المعنى الإجماليُّ للحديث
قال طارقُ بنُ شهابٍ: جاء رجُلٌ من اليهودِ إلى عمرَ ، فقال: (يا أميرَ المؤمنِينَ، آيةٌ في كتابِكم تَقرؤونها، لو علينا نزلت معشرَ اليهود، لاتَّخَذْنا ذلك اليومَ عيدًا)؛ أي: لعظَّمْنا ذلك اليوم الذي نزلتْ فيه هذه الآية، وجعلناه عيدًا؛ لفضلها، وقيمتها، وعظيم حقِّها.
قال عمر: وأيُّ آية؟ قال:
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾
باكتمال الشرائع والفرائض والحدود، وكماله بعزِّه، وظُهوره على الدين كلِّه.
﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾
بالهداية إلى الإيمان، واكتمال الشرع، وظهور الدين.
﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾
رضيتُه لكم واصطفيتُه؛ فلا دين سواه يرضاه الله، فلا نسخَ فيه بعد اليوم، ولن تنسخه شريعةٌ أخرى من الشرائع، فهو الدين الخاتم.
فقال عمر : (إني لأعلمُ اليومَ الذي نزلتْ فيه، والمكانَ الذي نزلتْ فيه: نزلتْ على رسول الله ﷺ بعرفاتٍ في يوم جُمعة)؛ أي: نحن نعي ذلك ونهتمُّ به وننتبه له، ونعلم متى وأين نزلتْ، ونزولها في يوم الجمعة ويوم عرفة، وهما عيدان، ومكان نزولها بعرفات.
الشرح المفصَّل للحديث
في هذا الحديث إشارةٌ إلى فضيلة تلك الآية التي ذكَرها اليهوديُّ، وأن اليهود عَلِموا فضلَها وقيمتَها، وحسدونا عليها.
وهذا الرجُل الذي جاء إلى أمير المؤمنين هو كعب الأحبار، وقد أسلم بعد ذلك؛ ولهذا قال الراوي: (رجُلٌ من اليهود)؛ أي: كان منهم حينئذ[1].
وقوله: (لاتَّخذنا ذلك اليوم عيدًا)؛ لِما عَرَفوا من فضلها، وقيمتها، وعظيم حقِّها؛ أي: لعظَّمْنا ذلك اليوم الذي نزلتْ فيه، وجعلناه عيدًا.
والعيد مُشتَقٌّ من العَوْد؛ لأنه يعود كلَّ عام، ويجمع العيد أمورًا، منها: العَوْد والتَّكرار، والاجتماع عليه، ثم ما يتلوه من العادات والعبادات[2].
﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾
: إكمالُ الدين حاصلٌ بأمورٍ؛ منها: اكتمال الشرائع والفرائض والحدود، ونفي المشركين عن البيت، فلم يعُدْ يحجُّ مشركٌ ولا يدخُله
﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
وكماله كذلك بعزِّه، وظُهوره، وذُلِّ الشرك، وفُتوره، وبرفع النَّسخ عنه، وزوال الخوف من العدوِّ، والظهور عليه، وأمْن هذه الشريعة من أن تنسخها شريعةٌ بعدها، وفتح مكة[3].
﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾
إنما لم يقُل: «أنعمتُ عليكم»؛ لأن النعمة كانت موجودةً مبتدَأة بابتداء دعوة الإسلام، والنعمةُ هنا بالهداية إلى الإيمان، واكتمال الشرع، وظهور الدين[4].
﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾
أي: أعلمتُكم اليوم رضايَ؛ فإنه تعالى لم يزَلْ راضيًا عن الإسلام، وكيف لا وهو الذي شرعه للخلق؟! ويحتمل أن يريد: رضيتُه لكم كما هو، فلا نسخَ فيه بعد اليوم، ولن تنسخه شريعةٌ أخرى من الشرائع، فهو الدين الخاتم[5].
وفي ردِّ عمر على الرجُل دليلٌ على اهتمام المسلمين بذلك والانتباه له؛ فإنهم قد علموا ذلك، وحفِظوا متى وأين نزلتْ.
ومعنى قول عمر أنَّا ما تركنا تعظيم ذلك اليوم والمكان؛ أما المكان فهو عرفات، أعظم ركن في الحجِّ الذي هو أحدُ أركان الإسلام، وأما الزمان فهو يوم الجُمُعة، وهو أفضلُ أيام الأسبوع، وزاد ذلك أنه يوم عرفة، وهو أفضل أيام الدهر، فإذا اجتمع اليومان كان خيرًا وفضلًا، فكأنَّ عمر قال له: قد جعلنا اليوم عيدًا، والمكان كذلك[6].
المراجع
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 270).
- انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" لابن تيمية (1/ 496).
- انظر: "زاد المسير في علم التفسير" لابن الجوزيِّ (1/ 513)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (7/ 339)، "تفسير ابن رجب الحنبليِّ" (1/ 384).
- انظر: "زاد المسير في علم التفسير" لابن الجوزيِّ (1/ 514).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (7/ 339).
- انظر: "الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري" للكرماني (1/ 179)، "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (3/ 129).
النقول
قال ابن رجب رحمه الله: "«رجلاً من اليهود» هو كعب الأحبار، قال ذلك قبل أن يُسلم. «معشر»: الجماعة الذين شأنُهم واحد. «عيدًا»: يوم سرور وفرح وتعظيم، سمِّي كذلك لأنه يعود كلَّ عام فيعود معه السرور. «أيُّ آية؟»: هي التي تَعنيها، وهي الآية الثالثة من المائدة. «أكملت لكم دينكم» بإرساخ قواعدِه وبيانها وإظهاره على الأديان كلها. «وأتممت عليكم نعمت» بالهداية والتوفيق والنصر على الكفر وأهله، وهدم معالم الجاهلية"[1].
قال ابن بطال رحمه الله: "قال المؤلِّف: قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» حُجَّة في زيادة الإيمان ونقصانه؛ لأن هذه الآية نزلت يوم عرفةَ في حجَّة الوداع يومَ كملت الفرائض والسُّنن، واستقرَّ الدِّين، وأراد الله قبض نبيِّه، فدلَّت هذه الآية، أن كمال الدين إنما حصل بتمام الشريعة، فمن حافَظ على التزامها، فإيمانه أكملُ من إيمان من قَصَّر في ذلك، وضيَّع؛ ولذلك قال البخاريُّ: فإذا ترك شيئًا من الكمال فهو ناقص، وقد تقدَّم في أول كتاب الإيمان، أن القول بزيادة الإيمان ونقصانه هو مذهب أهل السُّنَّة وجمهور الأُمَّة"[2].
قال ابن رجب رحمه الله: "«قد عرفنا ذلك اليوم والمكان» أشار عمرُ - رضي الله عنه - إلى أن يوم نزولها يوم عيد عند المسلمين؛ فقد نزلت يوم الجمعة، وهو يوم عيد لنا، ويوم عرفة الذي يتحقَّق العيد بأوله... فهذا قد يؤخذ من أن الأعياد لا تكون بالرأي والاختراع كما يفعله أهل الكتابين من قبلنا؛ إنما تكون بالشرع والاتِّباع، فهذه الآية لما تضمَّنت إكمال الدين وإتمام النعمة، أنزلها الله في يوم شرعه عيدًا لهذه الأمَّة من وجهين: أحدهما: أنه يوم عيد الأسبوع وهو يوم الجمعة. والثاني: أنه يوم عيد أهل الْمَوسم، وهو يوم مَجمَعهم الأكبر، وموقفهم الأعظم، وقد قيل: إنه يوم الحجِّ الأكبر. وقد جاء تسميته عيدًا من حديث مرفوع، خرَّجه أهل السنن من حديث عقبة بن عامر، عن النبيِّ ﷺ قال: «يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ»[3]. وقد أَشكَل وجهه على كثير من العلماء؛ لأنه يدلُّ على أن يوم عرفة يومُ عيد لا يُصام، كما رُوي ذلك عن بعض المتقدِّمين، وحَمَله بعضهم على أهل الموقف، وهو الأصحُّ؛ لأنه اليوم الذي فيه أعظم مجامعهم ومواقفهم، بخلاف أهل الأمصار؛ فإن اجتماعهم يوم النحر، وأما أيَّام التشريق، فيشارك أهل الأمصار أهلَ الْمَوسم فيها؛ لأنها أيام ضحاياهم وأكلهم من نُسُكهم. هذا قول جمهور العلماء. وقال عطاء: إنما هي أعياد لأهل الْمَوسم، فلا يُنهى أهل الأمصار عن صيامها. وقول الجمهور أصحُّ"[4].
قال الألوسيُّ رحمه الله: "اليومَ أكملتُ لكم دينكم بالنصر والإظهار؛ لأنهم بذلك يُجرون أحكام الدين من غير مانع، وبه تمامه، وهذا كما تقول: تمَّ لي الْمُلك إذا كُفِيتَ ما تخافه، وإلى ذلك ذهب الزجَّاج، وعن ابن عبَّاس والسُّدِّيِّ أن المعنى: اليوم أكملتُ لكم حدودي وفرائضي وحلالي وحرامي بتنزيل ما أَنزلتُ، وبيان ما بيَّنتُ لكم؛ فلا زيادةَ في ذلك ولا نقصان منه بالنَّسخ بعد هذا اليوم، وكان يوم عرفةَ عام حجَّة الوداع، واختاره الجبائيُّ والبلخيُّ وغيرهما، وادَّعَوا أنه لم ينزل بعد ذلك شيء من الفرائض على رسول الله ﷺ في تحليل ولا تحريم، وأنه عليه الصلاة والسلام لم يَلبَث بعدُ سوى أحدٍ وثمانين يومًا، ومضى - روحي فِدَاه - إلى الرفيق الأعلى ﷺ. وفَهِم عمرُ - رضي الله تعالى عنه - لما سمع الآية نعى رسول الله ﷺ؛ فقد أخرج ابن أبى شَيبةَ عن عنترةَ أن عمرَ رضى الله تعالى عنه لَمَّا نزلت الآية بكى، فقال له النبيُّ ﷺ: «ما يُبكيك؟»، قال: أبكاني أنا كنَّا في زيادة من ديننا، فأما إذا كَمُل، فإنه لم يَكمُل شيء قطُّ إلا نَقَص. فقال عليه الصلاة والسلام: «صدقتَ»، ولا يُحتجُّ بها على هذا القول على إبطال القياس كما زعم بعضهم؛ لأن المراد إكمال الدين نفسِه ببيان ما يَلزَم بيانه، ويُستنبَط منه غيره، والتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أصول الشرع وقوانين الاجتهاد، ورُوي عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ وقتادةَ أن المعنى: اليومَ أكملت لكم حَجَّكم، وأقْرَرْتُكم بالبلد الحرام تحجُّونه دون المشركين. واختاره الطبريُّ، وقال: يردُّ ما رُوي عن ابن عباس والسُّدِّيِّ رضى الله تعالى عنهم أن الله تعالى أنزل آية الكَلالة، وهى آخر آية نزلت، واعترض بالمنع، وتقديم الجارِّ؛ للإيذان من أول الأمر بأن الإكمال لمنفعتهم ومصلحتهم، وفيه أيضًا تشويقٌ إلى ذكر المؤخَّر
﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾
وليس الجارُّ فيه متعلِّقًا بنعمتي؛ لأن المصدر لا يتقدَّم عليه معموله. وقيل: متعلِّق به، ولا بأس بتقدُّم معمول المصدر إذا كان ظرفًا، وإتمام النعمة على المخاطبين بفتح مكةَ، ودخولها"[5].
قال المباركفوري رحمه الله: "«لاتَّخَذنا ذلك اليومَ عيدًا»؛ أي: لعظَّمناه وجعلناه عيدًا لنا في كلِّ سنة؛ لعِظم ما حصل فيه من إكمال الدين. «فقال عمرُ: إني لأعلم أيَّ يومٍ أُنزلت هذه الآية، أُنزلت يوم عرفة في يوم الجمعة». فإن قيل: كيف طابق الجواب السؤال؛ لأنه قال: «لاتَّخذناه عيدًا»، وأجاب عمرُ رضي الله عنه بمعرفة الوقت والمكان، ولم يَقُل: جعلناه عيدًا. والجواب: أن هذه الرواية اكتفى فيها بالإشارة، وإلا فرواية إسحاقَ قد نصَّت على المراد، ولفظُه: «نزلت يوم الجمعة، يوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد»، لفظ الطبريِّ والطبرانيِّ: «وهما لنا عيدان»، وكذا عند الترمذيِّ من حديث ابن عباس أن يهوديًّا سأله عن ذلك فقال: «نزلت في يوم عيدين: يوم جمعة ويوم عرفة»، فظهر أن الجواب تضمَّن أنهم اتَّخذوا ذلك اليوم عيدًا، وهو يوم الجمعة، واتَّخذوا يوم عرفة؛ لأنه ليلة العيد، وهذا كما جاء في الحديث: «شهرا عيد لا ينقصان: رمضان وذو الحجة»، فسمَّى رمضان عيدًا؛ لأنه يُعقِبه العيد. قاله الحافظ. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في الإيمان والتفسير وغيرهما، ومسلم في آخر الكتاب، والنسائي في الحج والإيمان. قوله:
﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾
أحكامه وفرائضه فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام
﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾
بإكماله، وقيل بدخول مكة آمنين
اخترت
﴿ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾
حال؛ أي: اخترتُه لكم من بين الأديان، وآذنتُكم بأنه هو الدين الْمَرضيِّ وحدَه، وأخرجه ابن جرير في تفسيره"[6].
قال ابن رجب رحمه الله: "فلمَّا رَأَوا عزَّ الإسلام وانتصاره وظهوره، يَئِسوا كلَّ اليأس من المؤمنين، أن يرجعوا إلى دينهم، وصاروا يخافون منهم ويخشَون؛ ولهذا في هذه السَّنَة التي حجَّ فيها النبيُّ ﷺ سنةَ عشْرٍ حَجَّة الوداع، لم يَحُجَّ فيها مشرك، ولم يَطُف بالبيت عُريان؛ ولهذا قال:
فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ
أي: فلا تخشَوِا المشركين، واخشَوِا اللهَ الذي نصركم عليهم وخذلهم، وردَّ كيدهم في نحورهم.
﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾
بتمام النصر، وتكميل الشرائع الظاهرة والباطنة، الأصول والفروع؛ ولهذا كان الكتاب والسنَّة كافِيَين كلَّ الكفاية، في أحكام الدين أصوله وفروعه؛ فكل متكلِّف يَزعُم أنه لا بدَّ للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم إلى علوم غير علم الكتاب والسنَّة، من علم الكلام وغيره، فهو جاهل، مبطِل في دَعْواه، قد زعم أن الدين لا يَكمُل إلا بما قاله ودعا إليه، وهذا من أعظم الظلم والتجهيل لله ولرسوله.
﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾
الظاهرة والباطنة
﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾
أي: اخترته واصطفَيْتُه لكم دينًا، كما ارتضيتكم له، فقوموا به شكرًا لربِّكم، واحمَدُوا الذي مَنَّ عليكم بأفضل الأديان وأشرفها وأكملها"[7].
المراجع
- "فتح الباري" لابن رجب (1/ 172).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 101، 102).
- أخرجه أبو داود (2419)، والترمذيُّ (773) والنسائيُّ (4186)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح أبي داود" (2090).
- "فتح الباري" لابن رجب (1/ 172، 173).
- "تفسير الألوسي = روح المعاني" (6/ 60).
- "تحفة الأحوذي" للمباركفوري (8/ 408، 409).
- "فتح الباري" لابن رجب (1/ 173).