عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله ﷺ: «مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعَمَلَ به والجهلَ، فليس لله حاجةٌ في أن يَدَع طعامَه وشَرَابَه».
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله ﷺ: «مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعَمَلَ به والجهلَ، فليس لله حاجةٌ في أن يَدَع طعامَه وشَرَابَه».
يُبيِّن النبيُّ ﷺ أنَّ الغرضَ الأسمى من الصيام التقوى وحفظُ اللسان والأعضاء؛
لقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
[البقرة: 183]
فمن صام عن الطعام والشراب ولم تَصُم أعضاؤه عن قول الزُّورِ والعمل به – وهو كلُّ باطلٍ من الكلام، فيَشمل الكذبَ والنميمة والغِيبة ونحوها من آفات اللسان – ولم يَنتهِ عن السَّفاهة والطَّيش وعدم الحِلم وما يترتب على ذلك من الشِّجار والقتال والضَّجيج المنهيِّ عنه بقوله ﷺ:
«وإذا كان يومُ صومِ أحدكم، فلا يَرفُثْ، ولا يَصخَبْ، فإن سابَّهُ أحدٌ أو قاتَلَهُ، فلْيَقُلْ: إني امرؤٌ صائمٌ»
[1]
= فلا يُقبل صيامُه ولا يُعتدُّ به.
وعبَّر ﷺ بقوله: «فليس للهِ حاجةٌ» للدلالة على عدم الالتفات والمبالاة والقبول والمَيل، كما تقول: لا حاجةَ لي في فلان. وإلا فاللهُ عزَّ وجلَّ غنيٌّ عن العالمين، لا يحتاج إلى شيءٍ منهم،
قال سبحانه:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}
[فاطر: 15].
وقد نهى الله عزَّ وجلَّ عن قول الزُّور فقال:
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}
[الحج: 30]،
وامتدح عباده الذين لا يَشهدون الزور؛ فلا يقولونه ولا يعملون به ولا يجلسون في مجلسه، قال سبحانه:
{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}
[الفرقان: 72]،
وذكر النبيُّ ﷺ أنَّ شَهادة الزُّور من أكبر الكبائر،
فقال ﷺ: «ألا أُنبِّئُكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثًا، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدينِ، وجلسَ وكان متَّكِئًا فقال: ألا وقولَ الزُّور»، قال: فما زال يُكرِّرها حتى قلنا: ليْتَه سكتَ
[2].
والمقصود من إيجاب الصوم وشَرْعِه، ليس نفْسَ الجوع والعطش؛ بل ما يَتبَعُه من كَسْر الشهوة، وإطفاء ثائرة الغضب، وتطويع النفْس الأمَّارة للنفْس المطمئنَّة، فإذا لم يحصُل للصائم شيءٌ من ذلك، ولم تتأثَّر به نفْسه، لم يكُن له مِن صيامه إلا الجوعُ والعطشُ؛
لقوله ﷺ:
«رُبَّ صائمٍ ليس له مِن صِيامه إلا الجوعُ، ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامه إلا السَّهَرُ»
[3].
وحينئذٍ لا يُبالي الله تعالى بصومه، ولا ينظر إليه نظرَ قَبولٍ؛ إذ لم يحقِّق المقصودَ من صيامه [4].
1. إذا كان اللهُ تعالى قد اختصَّ بأجْر الصيام، وأخبر بقوله جل جلاله:
«كلُّ عمَلِ ابن آدمَ له، إلا الصيامَ؛ فإنه لي»
[5]،
دلالةً على عِظَم أجره ورِفعة منزلته، ثم تأتي كلمةٌ يقولها العبد من سَخَط الله فتَهدِم كلَّ هذا الأجر وتُحبِطه؛ فهذا دليلٌ على خطورة قول الزُّور والعمل به، وأنه من المَهالِك والمُوبِقات التي تُورِث الإنسانَ خسران الدنيا والآخرة، فعلى المسلم أن يَحذَر من تلك المعصية، ويَنأى بنفسه عن إحباط عمله.
2. إن الله تعالى أراد من عباده أن يتَّقُوه ويطيعوه ويَجتنِبوا مَحارمه، ولم يُرِد أن يضيِّق عليهم بترك الأكل والشُّرب والجِماع؛ بل أراد أن يَمتثِلوا أوامره، ويَجتنبوا نواهيَه؛ حتى يكون الصيام مدرسةً يتعوَّدون فيها على ترْكِ المحرَّمات، وعلى القيام بالواجبات.
3. الغرضُ من الصيام كسْرُ النَّفْس وترْكُ المناهي التي هي مُحَرَّمةٌ، لا تركُ الطعام والشراب فقطْ اللَّذينِ هما مباحانِ [6].
4. اعلم أنه لا يتِمُّ التقرُّبُ إلى الله تعالى بتَركِ هذه الشهوات المباحة في غير حالة الصيام إلا بعد التقرُّبِ إليه بتَرْك ما حرَّم الله في كلِّ حال من الكذب، والظُّلم، والعُدوان على الناس في دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم [7].
5. حرَّم اللهُ تعالى قولَ الزُّور كما حرَّم العملَ به، فيَشملُ ذلك الغيبةَ والنَّميمة والإيقاع بين النَّاس والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وغير ذلك من باطل القولِ.
6. قال الشاعر:
يَا ذَا الَّذِي صَامَ عَنِ الطُّعْمِ = لَيْتَكَ قَدْ صُمْتَ عَنِ الظُّلْمِ
هَلْ يَنْفَعُ الصَّوْمُ امْرَأً ظَالِمًا = أَحْشَاؤُهُ مَلْأَى مِنَ الإِثْمِ
7. وقال غيره:
حَصِّنْ صِيَامَكَ بِالسُّكُوتِ عَنِ الخَنَا = أَطْبِقْ عَلَى عَيْنَيْكَ بِالأَجْفَانِ
لا تَمْشِ ذَا وَجْهَيْنِ مِنْ بَيْنِ الوَرَى = شَرُّ البَرِيَّةِ مَنْ لَهُ وَجْهَانِ
1. رواه البخاريُّ (1904)، ومسلم (1151)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
2. رواه البخاريُّ (2654)، ومسلم (87).
3. رواه النسائيُّ في "السنن الكبرى" (3236)، وابن ماجه (1690).
4. "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 497).
5. رواه البخاريُّ (1904)، ومسلم (1151).
6. "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (3/ 24).
7. "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 155).