في أحاديثَ أخرى؛ مثلما "وقع في صحيح مسلم من حديث أبي اليسر مرفوعًا: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّه» [3]، وهاتان الخصلتان – أي: إنظار الْمُعسِر، أو التنازل له عن شيء من الدَّيِن.- غير السّبعة الماضية، فدلَّ على أن العدد المذكور لا يُقصَد به الحصر" [4].
وقد تتبَّع ابن حجر "الأحاديثَ الواردة في مثل ذلك، فزادت على عشْرِ خصال، وقد انتقى منها سبعةً وردت بأسانيدَ جِيادٍ، ونظمها في بيتينِ؛ تذييلًا على بيتَيْ أبي شامة، وهما:
وَزِدْ سَبْعَةً: إِظْلَالَ غَازٍ، وَعَوْنَهُ = وَإِنْظَارَ ذِي عُسْرٍ وَتَخْفِيفَ حِمْلِهِ
وَإِرْفَادَ ذِي غُرْمٍ وَعَوْنَ مُكَاتَبٍ = وَتَاجِرَ صِدْقٍ فِي الْمَقَالِ وَفِعْلِهِ" [5].
ويقصد البيتين اللذين جمع فيهما أبو شامة السبعة المذكورين في الحديث، وهما:
وَقَالَ النَّبِيُّ الْمُصْطَفَى: إِنَّ سَبْعَةً = يُظِلُّهُمُ اللهُ الكريمُ بِظِلِّهِ
مُحِبٌّ عَفِيفٌ نَاشِئٌ مُتَصَدِّقٌ = وَبَاكٍ مُصَلٍّ وَالإمامُ بِعَدْلِهِ [6]
أول السبعة: «الإِمَامُ العَادِلُ»: "والمراد به صاحبُ الولاية العُظمى، ويَلتحِق به كلُّ من وَلِيَ شيئًا من أمور المسلمين فعَدَل فيه، ويؤيِّده رواية مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا» [7]، وأحسن ما فسِّر به العادل أنه الذي يتَّبِع أمر الله بوضع كلِّ شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط ، وقدَّمه في الذِّكر لعموم النفع به" [8]. فالإمام العادل "هو كلُّ من إليه نَظَرٌ في شيء من مصالح المسلمين من الوُلاة والحكَّام، وبدأ به لكثرة مصالحه، وعموم نفعه" [9].
"وأول هذه السبعة: الإمام العادل، وهو أقرب الناس من الله يوم القيامة، وهو على مِنبَر من نور على يمين الرحمن - عزَّ وجلَّ - وذلك جزاءً لمخالفته الهوى، وصبره عن تنفيذ ما تدعوه إليه شَهَواته وطَمَعه وغضبه، مع قُدرته على بلوغ غرضه من ذلك؛ فإن الإمام العادل دَعَتْه الدنيا كلُّها إلى نفسها، فقال: إني أخاف الله ربَّ العالمين، وهذا أنفع الخلق لعباد الله؛ فإنه إذا صَلَح صَلَحت الرعيَّة كلُّها، وقد رُوِي أنه ظلُّ الله فِي الأرض؛ لأن الخلق كلَّهم يستظلُّون بظلِّه، فإذا عدل فيهم، أَظلَّه الله فِي ظلِّه" [10].
الثاني: «وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ»: هو الشابُّ الذي منذ صغره وهو في عبادة الله تعالى، فنَمَا وتربَّى على العبادة، فصارت العبادة كأنها غريزة له، فأَلِفها وأحبَّها، وخصَّ الله تعالى الشابَّ دون الصغير أو الكبير في السنِّ؛ لأن الشابَّ مَظِنَّة غَلَبة الشهوة، فباعث الهوى والشهوة والانحراف فيه قويٌّ، فإذا لازَمَ العبادة مع ذلك، كان أدلَّ على غلبة التقوى.
الثالث: «وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ»، "ومعناه: شديد الحبِّ لها، والملازمة للجماعة فيها، وليس معناه دَوَامَ القُعود في المسجد" [11]، فهو من شدَّة حُبِّه تعلَّق قلبُه بها، وإن كان جسده خارجًا عنها؛ فالمقصود طول الملازمة بالقلب حتى يعود إليها، ويتردَّد إلى صلاة الجماعة، وذكر الله فيها، ومن كانت هذه صفتَه، فهي دليل على قوَّة صلته بربِّه تعالى، وقد مدح الله تعالى في كتابه أهل المساجد وبشَّرهم بما ينتظرهم من الجزاء والفضل؛
﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ 36 رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ 37لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
وللصلاة مكانةٌ عُظمى في دين الله ، وقد أمر اللهُ في كتابه العزيز بالمحافظة عليها؛
﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾
وبيَّن سبحانه أن من صفات المؤمنين المحافظةَ على الصلاة،
﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾
الرابع: «وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ»؛ أي: تجمعهما رابطة الدين وحبُّه، وحبُّهما في الله، ليست هذه محبَّةَ إِلْفٍ وعادة، أو محبَّة طِباع متشابهة، أو تقارب نفسيٍّ، أو عواطفَ هوجاءَ، أو محبَّة لمصالح دنيوية أو مالية، أو من أجل منفعة أو قرابة، فهذان الرجلان اجتمعا من أجل الله وذكره، وتفرَّقا على ذلك، اجتمعا على المعاهدة على الطاعة، وتفرَّقا على ذلك.
"قوله ﷺ: «وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ» معناه: اجتمعا على حبِّ اللّه، وافترقا على حبِّ اللّه؛ أي: كان سببُ اجتماعهما حبَّ اللّه، واستمرَّا على ذلك حتّى تفرَّقا من مجلسهما، وهما صادقان في حبِّ كلِّ واحد منهما صاحبَه للّه تعالى حالَ اجتماعهما وافتراقهما، وفي هذا الحديث الحثُّ على التّحابِّ في اللّه، وبيان عِظَم فضله، وهو من الْمُهمَّات؛ فإنّ الحبَّ في اللّه، والبُغض في اللّه من الإيمان" [12].
و"إنك إذا أحببتَ الشخص لله، كان الله هو المحبوبَ لذاته، فكلَّما تصوَّرتَه في قلبك، تصوَّرت محبوب الحقِّ فأحببته، فازداد حبُّك لله، كما إذا ذكرتَ النَّبيَّ ﷺ، والأنبياء قبله، والمرسلين، وأصحابهم الصالحين، وتصوَّرتهم في قلبك، فإنَّ ذلك يجذب قلبك إلى محبَّة الله، المنعم عليهم، وبهم، إذا كنتَ تحبُّهم لله، فالمحبوب لله يجذب إلى محبَّة الله، والمحبُّ لله إذا أحبَّ شخصًا لله، فإن الله هو محبوبه، فهو يحبُّ أن يجذبه إلى الله تعالى، وكلٌّ من المحبِّ لله والمحبوب لله يَجذِب إلى الله" [13].
وإن المؤمن ليذوق حلاوة الإيمان بالحب في الله تعالى؛
«ثَلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حَلاوةَ الإِيمانِ: أَنْ يكونَ اللهُ ورَسُولُه أحَبَّ إلَيهِ ممَّا سِواهُما، وأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّه إلا للهِ، وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ»
فهذا حثٌّ من رسول الله ﷺ على الحبِّ في الله، الذي هو مِن أجلِّ العبادات التي يتقرَّب بها العبدُ لله خالقه، وهو امتداد للأخوَّة الإيمانية التي أرسى الإسلام قواعدها؛
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾
﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ﴾
والمراد بالمَرْءِ: هو المسلم المؤمن بالله عزَّ وجلَّ، وقد أفاد الحديث: أن محبَّة المؤمن الموصِّلة لحلاوة الإيمان لا بد أن تكون خالصةً لله تعالى، غيرَ مَشوبة بالأغراض الدنيوية؛ فإن مَن أحبَّه لذلك، انقطعت محبتُه إن حصل له ذلك الغرضُ، أو يئس من حصوله [15]، لذلك؛ ذكروا في حقيقة الحب في الله: ألَّا يَزيدَ بالبِرِّ ولا يَنقُصَ بالجفاء [16].
الخامس: «وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ»؛ أي: طلبته لفعل الفاحشة، والزِّنا بها، فامتنع؛ لشدِّة خوفه من الله تعالى، وتقواه، وحيائه، "ويعني بالمنصب: النَّسَب والشَّرف والرِّفعة فِي الدنيا، فإذا اجتمع ذلك مع الجمال، فقد كَمُل الأمر، وقَوِيَت الرغبة، فإن كانت مع ذلك هي الطالبةَ الداعية إلي نفسها، كان أعظم وأعظم؛ فإن الامتناع بعد ذلك كلِّه دليل على تقديم خوف الله على هوى النفس، وصاحبه داخل فِي قوله تعالى:
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ﴾
وهذا كما جرى ليوسفَ، عليه السلام" [17].
وقد "كان صبر يوسفَ عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها، أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجُبِّ وبيعه، وتفريقهم بينه وبين أبيه؛ فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره، لا كسبَ له فيها؛ ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، وأما صبره عن المعصية، فصبر اختيار ورضى، ومحاربة للنفس، ولا سيَّما مع الأسباب التي تَقْوى معها دواعي الموافقة؛ فإنه كان شابًّا، وداعيةُ الشباب إليها قويَّة، وعَزَبًا ليس له ما يعوِّضه ويردُّ شهوته، وغريبًا والغريبُ لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه من بين أصحابه ومعارفه وأهله، ومملوكًا والمملوكُ أيضًا ليس وازعُه كوازع الحرِّ، والمرأة جميلة وذات منصب، وهي سيِّدته، وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشدَّ الحرص، ومع ذلك توعَّدته إن لم يفعل بالسجن والصَّغار، ومع هذه الدواعي كلِّها، صَبَر اختيارًا وإيثارًا لِما عند الله، وأين هذا من صبره في الجُبِّ على ما ليس من كَسْبه؟!" [18].
و"يحتمل قوله: أخاف اللّه، باللّسان، ويحتمل قوله في قلبه؛ ليَزجر نفسه، وخصَّ ذات المنصب والجمال؛ لكثرة الرّغبة فيها وعُسر حصولها، وهي جامعة للمنصب والجمال، لا سيَّما وهي داعية إلى نفسها، طالبة لذلك، قد أغنت عن مشاقِّ التّوصُّل إلى مراودة ونحوها، فالصّبر عنها لخوف اللّه تعالى وقد دعت إلى نفسها، مع جمعها المنصبَ والجمال، من أكمل المراتب، وأعظم الطّاعات، فرتَّب اللّه تعالى عليه أن يُظلَّه في ظلِّه، وذات المنصب هي ذات الحسب والنَّسَب الشّريف، ومعنى [دعته]؛ أي: دعته إلى الزنا بها" [19].
وقد قيل: "الكمال في ثلاثة: العفَّة في الدين، والصبر على النوائب، وحسن التدبير في المعيشة" [20].
السادس: «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ»؛ أي: تصدَّق فبالغ في الإخفاء وطلب الإخلاص والاستتار بالصدقة عند بذلها، بحيث إنه لا تعلم الشمال بما تصدَّقت اليمين مع قربُهما الشديد. "وفي هذا الحديث فضل صدقة السِّرِّ، قال العلماء: وهذا في صدقة التّطوُّع، فالسّرُّ فيها أفضل؛ لأنّه أقرب إلى الإخلاص، وأبعد من الرّياء وأمّا الزّكاة الواجبة، فإعلانها أفضل، وهكذا حكم الصّلاة، فإعلان فرائضها أفضل، وإسرار نوافلها أفضلُ؛
«أفضل الصّلاة صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة»،
قال العلماء: وذَكَر اليمين والشّمال مبالغةً في الإخفاء والاستتار بالصّدقة، وضَرَب المثل بهما لقُرب اليمين من الشّمال، وملازمتها لها، ومعناه: لو قُدِّرت الشّمال رجلًا متيقِّظًا لَمَا عَلِم صَدَقة اليمين؛ لِمُبالغته في الإخفاء" [21].
السابع: «وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاه»؛ أي: ذكر الله بقلبه وفِكره، أو مع لسانه، في موضع ليس فيه أحد غيره، ففاضت وسالت دموع عينيه. "فهذا رَجُل يخشى الله فِي سرِّه، ويراقبه فِي خَلْوته، وأفضلُ الأعمال خشية الله في السرِّ والعلانية، وخشية الله في السر إنما تَصدُر عن قوَّة إيمان ومجاهدةٍ للنفس والهوى؛ فإن الهوى يدعو في الخَلوة إلى المعاصي؛ ولهذا قيل: إن من أعزِّ الأشياء الوَرَع في الخَلوة. وذِكْرُ الله يشمل ذكر عَظَمته وبَطْشه وانتقامه وعقابه؛ والبكاء الناشئ عن هذا هو بكاء الخوف، ويشمل ذِكر جماله وكماله وبِرِّه ولُطفه وكرامته لأوليائه بأنواع البرِّ والألطاف، لا سيَّما برؤيته في الجنة، والبكاء الناشئ عن هذا هو بكاء الشَّوق. ويدخل في ذلك أيضًا رَجُلٌ ذَكَر أن الله معه حيثما كان، فتذكَّر معيَّته وقُربه واطِّلاعه عليه حيث كان يبكي حياءً منه، وهو من نوع الخوف أيضًا" [22].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم:
«لاَ يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ»
وليس المراد من ذِكْر الرجل في الحديث أنه لا يَدخُل في الفضل إلا الرجال؛ بل يشترك النساء معهم فيما ذُكر، إلا فيما لا يكون من الأفضل للمرأة أن تتَّصِف به، فلا تدخل المرأة في فضل الإمام العادل، إن كان المراد به الإمامةَ العُظمى، وكذلك ملازمة المسجد؛ لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل، على أنه يُحتمَل دخولها في هذا الفضل، وذلك حين يكون قلبها معلَّقًا بالصلاة.
"فهل مِثْلُه من لا يَحضُر المساجد؛ لكن قلبه معلَّق بالصلاة؛ يعنى: امرأة مثلًا في بيتها، قلبُها معلَّق بالصلاة، أو إنسان مريض لا يستطيع الصلاة في المسجد؛ لكن قلبه معلَّق بالعبادة من باب أولى؛ لأن المساجد أماكن العبادة... الذي يظهر أن الذي قلبُه معلَّق بالصلاة، سواء كان يؤدِّيها في البيت لعُذر، أو لكونه ليس من أهل الجماعة، يدخل في الحديث" [24].
و"هذه السبعة اختلفت أعمالهم فِي الصورة، وجمَعَها معنًى واحدٌ، وهو مجاهدتهم لأنفسهم، ومخالفتهم لأهوائها، وذلك يحتاج أولًا إلى رياضة شديدة، وصبر على الامتناع مِمَّا يدعو إليه داعي الشهوة أو الغضب أو الطمع، وفي تجشُّم ذلك مشقَّة شديدة على النفس، ويحصل لها به تألُّم عظيم؛ فإن القلب يكاد يحترق من حرِّ نار الشهوة أو الغضب عِنْدَ هيجانها إذا لم يُطْفأ ببلوغ الغَرَض من ذلك، فلا جَرَم كان ثواب الصبر على ذلك أنه إذا اشتدَّ الحرُّ في الموقف، ولم يكن للناس ِظٌّل يُظلُّهم ويَقِيهم حرَّ الشمس يومئذ، وكان هؤلاء السبعة فِي ظلِّ الله - عزَّ وجلَّ - فلم يجدوا لحرِّ الموقف أَلَمًا؛ جزاءً لصبرهم على حرِّ نار الشهوة أو الغضب في الدنيا" [25].
المراجع
- "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" لأبي الحسن المباركفوري (2/ 406).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 90).
- رواه مسلم (7704).
- "فتح الباري" لابن حجر (2/ 144).
- "فتح الباري" لابن حجر (2/ 144).
- "فتح الباري" لابن حجر (2/ 143).
- رواه مسلم (1827).
- "فتح الباري" لابن حجر (2/ 144، 145).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 121).
- "فتح الباري" لابن رجب (6/ 46).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 121).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 121).
- "مجموع الفتاوى" (10/608).
- رواه البخاريُّ (16)، ومسلم (43).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبي (1/ 214).
- انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجرٍ العسْقلاني (1/ 62).
- "فتح الباري" لابن رجب (6/ 48، 49).
- "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 156).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 122).
- "أدب الدنيا والدين" للماورديِّ (329).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 122).
- "فتح الباري" لابن رجب (6/ 50).
- رواه الترمذيُّ (1633)، والنسائيُّ (3108)، وقال الترمذيُّ: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1269).
- "شرح البخاري" لابن عثيمين (3/84).
- "فتح الباري" لابن رجب (6/ 46).
النقول
قال ابن حجر : "ووقع في صحيح مسلم من حديث أبي اليسر مرفوعًا:
«مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّه»
وهاتان الخصلتان غير السّبعة الماضية فدلّ على أن العدد المذكور لا مفهوم له... ثمّ تتبَّعتُ بعد ذلك الأحاديثَ الواردة في مثل ذلك، فزادت على عشْرِ خصال، وقد انتقيتُ منها سبعةً وردت بأسانيدَ جِيادٍ، ونظمتُها في بيتينِ؛ تذييلًا على بيتَيْ أبي شامة، وهما:
وَزِدْ سَبْعَةً: إِظْلَالَ غَازٍ، وَعَوْنَهُ = وَإِنْظَارَ ذِي عُسْرٍ وَتَخْفِيفَ حِمْلِهِ وَإِرْفَادَ ذِي غُرْمٍ وَعَوْنَ مُكَاتَبٍ = وَتَاجِرَ صِدْقٍ فِي الْمَقَالِ وَفِعْلِهِ"[ 2].
قال ابن عثيمين رحمه الله:
«سبعةٌ يُظلُّهم الله في ظِلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه»؛
أي: يوم القيامة، حيث تدنو الشمس الحارَّة العظيمة، التي نُحِسُّ بحرارتها الآن، وبيننا وبينها مئات السنين، هذه الشمس تدنو يوم القيامة، حتى تكون على رؤوس الخلائق بمقدار ميل؛ قال بعض العلماء: الميل: الْمُكحُلة، وميل المكحلة صغير أصغر من الإصبع، وقال بعضهم: ميل المسافة، وأيًّا كان الميل، فالشمس قريبة من الرؤوس؛ لكن هناك أناس يُظلُّهم الله في ظلِّه، يوم لا ظل إلا ظلُّه... يُظلُّهم الله: يعني يَخلُق لهم ما يُظلُّهم يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه، وليس في ذلك اليوم بناء، ولا شَجَر، ولا جبال تُظلِّل، وليس هناك إلا ظلُّ ربِّ العالمين، هذا الظلُّ يُظلُّ الله فيه من يشاء من عباده، ومنهم هؤلاء السبعة الذين ذكرهم الرسول ﷺ في قوله: «سبعةٌ يُظلُّهم الله في ظِلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه»"[3].
قال أبو الحسن رحمه الله: "«يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»؛ أي: ظلُّ عرشه على حذف المضاف، والمراد يوم القيامة إذا قام الناس لربِّ العالمين، وقَرُبت الشمس من الرؤوس، واشتدَّ عليهم حرُّها، وأخذهم العَرَق، ولا ظِلَّ هناك لشيء إلا العرش"[4].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "نتكلَّم على مسألة ضلَّ فيها كثير من الجهَّال، وهي قوله: «سبعةٌ يُظلُّهم الله في ظِلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه» حيث توهَّموا جَهْلًا منهم أن هذا هو ظلُّ الله نفسه، وأن الله تعالى يُظلُّهم من الشمس بذاته - عزَّ وجلَّ - وهذا فَهم خاطئٌ مُنكَر، يقوله بعض المتعالِمين الذين يقولون: إن مذهب أهل السُّنَّة إجراء النصوص على ظاهرها. فيُقال: أين الظاهر؟! وأين يكون ظاهر الحديث وأن الربَّ - جلَّ وعلا - يُظلُّهم من الشمس؟! فإن هذا يقتضي أن تكون الشمس فوق الله - عزَّ وجلَّ - وهذا شيء مُنكَر لا أحد يقول به من أهل السُّنَّة؛ لكن مشكلات الناس – ولا سيَّما في هذا العصر - أن الإنسان إذا فَهِم، لم يعرف التطبيق، وإذا فَهِم مسألة، ظنَّ أنه أحاط بكلِّ شيء علمًا. والواجب على الإنسان أن يَعرِف قدر نفسه، وألَّا يتكَّلم - لا سيَّما في باب الصفات - إلَّا بما يَعلَم من كتاب الله وسنَّة رسوله ﷺ وكلام الأئمَّة؛ فمعنى «يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه»، أو «يُظلُّهم الله في ظِلِّه» يعني الظلَّ الذي لا يقدر أحد عليه في ذلك الوقت؛ لأنه في ذلك الوقت لا بناءَ يُبنى، ولا شَجَرَ يُغرَس، ولا رمال تُقام، ولا أحجارَ تُصفَّف، ولا شيءَ من هذا... ولا يُظلُّ الخلائقَ من الشمس شيءٌ، لا بناءَ، ولا شجرَ، ولا حجر، ولا غير ذلك؛ لكن الله - عزَّ وجلَّ - يَخلُق شيئًا يُظلِّل به من شاء من عباده، يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه، هذا هو معنى الحديث، ولا يجوز أن يكون له معنى سوى هذا" [5].
قال ابن رجب رحمه الله: "هذه السبعة اختلفت أعمالهم فِي الصورة، وجمَعَها معنًى واحدٌ، وهو مجاهدتهم لأنفسهم، ومخالفتهم لأهوائها، وذلك يحتاج أولًا إلى رياضة شديدة، وصبر على الامتناع مِمَّا يدعو إليه داعي الشهوة أو الغضب أو الطمع، وفي تجشُّم ذلك مشقَّة شديدة على النفس، ويحصل لها به تألُّم عظيم؛ فإن القلب يكاد يحترق من حرِّ نار الشهوة أو الغضب عِنْدَ هيجانها إذا لم يُطْفأ ببلوغ الغَرَض من ذلك، فلا جَرَم كان ثواب الصبر على ذلك أنه إذا اشتدَّ الحرُّ في الموقف، ولم يكن للناس ِظٌّل يُظلُّهم ويَقِيهم حرَّ الشمس يومئذ، وكان هؤلاء السبعة فِي ظلِّ الله - عزَّ وجلَّ - فلم يجدوا لحرِّ الموقف أَلَمًا؛ جزاءً لصبرهم على حرِّ نار الشهوة أو الغضب في الدنيا" [6].
قال النوويُّ رحمه الله: "«الإِمَامُ العَادِلُ»: قال القاضي: هو كلُّ من إليه نَظَرٌ في شيء من مصالح المسلمين من الوُلاة والحكَّام، وبدأ به لكثرة مصالحه، وعموم نفعه، ووقع في أكثر النّسخ: «الإِمَامُ العَادِلُ»، وفي بعضها: «الإِمَامُ العَدْلُ»، وهما صحيحان" [7].
قال ابن رجب رحمه الله: "وأول هذه السبعة: الإمام العادل، وهو أقرب الناس من الله يوم القيامة، وهو على مِنبَر من نور على يمين الرحمن - عزَّ وجلَّ - وذلك جزاءً لمخالفته الهوى، وصبره عن تنفيذ ما تدعوه إليه شَهَواته وطَمَعه وغضبه، مع قُدرته على بلوغ غرضه من ذلك؛ فإن الإمام العادل دَعَتْه الدنيا كلُّها إلى نفسها، فقال: إني أخاف الله ربَّ العالمين، وهذا أنفع الخلق لعباد الله؛ فإنه إذا صَلَح صَلَحت الرعيَّة كلُّها، وقد رُوِي أنه ظلُّ الله فِي الأرض؛ لأن الخلق كلَّهم يستظلُّون بظلِّه، فإذا عدل فيهم، أَظلَّه الله فِي ظلِّه" [8].
قال ابن حجر رحمه الله: "والمراد به صاحبُ الولاية العُظمى، ويَلتحِق به كلُّ من وَلِيَ شيئًا من أمور المسلمين فعَدَل فيه، ويؤيِّده رواية مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه:
«إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا»
وأحسن ما فسِّر به العادل أنه الذي يتَّبِع أمر الله بوضع كلِّ شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط ، وقدَّمه في الذِّكر لعموم النفع به" [10].
قال ابن عبد ربِّه رحمه الله: "قالت الحكماء: مما يجب على السُّلطان العدل في ظاهر أفعاله؛ لإقامة أمر سُلطانه، وفي باطن ضميره؛ لإقامة أمر دينه، فإذا فسدت السياسة، ذَهَب السُّلطان. ومَدَارُ السياسة كلِّها على العدل والإنصاف، لا يقوم سلطان لأهل الكفر والإيمان إلا بهما، ولا يدور إلا عليهما، مع ترتيب الأمور مراتبها، وإنزالها منازلها" [11].
قال النوويُّ رحمه الله: "«ورجل قلبه معلَّق في المساجد» هكذا هو في النُّسَخ كلِّها [في المساجد]، وفي غير هذه الرّواية [بالمساجد]، ووقع في هذه الرّواية في أكثر النّسخ [معلَّق في المساجد]، وفي بعضها [متعلِّق] بالتّاء، وكلاهما صحيح، ومعناه: شديد الحبِّ لها، والملازمة للجماعة فيها، وليس معناه دَوَامَ القُعود في المسجد" [12].
قال القرطبيُّ رحمه الله: "محبة المؤمن وظيفةٌ متعيِّنة على الدوام، وُجِدت الأغراض أو عُدِمت، ولما كانت المحبَّة للأغراض هي الغالبةَ، قلَّ وِجدان تلك الحلاوة؛ بل قد انعدم، لا سيَّما في هذه الأزمان التي قد انْمَحى فيها أكثرُ رسوم الإيمان. وعلى الجملة: فمَحبَّة المؤمنين من العبادات التي لا بد فيها من الإخلاص في حسن النيَّات" [13].
قال النوويُّ رحمه الله: "قوله ﷺ: «وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ» معناه: اجتمعا على حبِّ اللّه، وافترقا على حبِّ اللّه؛ أي: كان سببُ اجتماعهما حبَّ اللّه، واستمرَّا على ذلك حتّى تفرَّقا من مجلسهما، وهما صادقان في حبِّ كلِّ واحد منهما صاحبَه للّه تعالى حالَ اجتماعهما وافتراقهما، وفي هذا الحديث الحثُّ على التّحابِّ في اللّه، وبيان عِظَم فضله، وهو من الْمُهمَّات؛ فإنّ الحبَّ في اللّه، والبُغض في اللّه من الإيمان" [14].
قال ابن تيمية رحمه الله: "إنَّك إذا أحببتَ الشخص لله، كان الله هو المحبوبَ لذاته، فكلَّما تصوَّرتَه في قلبك، تصوَّرت محبوب الحقِّ فأحببته، فازداد حبُّك لله، كما إذا ذكرتَ النَّبيَّ ﷺ، والأنبياء قبله، والمرسلين، وأصحابهم الصالحين، وتصوَّرتهم في قلبك، فإنَّ ذلك يجذب قلبك إلى محبَّة الله، المنعم عليهم، وبهم، إذا كنتَ تحبُّهم لله، فالمحبوب لله يجذب إلى محبَّة الله، والمحبُّ لله إذا أحبَّ شخصًا لله، فإن الله هو محبوبه، فهو يحبُّ أن يجذبه إلى الله تعالى، وكلٌّ من المحبِّ لله والمحبوب لله يَجذِب إلى الله" [15].
قال ابن القيم رحمه الله: "ومن تحقيق هذا الفناء: أن لا يحبَّ إلّا في اللّه، ولا يُبغض إلّا فيه، ولا يوالي إلّا فيه، ولا يعادي إلّا فيه، ولا يعطي إلّا له، ولا يمنع إلّا له، ولا يرجو إلّا إيّاه، ولا يستعين إلّا به، فيكون دينه كلُّه ظاهرًا وباطنًا للّه، ويكون اللّه ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما، فلا يوادُّ من حادَّ اللّه ورسوله، ولو كان أقربَ الخلق إليه؛ بل:
يُعَادِي الَّذِي عَادَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ = جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ الْحَبِيبَ الْمُصَافِيَا
وحقيقةُ ذلك فناؤه عن هوى نفسه وحظوظها بمراضي ربِّه وحقوقه، والجامعُ لهذا كلِّه تحقيق شهادة أن لا إله إلّا اللّه علمًا ومعرفةً، وعملًا وحالًا وقصدًا" [16].
قال ابن رجب رحمه الله: "ويعني بالمنصب: النَّسَب والشَّرف والرِّفعة فِي الدنيا، فإذا اجتمع ذلك مع الجمال، فقد كَمُل الأمر، وقَوِيَت الرغبة، فإن كانت مع ذلك هي الطالبةَ الداعية إلي نفسها، كان أعظم وأعظم؛ فإن الامتناع بعد ذلك كلِّه دليل على تقديم خوف الله على هوى النفس، وصاحبه داخل فِي قوله تعالى:
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ}
وهذا كما جرى ليوسفَ، عليه السلام"[17].
قال النوويُّ رحمه الله: "«ورجلٌ دعتْه امرأة ذات منصب وجمال فقال: إنّي أخاف اللّه». قال القاضي: يحتمل قوله: أخاف اللّه، باللّسان، ويحتمل قوله في قلبه؛ ليَزجر نفسه، وخصَّ ذات المنصب والجمال؛ لكثرة الرّغبة فيها وعُسر حصولها، وهي جامعة للمنصب والجمال، لا سيَّما وهي داعية إلى نفسها، طالبة لذلك، قد أغنت عن مشاقِّ التّوصُّل إلى مراودة ونحوها، فالصّبر عنها لخوف اللّه تعالى وقد دعت إلى نفسها، مع جمعها المنصبَ والجمال، من أكمل المراتب، وأعظم الطّاعات، فرتَّب اللّه تعالى عليه أن يُظلَّه في ظلِّه، وذات المنصب هي ذات الحسب والنَّسَب الشّريف، ومعنى [دعته]؛ أي: دعته إلى الزنا بها" [18].
قال ابن تيمية رحمه الله: "كان صبر يوسفَ عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها، أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجُبِّ وبيعه، وتفريقهم بينه وبين أبيه؛ فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره، لا كسبَ له فيها؛ ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، وأما صبره عن المعصية، فصبر اختيار ورضى، ومحاربة للنفس، ولا سيَّما مع الأسباب التي تَقْوى معها دواعي الموافقة؛ فإنه كان شابًّا، وداعيةُ الشباب إليها قويَّة، وعَزَبًا ليس له ما يعوِّضه ويردُّ شهوته، وغريبًا والغريبُ لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه من بين أصحابه ومعارفه وأهله، ومملوكًا والمملوكُ أيضًا ليس وازعُه كوازع الحرِّ، والمرأة جميلة وذات منصب، وهي سيِّدته، وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشدَّ الحرص، ومع ذلك توعَّدته إن لم يفعل بالسجن والصَّغار، ومع هذه الدواعي كلِّها، صَبَر اختيارًا وإيثارًا لِما عند الله، وأين هذا من صبره في الجُبِّ على ما ليس من كَسْبه؟!" [19].
قال النوويُّ رحمه الله: "«ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله» هكذا وقع في جميع نسخ مسلم في بلادنا وغيرها، وكذا نقله القاضي عن جميع روايات نسخ مسلم: «لا تعلم يمينه ما تنفق شماله»، والصّحيح المعروف: «حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» هكذا رواه مالك في الموطَّأ والبخاريُّ في صحيحه، وغيرهما من الأئمّة، وهو وجه الكلام؛ لأنّ المعروف في النّفقة فِعْلُها باليمين. قال القاضي: ويُشبه أن يكون الوهم فيها من النّاقلين عن مسلم، لا من مسلم؛ بدليل إدخاله بعده
حديث مالك، وقال بمثل حديث عبيد، وبيَّن الخلاف في قوله، وقال: رجل معلَّق بالمسجد إذا خرج منه حتّى يعود، فلو كان ما رواه مخالفًا لرواية مالك، لنبَّه عليه كما نبَّه على هذا، وفي هذا الحديث فضل صدقة السِّرِّ، قال العلماء: وهذا في صدقة التّطوُّع، فالسّرُّ فيها أفضل؛ لأنّه أقرب إلى الإخلاص، وأبعد من الرّياء وأمّا الزّكاة الواجبة، فإعلانها أفضل، وهكذا حكم الصّلاة، فإعلان فرائضها أفضل، وإسرار نوافلها أفضلُ؛
«أفضل الصّلاة صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة»،
قال العلماء: وذَكَر اليمين والشّمال مبالغةً في الإخفاء والاستتار بالصّدقة، وضَرَب المثل بهما لقُرب اليمين من الشّمال، وملازمتها لها، ومعناه: لو قُدِّرت الشّمال رجلًا متيقِّظًا لَمَا عَلِم صَدَقة اليمين؛ لِمُبالغته في الإخفاء" [20].
قال ابن رجب رحمه الله: "فهذا رَجُل يخشى الله فِي سرِّه، ويراقبه فِي خَلْوته، وأفضلُ الأعمال خشية الله في السرِّ والعلانية، وخشية الله في السر إنما تَصدُر عن قوَّة إيمان ومجاهدةٍ للنفس والهوى؛ فإن الهوى يدعو في الخَلوة إلى المعاصي؛ ولهذا قيل: إن من أعزِّ الأشياء الوَرَع في الخَلوة. وذِكْرُ الله يشمل ذكر عَظَمته وبَطْشه وانتقامه وعقابه؛ والبكاء الناشئ عن هذا هو بكاء الخوف، ويشمل ذِكر جماله وكماله وبِرِّه ولُطفه وكرامته لأوليائه بأنواع البرِّ والألطاف، لا سيَّما برؤيته في الجنة، والبكاء الناشئ عن هذا هو بكاء الشَّوق. ويدخل في ذلك أيضًا رَجُلٌ ذَكَر أن الله معه حيثما كان، فتذكَّر معيَّته وقُربه واطِّلاعه عليه حيث كان يبكي حياءً منه، وهو من نوع الخوف أيضًا" [21].
المراجع
- رواه مسلم (7704).
- "فتح الباري" لابن حجر (2/ 144).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 90).
- "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" لأبي الحسن المباركفوري (2/ 406).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 261، 262).
- "فتح الباري" لابن رجب (6/ 46).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 121).
- "فتح الباري" لابن رجب (6/ 46).
- رواه مسلم (1827).
- "فتح الباري" لابن حجر (2/ 144، 145).
- "العقد الفريد" لابن عبد ربه (1/23).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 121).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبي (1/ 215).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 121).
- "مجموع الفتاوى" (10/608).
- "مدارج السالكين" (1/ 185).
- "فتح الباري" لابن رجب (6/ 48، 49).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 122).
- "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 156).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 122).
- "فتح الباري" لابن رجب (6/ 50).