عن الْمِقدامِ بنِ مَعْدِي كَرِبَ رضى الله عنه أن النبيَّ قال: «ألا هل عسى رجُلٌ يَبْلُغُه الحديثُ عَنِّي وهو مُتَّكِئٌ على أريكته، فيقول: بينَنا وبينَكم كتابُ الله، فما وجدْنا فيه حلالًا استَحْلَلناه، وما وجدْنا فيه حرامًا حرَّمناه، وإنَّ ما حرَّمَ رسولُ الله ﷺ كما حرَّمَ اللهُ». وفي لفظ أبي داودَ: «ألا إني أوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه».

فقه:

  1. يُحذِّر النبيُّ أُمَّته من أن تقول في الدين برأيها مُتَّبِعةً الهَوى، حتى يأتي الرجلُ منهم وهو جاهلٌ مُعْرِضٌ عن العلمِ وأهلِه، ترك مجالس العلم وآثر الراحة والكسل، فيقول وهو متكئٌ على سريره أو وسادته: علينا أن نكتفيَ بما في القرآن من الأوامر والنواهي، فالحلالُ ما أحلَّه القرآنُ، والحرامُ ما حرَّمه القرآن.

وقد تحقق ذلك فعلًا في أُمَّته ، فظهر الخوارجُ والروافضُ والقرآنيون والعلمانيون وغيرهم، الذين تعلَّقوا بظاهر القرآن، وأعرضوا عن الاحتكام إلى سُنَّةِ النبيِّ ، ورفضوا العملَ بالأحاديث الصحيحة، جهلًا واستكبارًا أعمى قلوبَهم وبصائرَهم[1].

2. وقد أنكر النبيُّ فعلَهم ذلك، وعلَّله بأنَّ أوامرَ النبيِّ ونواهيه في وجوب الامتثال والطاعة كأوامرِ اللهِ سبحانه ونواهيه؛ فإنَّه لا ينطق عن الهوى، وإنَّ سُنَّتَه شرعٌ يجب اتباعُه

قال سبحانه:

{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}

[الحشر: 7].

3. وأخبر النبي أنَّ اللهَ سبحانه آتاه القرآنَ، وهو الكتاب المُنَزَّل عليه بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام، المتعبَّدُ بتلاوته، المتحدَّى بكل سورةٍ فيه، المنقول بنصِّه تواترًا، وآتاه كذلك السُّنَّة، التي فيها تفسير القرآن وبيان أحكامه وحدوده، ولهذا

قال سبحانه:

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}

[النحل: 44]

فسمَّى السُّنَّةَ ذكرًا، وأخبر سبحانه أنَّه نزَّلها على نبيِّه. 

وقد تميزت السُّنَّةُ أنَّها أتت بأحكامٍ زائدةٍ عمَّا في القرآن؛ كتحريم الذهب على الذكور، ومشروعية الخيار بأنواعه بين البائع والمشتري، والنهي عن الجمع بين المرأة وعمَّتها وبين المرأة وخالتها في النكاح، وتحريم لحوم الحُمُرِ الأهلية، وإباحة ميتة السمك والجراد، وغير ذلك.

وليس شيءٌ من هذا جاء به النبيُّ من عنده، وإنما هو وحيٌ أوحاه اللهُ تعالى إلى نبيِّه ، وإن كان الفارق بين السُّنَّة والقرآن أنَّ السُّنَّةَ وحيٌ بالمعنى، يخبر النبيُّ عن ذلك المعنى بما شاء من الألفاظ

قال سبحانه:

{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}

[النجم: 3، 4].

اتباع: 

  1. (1) إياك والجهلَ والإعراضَ عن طلب العلم والاستكبار عن الجلوس بين يدي العلماء؛ فإنَّ ذلك سببُ البدع واتباعها.

  2. (1) حذَّر النبيُّ من الإعراض عن سُنَّته، فإياك أن تكون من هؤلاء المعرضين.

  3. (1) في هذا الحديث توبيخ وتقريع لمن ردَّ السُّنَّة استغناءً عنها بالكتاب، فكيف بمن رجَّح الرّأيَ على الحديث، وإذا سَمِع حديثًا من الأحاديث الصحيحة قال: لا عليَّ بأن أعمل بها؛ فإنَّ لي مذهبًا أتَّبِعه[2].

  4. (2) إياك والاستهانة بما حرَّمه النبيُّ أو أوجبه؛ فإنَّه في العقوبة وما حرَّمه اللهُ تعالى سواء، فضلًا عن عاقبة إنكار ما شرعه النبيُّ .

  5. (2) مَن ردَّ قولَ النبيِّ فقد ردَّ قولَ اللهِ تعالى وترك الانقياد لأوامره ونواهيه، فإياك وذلك.

  6. (3) السُّنَّةُ وحيٌ مثل القرآن، فما جاء منها من طريقٍ صحيحٍ وجب اتِّباعُه وتصديقه والإيمان به.

  7. (3) كيف يجوز لمؤمنٍ أن يزعم الإيمانَ بالنبيِّ ثم يُعرض عن اتِّباعه؟!

  8. (3) لا يُشترط في الحديث الصحيح أن يوافق القرآن حتى يُقبل؛ فكثيرٌ من الأخبار النبوية جاء فيها زيادةٌ على ما في القرآن، فإذا جاءك حديثٌ صحيحٌ مُسندٌ إلى النبيِّ فاعمل به.

  9. (3) لو كان رسولُ اللهِ لا يُطاع فيما كان زائدًا على القرآن، لم يكن لطاعته معنًى، وسَقَطت طاعته المختصَّة به، وإنّه إذا لم تَجِب طاعته إلَّا فيما وافَقَ القرآن، لا فيما زاد عليه، لم يكن له طاعة خاصَّة تختصُّ به

    وقد قال سبحانه:

    {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}

    [النساء: 80][3].

  10. قال الشاعر:وكُنْ لسُنَّةِ خَيْرِ الخَلْقِ مُتَبِعًا = فإنَّها لنَجَاةِ الْعَبْدِ عُنْوَانُ

فَهْوَ الَّذِي شَمِلَتْ لِلْخَلْقِ أُنْعُمُهُ = وَعَمَّهُمْ مِنْهُ فِي الدَّارَيْنِ إِحْسَانُ

وَمُذْ أَتَى أَبْصَرَتْ عُمْيُ الْقُلُوبِ بِهِ = سُبْلَ الهُدَى وَوَعَتْ لِلْحَقِّ آذَانُ

يَا رَبِّ صَلِّ عَلَيْهِ مَا هَمَى مَطَرٌ = فَأَيْنَعَتْ مِنْهُ أَوْرَاقٌ وَأَغْصَانُ

وَابْعَثْ إِلَيْهِ سَلَامًا زَاكِيًا عَطِرًا = وَالْآلِ وَالصَّحْبِ لَا تُفْنِيهِ أَزْمَانُ

المراجع

  1. انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 298)، "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 630).
  2. "حاشية السنديِّ على سنن ابن ماجه" (1/ 4).
  3. "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (2/ 220).


مشاريع الأحاديث الكلية