عن عبد الله بنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: أخَذَ رَسولُ اللهِ ﷺ بمَنْكِبِي، فَقالَ: «كُنْ في الدُّنْيا كَأنَّكَ غَرِيبٌ، أوْ عابِرُ سَبِيلٍ»، وكانَ ابنُ عُمَرَ يقولُ: «إذا أمْسَيْتَ فلا تَنْتَظِرِ الصَّباحَ، وإذا أصْبَحْتَ فلا تَنْتَظِرِ المَساءَ، وخُذْ مِن صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، ومِنْ حَياتِكَ لِمَوْتِكَ».

هدايات الحديث

1. «إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء»؛ أي: سِر دائمًا، ولا تَفتُر عن السَّير ساعةً؛ فإنك إن قصَّرت في السَّير، انقطعتَ عن المقصود، وهَلَكْتَ في تلك الأودية[1].

2. «وخذ من صحَّتك لمرضك»؛ يعني: عُمرك لا يخلو من الصحة والمرض، فإذا كنتَ صحيحًا، سِرْ سَيركَ القَصْدَ؛ بل لا تقنع به، وزِدْ عليه ما عسى أن يَحصُل لك الفتورُ بسبب المرض[2].

3. قال بعض الحكماء: عجبتُ ممّن الدّنيا مولِّيةٌ عنه، والآخرة مُقبِلة إليه، يَشغَل بالمدبِرة، ويُعرِض عن الْمُقبِلة[3].

4. قال عمرُ بنُ عبد العزيز: إنّ الدّنيا ليست بدار قراركم، كَتَب اللّه عليها الفناء، وكتب اللّه على أهلها منها الظَّعْن، فكم من عامر موثَقٍ عن قليل يَخرَب، وكم من مقيم مُغتبِط عمّا قليل يَظعَن! فأحسنوا - رحمكم اللّه - منها الرّحلة بأحسن ما بحضرتكم من النُّقْلة، وتزوَّدوا فإنّ خير الزّاد التّقوى[4].

5. قال الفُضيل بن عياض: المؤمن في الدّنيا مهموم حزين، همُّه مَرمَّة جَهازه، ومن كان في الدّنيا كذلك، فلا همَّ له إلّا في التّزوُّد بما ينفعه عند عَوده إلى وطنه، فلا ينافس أهل البلد الّذي هو غريب بينهم في عزِّهم، ولا يَجزَع من الذُّلِّ عندهم[5].

6. قال الحسن: المؤمن كالغريب لا يَجزَع من ذُلِّها، ولا يُنافس في عزِّها، له شأن، وللنّاس شأن[6].

7. لَمّا خُلق آدم عليه السّلام أُسكن هو وزوجته الجنّة، ثمّ أُهبطا منها ووُعِدا بالرّجوع إليها، وصالح ذُرّيّتهما؛ فالمؤمن أبدًا يحنُّ إلى وطنه الأوّل[7].

8. كان عطاءٌ السُّلَيْميُّ يقول في دعائه: اللّهمّ ارحم في الدّنيا غُربتي، وارحم في القبر وَحشتي، وارحم موقفي غدًا بين يَدَيك[8].

9. قيل لمحمّدِ بنِ واسع: كيف أصبحت؟ قال: ما ظنُّكَ برجل يرتحل كلَّ يوم مرحلة إلى الآخرة؟![9]

10. قال الحسن: إنّما أنت أيّام مجموعة، كلَّما مضى يومٌ، مضى بعضك[10].

11. قال الحسن: ابنَ آدَمَ، إنّما أنت بين مطيَّتين يُوضِعانِك، يوضعك النّهار إلى اللّيل، واللّيل إلى النّهار، حتّى يُسْلِمانِك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا بنَ آدم خطرًا[11].

12. قال الحسن: الموت معقود في نواصيكم، والدّنيا تُطوى من ورائكم[12].

13. قال داودُ الطّائيُّ: إنّما اللّيل والنّهار مراحلُ ينزلها النّاس مرحلةً مرحلةً حتّى ينتهيَ ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدِّم في كلّ مرحلة زادًا لما بين يديها، فافعل؛ فإنّ انقطاع السّفر عن قريب ما هو، والأمر أعجل من ذلك، فتزوَّد لسفرك، واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنّك بالأمر قد بغتُّك[13].

14. قال بعض الحكماء: كيف يفرح بالدّنيا من يومُه يَهدِم شهره، وشهره يهدم سنته، وسَنَتُه تهدم عمره؟! كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته؟![14]

15. قال الفُضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستّون سنةً، قال: فأنت منذ ستّين سنةً تسير إلى ربّك يوشك أن تبلغ، فقال الرّجل: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، فقال الفضيل: أتعرف تفسيره؟ تقول: أنا للّه عبد وإليه راجع، فمن علم أنّه للّه عبد، وأنّه إليه راجع، فليعلم أنّه موقوف، ومن علم أنّه موقوف، فليعلم أنّه مسؤول، ومن علم أنّه مسؤول، فليُعِدَّ للسّؤال جوابًا، فقال الرّجل: فما الحيلة؟ قال يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تُحسن فيما بَقِيَ يُغفَر لك ما مضى، فإنّك إن أسأت فيما بَقِيَ، أُخذت بما مضى وبما بقي[15].

16. طولُ الأَمَلِ غُرورٌ وخِداعٌ؛ إذ لا ساعةَ من ساعاتِ العُمر إلا ويمكِن فيها انقضاءُ الأَجَل، فلا معنى لطُول الأمل المورِّثِ قسوةَ القلبِ، وتسليط الشيطان، وربما جرَّ إلى الطغيان[16].

17. لما خُلقَ آدمُ عليه السلام أُسكِنَ هو وزوجتُه الجنةَ، ثم أُهبِطا منها، ووُعدا بالرجوع إليها، وصالح ذريَّتهما، فالمؤمن أبدًا يحِنُّ إلى وطنه الأول[17].

18. ارتحلت الدنيا مدبِرةً، وارتحلت الآخرةُ مُقبِلةً، ولكلِّ واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليومَ عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل[18].

19. كيف لا يكون العبد في هذه الدار غريبًا، وهو على جَناح سَفَرٍ، لا يَحِلُّ عن راحلته إِلَّا بين أهل القبور؟! فهو مسافر في صورة قاعد. 

20. وَلَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ حَمْلِ عُدَّةٍ = وَلَا سِيَّمَا إِنْ خَافَ صَوْلَةَ قَاهِرِ

21. نَسِيرُ إِلَى الْآجَالِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ = وَأَيَّامُنَا تُطْوَى وَهُنَّ مَرَاحِلُ

وَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْمَوْتِ حَقًّا كَأَنَّهُ = إِذَا مَا تَخَطَّتْهُ الْأَمَانِيُّ بَاطِلُ

وَمَا أَقْبَحَ التَّفْرِيطَ فِي زَمَنِ الصِّبَا = فَكَيْفَ بِهِ وَالشَّيْبُ لِلرَّأْسِ شَامِلُ؟!

تَرَحَّلْ مِنَ الدُّنْيَا بِزَادٍ مِنَ التُّقَى = فَعُمْرُكَ أَيَّامٌ وَهُنَّ قَلَائِلُ

22. وَمَا أَدْرِي وَإِنْ أَمَّلْتُ عُمْرًا = لَعَلِّي حِينَ أُصْبِحُ لَسْتُ أُمْسِي

أَلَمْ تَرَ أَنَّ كُلَّ صَبَاحِ يَوْمٍ = وَعُمْرُكَ فِيهِ أَقْصَرُ مِنْهُ أَمْسِ

23. إِنَّا لَنَفْرَحُ بِالْأَيَّامِ نَقْطَعُهَا = وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الْأَجَلِ

فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ الْمَوْتِ مُجْتَهِدًا = فَإِنَّمَا الرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ فِي الْعَمَلِ

24. فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا = مَنَازِلُكَ الْأُولَى وَفِيهَا الْمُخَيَّمُ

وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهَلْ تَرَى = نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ

وَأَيُّ اغْتِرَابٍ فَوْقَ غُرْبَتِنَا الَّتِي = لَهَا أَضْحَتِ الْأَعَدَاءُ فِينَا تَحَكَّمُ

وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْغَرِيبَ إِذَا نَأَى = وَشَطَّتْ بِهِ أَوْطَانُهُ فَهْوَ مُغْرَمُ

فَمِنْ أَجْلِ ذَا لَا يَنْعَمُ الْعَبْدُ سَاعَةً = مِنَ الْعُمْرِ إِلَّا بَعْدَ مَا يَتَأَلَّمُ

25. وَمَا هَذِهِ الْأَيَّامُ إِلَّا مَرَاحِلٌ = يَحُثُّ بِهَا دَاعٍ إِلَى الْمَوْتِ قَاصِدُ

وَأَعْجَبُ شَيْءٍ لَوْ تَأَمَّلْتَ أَنَّهَا = مَنَازِلُ تُطْوَى وَالْمُسَافِرُ قَاعِدُ

26. دَعِ الأيَّامَ تفعلُ ما تشاءُ = وطِبْ نفسًا بما حكم القضاءُ

ولا تَجْزَعْ لحادثةِ اللَّيالي = فما لحوادثِ الدُّنيا بقاءُ

ورزقُك ليس يَنقُصُه التَّأنِّي = وليس يَزيدُ في الرِّزقِ العَنَاءُ

ولا حُزنٌ يَدُومُ ولا سُرورٌ = ولا بؤسٌ عليكَ ولا رخاءُ

27. إذا هبَّت رياحُكَ فاغتَنِمْها = فعُقبى كلِّ خافقةٍ سُكونُ

ولا تَغْفُلْ عنِ الإحسانِ فيها = فما تَدْري السُّكونُ متى يَكُونُ

28. لَيْسَ الغَريبُ غَريبَ الشَّامِ واليمنِ = إِنَّ الغَريبَ غَريبُ اللَّحْدِ والكَفَنِ

إِنَّ الغَريِبَ لَهُ حَقٌّ لِغُرْبَتهِ = على الْمُقيمِينَ في الأَوطانِ والسَّكَنِ

لا تَنْهَرَنَّ غَريبًا حَالَ غُربتهِ = الدَّهْرُ يَنْهَرُهُ بالذُّلِّ والْمِحَنِ

سَفْرِي بَعيدٌ وَزادي لَنْ يُبَلِّغَني = وَقُوَّتي ضَعُفَتْ والموتُ يَطلُبُني

وَلي بَقايا ذُنوبٍ لَسْتُ أَعْلَمُها = الله يَعْلَمُها في السِّرِّ والعَلَنِ

29. وَإِنَّ امْرأً قَدْ سَارَ سِتِّينَ حِجَّةً = إِلَى مَنْهَلٍ مِنْ وِرْدِهِ لِقَرِيبُ

30. سَبِيلُكَ فِي الدُّنْيَا سَبِيلُ مُسَافِرٍ = وَلَا بُدَّ مِنْ زَادٍ لِكُلِّ مُسَافِرِ

المراجع

  1. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (4/ 1364).
  2. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (4/ 1364).
  3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 378).
  4. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 378).
  5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 378، 379).
  6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 378، 379).
  7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 378، 379).
  8. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 378، 379).
  9. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 382).
  10. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 382).
  11. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 382).
  12. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 382).
  13. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 382).
  14. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 382، 383).
  15. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 383).
  16. "فيض القدير" للمناويِّ (5/417).
  17. انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/379).
  18. رواه البخاريُّ (8/89).


مشاريع الأحاديث الكلية