89 - الرَّحمةُ بعمومِ الخلق من الإنسانِ والحيوانِ وغيرهم

عن جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ»

عناصر الشرح

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي جَرِيرُ بْن عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ»؛ أي: الذي لا يَرْحَمُ الخَلْقَ من الإنسان والحيوان والطير، لا يَرْحَمُه الخَالِقُ سبحانه وتعالى.

الشرح المفصَّل للحديث

إن الله سبحانَهُ وتعالى أرْحمُ الراحمينَ، وأكرَمُ الأكرَمينَ، ورحمتُه سبحانه وَسِعت كلَّ شيء؛ فهي لا تقتصِرُ على الإنسانِ فحسبُ؛ بلْ وسِعَت كلَّ شيءٍ، حتَّى الحيوانَ والطيرَ. وإن الله تعالى متَّصِفٌ بالرحمة، وهو سُبحانَه الرحمنُ الرحيم، الموصِلُ الرَّحمةَ إلى عباده، وليست رَحمتُه سبحانَه كرحمةِ المخلوق؛ فإنَّه عزَّ وجلَّ ليس كمِثلِه شيءٌ.

ورحمة الله تعالى لا حدود لها، وقد أنزل الله تعالى جزءًا واحدًا من الرحمة يتراحم به جميع المخلوقات؛

فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ:

«جَعَلَ اللهُ الرَّحمةَ في مِائَةِ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الأرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا؛ خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ»

[1]؛

أي: إن ما يُرى من أثَر الرحمة في جميع المخلوقات، في الإنسان وغيره، ما يَعقِل منها، وما لا يعقِل، حتى ما يُرى في رحمة الفرس بولدها وغير ذلك، كلُّه أثرُ رحمة واحدة، فكيف برحمته تعالى التي لا حدود لها؟!

وإن "من رحمته تعالى أنه أَحْوَجَ الخلق بعضهم إلى بعض لتتمَّ مصالحهم، ولو أغنى بعضهم عن بعض لتعطَّلت مصالحهم وانحلَّ نظامها، وكان من تمام رحمته بهم أن جعل فيهم الغنيَّ والفقير، والعزيز والذليل، والعاجز والقادر، والراعيَ والمرعيَّ، ثم أفقر الجميع إليه، ثم عمَّ الجميع برحمته [2].

"والرحمةُ سببٌ واصلٌ بين الله تعالى وبين عباده، بها أَرسَل إليهم رُسلَه، وأنزل عليهم كُتبَه، وبها هداهم، وبها أسكنهم دارَ ثوابه، وبها رَزَقهم وعافاهم، وأَنعَم عليهم، فبَيْنَهم وبينَه سببُ العبودية، وبينَه وبينَهم سببُ الرحمة" [3].

وإن المؤمن رحيمٌ بالخلق، يتميَّز بقلب حيٍّ مرهَف رقيقٍ ليِّن، يَرِقُّ للضعيف، ويأسى للحزين، ويَأْلَمُ للمُبْتلى، ويحنُّ على اليتامى والفقراء والمساكين، ويُعِين ذا الحاجة الملهوف، ويُبغِض القسوة والإيذاء؛ فهو مصدر رحمةٍ وخَيْرٍ وبِرٍّ وسلام.

وإنَّ ممَّا تُستجلَبُ به رحمة الله، وتُستنزَل به من السَّماء: أن يتراحم الناس، ويُشِيعوا الإحسان والرفق والرأفة فيما بينهم، وأن يَعطِف بعضُهم على بعض، وأن يحبَّ المرء لأخيه من الخير ما يحبُّه لنفسه، وأن يتواصَوْا بالرحمة فيما بينهم؛

قال الله تعالى مادحًا أهلَ الْمَيمنة: 

{وَتَوَاصَوْا بِٱلصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِٱلْمَرْحَمَةِ}

 [البلد: 17].

فمن لم يكن في قلبه رحمةٌ للخلق، فقد نُزِع منه رحمة ربما لا تدركه بعدها رحمةُ الله لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ بل إن حديث الباب يبيِّن أن الأمر أبعدُ من ذلك؛ فقد ربط الله رحمته وتحقُّقها للمرء بأن يحقِّقها هو مع الخلق؛ فإن الله تعالى قد أنزل الرحمة بين عباده ليتراحَمُوا، وطلب منهم ذلك، وقد أخبر النبيُّ ﷺ أن الله يرحم من عباده الرحماء؛

قال ﷺ:

«إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ»

[4].

وقد قال النَّبِيُّ ﷺ:

«الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»

[5]؛

أي: إن الَّذين يَرحَمون مَن في الأرضِ مِن إنسانٍ أو حيوانٍ أو طيرٍ أو غيرِه؛ شَفَقةً ورَحمةً ومُواساةً، يَرحَمُهم الرَّحمنُ برَحمتِه الَّتي وَسِعَت كلَّ شيءٍ، فيَتفضَّل عليهم بعَفوِه وغُفرانِه وبرِّه وإحسانِه؛ جزاءً وفاقًا. فارحَموا جميعَ مَن في الأرضِ مِن أنواعِ الخَلْقِ، يَرحَمْكم مَن في السَّماء، وهو اللهُ تعالى العليُّ بذاتِه، المستوِي على العرشِ فوقَ سَمَواتِه.

وفي حديث الباب يقول النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ»؛ فالذي لا يرحمُ الخَلْقَ ولا يتَّصِف بالرحمة، لا يرحمُه الله تعالى.

ويروي أبو هُرَيْرَةَ رضي اللَّه عنه سبب هذا الحديث قَالَ:

قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا، فَقَالَ الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ قَالَ: «مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ»

[6].

فهذا النبيُّ ﷺ الأسوُة الحسنة والرحمةُ المهداة، يَضرِب الْمَثَل بالرحمة بالضُّعفاء من الصبية والأطفال؛ بل انظر إلى رحمته ﷺ حين يقول:

«إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ»

[7].

وانظر إلى رحمته ﷺ بالطَّير والحيوان:

عن عبد الله بن مسعود قَالَ:

كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: «مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا». وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ: «مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ؟» قُلْنَا: نَحْنُ. قَالَ: «إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ»

[8].

إنه رسول الله، وخَيْرُ خلق الله كلِّهم، وسيِّد ولد آدَمَ، الذي أرسله الله تعالى رحمةً للعالمين؛

قال تعالى:

{وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}

[الأنبياء: ١٠٧].

وإن رسالته عمادُها الرحمة، التي لولاها ما قامت رسالة الإسلام؛

قال تعالى:

{فَبِمَا رَحْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ}

[آل عمران: ١٥٩].

إن الرحمة علامة على الإيمان، وعَدَم الرحمة علامةٌ على الشَّقَاء، ومن رحمة الله على المرء أن يضع في قلبه الرحمة؛

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ»

[9].

وينبغي أن تسع الرحمة الخلق جميعًا؛

فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:

«وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَا يَضَعُ اللَّهُ رَحْمَتَهُ إِلَّا عَلَى رَحِيمٍ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، كُلُّنَا يَرْحَمُ، قَالَ: «لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صَاحِبَهُ؛ يَرْحَمُ النَّاسَ كَافَّةً»

[10].

بل انظر إلى ذلك الخبر العظيم؛ أن يَرحَمَ الله تعالى بَغِيًّا جزاءً وفاقًا لرحمتها بكَلْبٍ؛ فكيف بمن يرحم الإنسان؟!

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّه عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:

«بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ، كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ»

[11].

وفيما ذكرنا من الأحاديث "الحضُّ على استعمال الرحمة للخلق كلِّهم، كافرهم ومؤمنِهم، ولجميع البهائم، والرفق بها، وأن ذلك مما يَغفِر الله به الذنوب، ويكفِّر به الخطايا، فينبغي لكلِّ مؤمن عاقل أن يَرغَب في الأخذ بحظِّه من الرحمة، ويستعملها في أبناء جنسه، وفي كلِّ حيوان، فلم يَخلُقْه الله عَبَثًا، وكل أحد مسؤول عمَّا استُرْعِيَه ومُلِّكه من إنسان أو بهيمة لا تَقدِر على النُّطق، وتبيين ما بها من الضرِّ، وكذلك ينبغي أن يَرحَم كلَّ بهيمة، وإن كانت في غير مُلْكه؛ ألا ترى أن الذى سقى الكلب الذى وجده بالفلاة، لم يكن له ملكًا، فغَفَر الله له؟!" [12].

"ومما ينبغي أن يُعلَم: أن الرحمةَ صفةٌ تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كَرِهَتْها نفسُه، وشقَّت عليها، فهذه هي الرَّحمة الحقيقية، فأرحمُ الناس بك من شَقَّ عليك في إيصال مصالحك، ودفع الْمَضارِّ عنك؛ فمن رحمةِ الأبِ بولده: أن يُكرِهَه على التَّأدُّب بالعلم والعمل، ويشقَّ عليه في ذلك بالضَّرب وغيره، ويَمنَعه شَهَواتِه التي تعود بضرره، ومتى أَهمَل ذلك من ولده، كان لقِلَّة رحمته به، وإن ظنَّ أنه يَرحَمه ويُرفِّهُه ويُريحه، فهذه رحمة مقرونة بجهل؛ كرحمة الأمِّ؛ ولهذا كان من إتمام رحمة أرحم الراحمين: تسليطُ أنواع البلاء على العبد؛ فإنه أَعلَم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أعراضه وشهواته، من رحمته به؛ ولكن العبد لجهله وظُلمه يتَّهِم ربَّه بابتلائه، ولا يَعلَم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه" [13].


المراجع

1. رواه البخاريُّ (6000)، ومسلم (2752).

2.  "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (ص: 483).

3.  "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 35).

4. رواه البخاريُّ (7448) ومسلم (923).

5. رواه أبو داود (4941)، والترمذيُّ (1924)، وقال: حديث حسن صحيح.

6.  رواه البخاريُّ (5997)، ومسلم (2318).

7.  رواه البخاريُّ (707).

8.  رواه أبو داود (2675)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2268).

9.  رواه أحمد (9700)، وأبو داود (4942)، والترمذيُّ (1923)، وقال الألبانيُّ في صحيح الترغيب والترهيب" (2261): حسن.

10. رواه أبو يعلى (4258)، وصحَّحه الألباني في "الصَّحِيحَة" (167)، وفي "صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب" (2253).

11. رواه البخاريُّ (3467)، ومسلم (2245).

12. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (9/ 219).

13. "إغاثة اللهفان" لابن القيم (2/ 174).





النقول

قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «من لا يرحم لا يرحم» هو بالرَّفع فيهما على الخبر، وقال عياض: هو للأكثر، وقال أبو البقاء: (من) موصولة، ويجوز أن تكون شرطيّةً، فيُقرَأ بالجزم فيهما. قال السُّهَيليُّ: جعلُه على الخبر أشبهُ بسياق الكلام؛ لأنّه سيق للرَّدِّ على من قال: إنَّ لي عشَرةً من الولد... إلخ؛ أي: الَّذي يَفعَل هذا الفعلَ لا يُرحَم، ولو كانت شرطيَّةً لكان في الكلام بعضُ انقطاع؛ لأنّ الشَّرط وجوابَه كلامٌ مستأنَف. قلتُ: وهو أولى من جهة أخرى؛ لأنّه يَصير من نوع ضرب الْمَثَل، ورجَّح بعضهم كونها موصولةً؛ لكون الشَّرط إذا أعقَبه نفيٌ يُنفى غالبًا بـ(لم)، وهذا لا يقتضي ترجيحًا إذا كان الْمُقام لائقًا بكونها شرطيّةً، وأجاز بعض شرَّاح المشارق الرَّفع في الجُزءين، والجزمَ فيهما، والرّفعَ في الأولى، والجزم في الثّاني، وبالعكس، فيَحصُل أربعةُ أوجه، واستُبعِد الثّالث، ووجِّه بأنّه يكون في الثّاني بمعنى النَّهي؛ أي: لا ترحموا من لا يَرحَم النّاس، وأمّا الرّابع فظاهرٌ، وتقديرُه: من لا يكن من أهل الرّحمة، فإنّه لا يُرحَم، ومثله قول الشّاعر: فَقُلْتُ لَهُ: احْمِلْ فَوْقَ طَوْقِكَ إِنَّهَا = مُطَوَّقَةٌ مَنْ يَأْتِهَا لَا يَضِيرُهَا" [1].

قال ابن القيّم رحمه الله: "ومما ينبغي أن يُعلَم: أن الرحمةَ صفةٌ تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كَرِهَتْها نفسُه، وشقَّت عليها، فهذه هي الرَّحمة الحقيقية، فأرحم الناس بك من شَقَّ عليك في إيصال مصالحك، ودفع الْمَضارِّ عنك؛ فمن رحمةِ الأبِ بولده: أن يُكرِهَه على التَّأدُّب بالعلم والعمل، ويشقُّ عليه في ذلك بالضَّرب وغيره، ويَمنَعه شَهَواتِه التي تعود بضرره، ومتى أَهمَل ذلك من ولده، كان لقِلَّة رحمته به، وإن ظنَّ أنه يَرحَمه ويُرفِّهُه ويُريحه، فهذه رحمة مقرونة بجهل؛ كرحمة الأمِّ؛ ولهذا كان من إتمام رحمة أرحم الراحمين: تسليطُ أنواع البلاء على العبد؛ فإنه أَعلَم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أعراضه وشهواته، من رحمته به؛ ولكن العبد لجهله وظُلمه يتَّهِم ربَّه بابتلائه، ولا يَعلَم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه" [2].

قال ابن بطال رحمه الله: "في هذه الأحاديث الحضُّ على استعمال الرحمة للخلق كلِّهم، كافرهم ومؤمنهم، ولجميع البهائم، والرفق بها، وأن ذلك مما يَغفِر الله به الذنوب، ويكفِّر به الخطايا، فينبغي لكلِّ مؤمن عاقل أن يَرغَب في الأخذ بحظِّه من الرحمة، ويستعملها في أبناء جنسه، وفي كلِّ حيوان، فلم يَخلُقْه الله عَبَثًا، وكل أحد مسؤول عمَّا استُرْعِيَه وملكه من إنسان أو بهيمة لا تَقدِر على النُّطق، وتبيين ما بها من الضرِّ، وكذلك ينبغي أن يَرحَم كلَّ بهيمة، وإن كانت في غير مُلْكه؛ ألا ترى أن الذي سقى الكلب الذى وجده بالفلاة، لم يكن له ملكًا، فغَفَر الله له" [3].

قال محمد خليل هرَّاس رحمه الله: "وقد أنكرت الأشاعرةُ والمعتزِلة صفة الرّحمة؛ بدعوى أنّها في المخلوق ضَعْفٌ وخَوَر وتألُّم للمرحوم، وهذا من أقبح الجهل؛ فإنّ الرّحمة إنّما تكون من الأقوياء للضُّعفاء، فلا تستلزم ضعفًا ولا خَوَرًا؛ بل قد تكون مع غاية العزَّة والقُدرة، فالإنسان القويُّ يرحم ولده الصَّغير وأبويه الكبيرين، ومن هو أضعف منه، وأين الضّعف والخور- وهما من أذمِّ الصّفات - من الرّحمة الّتي وصف اللّه نفسه بها، وأثنى على أوليائه المتصّفين بها، وأمرهم أن يتواصَوا بها؟!

وَقَوْلُهُ:

{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍۢ رَّحْمَةً وَعِلْمًا}

إلخ [غافر: ٧]

من كلام اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حكايةً عن حَمَلَةِ الْعَرْشِ والذين حَوْلَهُ، يتوسَّلون إلى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَسَعَةِ عِلْمِه ورحمته في دُعائِهم للمؤمنين، وهو من أَحْسَنِ التوسُّلات التِي يُرجى معها الإجابةُ. ونَصَبَ 

 قَوْلَه:

{رَّحْمَةً وَعِلْمًا}

على التميِيزِ المحوَّل عنِ الفاعلِ، والتَّقديرُ: وَسِعَتْ رحمتُك وعلمُك كُلَّ شَيْءٍ. فرحمته سبحانه وسعت في الدّنيا المؤمن والكافر والبرّ والفاجر؛ ولكنّها يوم القيامة تكون خاصّةً بالمتّقين؛

كما قال تعالى:

{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِـَٔايَٰتِنَا يُؤْمِنُونَ}

[الأعراف: ١٥٦]

وقال تعالى:

{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ۖ }

[الأنعام: ٥٤]

أي: أوجبها على نفسه تفضّلاً وإحسانًا، ولم يوجِبْها عليه أحد" [4].

قال ابن عثيمين رحمه الله:

وقوله:

{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍۢ رَّحْمَةً وَعِلْمًا}

يدلُّ على أن كلَّ شيء وَصَله علمُ الله، وهو واصل لكلِّ شيء، فإنَّ رحمته وصلت إليه؛ لأن الله قرن بينهما في الحكم.

{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍۢ رَّحْمَةً وَعِلْمًا}

وهذه هي الرحمة العامَّة التي تشمل جميع المخلوقات، حتى الكفَّارَ؛ لأن الله قرن الرحمة هذه مع العلم، فكلُّ ما بلغه علمُ الله - وعلمُ الله بالغٌ لكلِّ شيء - فقد بلغته رحمته، فكما يَعلَم الكافرَ، يَرحَم الكافرَ أيضًا؛ لكن رحمته للكافر رحمة جسدية بدنية دنيوية قاصرة غاية القصور بالنسبة لرحمة المؤمن، فالذي يَرزُق الكافر هو الله الذي يَرزُقه بالطعام والشراب واللباس والمسكن والمنكح وغير ذلك. أما المؤمنون، فرحمتهم رحمة أخصُّ من هذه وأعظم؛ لأنها رحمة إيمانية دينية دنيوية؛ ولهذا تجد المؤمن أحسن حالاً من الكافر، حتى في أمور الدنيا؛

لأن الله يقول:

{مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةً طَيِّبَةً ۖ }

[النحل: 97]،

والحياة الطيِّبة هذه مفقودة بالنسبة للكفَّار، حياتهم كحياة البهائم، إذا شَبِع، راث، وإذا لم يشبع، جلس يصرخ، هكذا هؤلاء الكفَّار إن شبعوا، بَطِروا، وإلا جلسوا يصرخون ولا يستفيدون من دنياهم؛ لكن المؤمن إن أصابته سرَّاءُ، شكر، فهو في خير في هذا وفي هذا، وقلبُه منشرِح مطمئنٌّ متَّفِق مع القضاء والقدر، لا جزع عند البلاء، ولا بطر عند النعماء؛ بل هو متوازن مستقيم معتدل. فهذا فرق ما بين الرحمة هذه وهذه... الآية الثالثة:

قوله:

{وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}

[الأحزاب: 43].

(ِبالْمُؤْمِنِين) متعلِّق بـ(رحيمًا)، وتقديم المعمول يدلُّ على الحصر، فيكون معنى الآية: وكان بالمؤمنين لا غيرِهم رحيمًا؛ ولكن كيف نجمع بين هذه الآية والتي قبلها:

{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍۢ رَّحْمَةً وَعِلْمًا}

[غافر: 7]

نقول: الرحمة التي هنا غير الرحمة التي هناك. هذه رحمةٌ خاصَّة متَّصِلة برحمة الآخرة، لا ينالها الكفَّار، بخلاف الأُولى. هذا هو الجمع بينهما، وإلا، فكلٌّ مرحوم؛ لكنْ فرق بين الرحمة الخاصَّة والرحمة العامَّة" [5].

قال ابن القيم رحمه الله: "إن الرحمن دالٌّ على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دالٌّ على تعلُّقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دالٌّ أن الرحمة صفته، والثاني دالٌّ على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردتَ فَهم هذا،

فتأمَّل قوله:

{وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}

[الأحزاب: 43]،

﴿ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾

[التوبة: 117]

ولم يجئ قطُّ (رحمن بهم)، فعُلم أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته" [6].

 قال ابن عثيمين رحمه الله:

قوله:

{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ۖ }

[الأنعام: ٥٤].

(كَتَبَ)؛ بمعنى: أوجب على نفسه الرحمة، فالله عزَّ وجلَّ لكرمه وفضله وجُوده أَوْجَب على نفسه الرحمة، وجَعَل رحمته سابقةً لغضبه؛

{وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍۢ}

[فاطر: 45]

لكن حِلمه ورحمته أوجبت أن يبقى الخلق إلى أجل مسمًّى" [7].

قال ابن القيم رحمه الله: "فجعلُ صفة الرحمة واسم الرحمة مجازًا كجعلِ صفة الملك والربوبية مجازًا، ولا فرق بينهما في شرع ولا عقل ولا لغة. وإذا أردت أن تعرف بُطلان هذا القول، فانظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته الخاصَّة والعامَّة؛ فبرحمته أرسل إلينا رسوله ﷺ وأنزل علينا كتابه، وعصمنا من الجهالة، وهدانا من الضلالة، وبصَّرنا من العمي، وأرشدنا من الغيِّ، وبرحمته عرَّفنا من أسمائه وصفاته وأفعاله ما عَرَفنا به أنه ربُّنا ومولانا، وبرحمته علَّمنا ما لم نكن نعلم، وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا، وبرحمته أطلع الشمس والقمر، وجعل الليل والنهار، وبسط الأرض وجعلها مهادًا وفراشًا وقرارًا وكِفاتًا للأحياء والأموات، وبرحمته أنشأ السحاب وأمطر المطر، وأطلع الفواكه والأقوات والمرعى، ومن رحمته سخَّر لنا الخيل والإبل والأنعام، وذلَّلها منقادة للركوب والحمل والأكل والدَّرِّ، وبرحمته وضع الرحمة بين عباده ليتراحموا بها، وكذلك بين سائر أنواع الحيوان. فهذا التراحم الذي بينهم بعض آثار الرحمة التي هي صفته ونعمتُه، واشتقَّ لنفسه منها اسم الرحمن الرحيم، وأوصل إلى خلقه معانيَ خطابه برحمته، وبصَّرهم ومكَّن لهم أسباب مصالحهم برحمته، وأوسع المخلوقات عرشه، وأوسع الصفات رحمته، فاستوى على عرشه الذي وَسِع المخلوقات بصفة رحمته التي وسعت كل شيء، ولما استوى على عرشه بهذا الاسم الذي اشتقَّه من صفته وتسمَّى به دون خلقه، كتب بمقتضاه على نفسه يوم استوائه على عرشه حين قضى الخلق كتابًا، فهو عنده وضعه على عرشه أن رحمته سبقت غضبه، وكان هذا الكتاب العظيم الشأن كالعهد منه سبحانه للخليقة كلها بالرحمة لهم، والعفو عنهم، والمغفرة والتجاوز، والستر والإمهال، والحلم والأناة، فكان قيام العالم العلويِّ والسُّفليِّ بمضمون هذا الكتاب الذي لولاه لكان للخلق شأنٌ آخَرُ، وكان عن صفة الرحمة الجنة وسكانها وأعمالها؛ فبرحمته خُلقت، وبرحمته عمِّرت بأهلها، وبرحمته وَصَلوا إليه، وبرحمته طاب عيشهم فيها، وبرحمته احتجبت عن خلقه بالنور، ولو كُشِف ذلك الحجاب لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. ومن رحمته أنه يعيذ من سخطه برضاه، ومن عقوبته بعفوه، ومن نفسه بنفسه، ومن رحمته أن خلق للذكر من الحيوان أنثى من جنسه، وألقى بينهما المحبة والرحمة ليقع بينهما التواصل الذي به دَوَامُ التناسل وانتفاع الزوجين، ويمتَّع كلُّ واحد منهما بصاحبه، ومن رحمته أحوج الخلق بعضهم إلى بعض لتتمَّ مصالحهم، ولو أغنى بعضهم عن بعض لتعطَّلت مصالحهم وانحلَّ نظامها، وكان من تمام رحمته بهم أن جعل فيهم الغنيَّ والفقير، والعزيز والذليل، والعاجز والقادر، والراعيَ والمرعيَّ، ثم أفقر الجميع إليه، ثم عمَّ الجميع برحمته.

ومن رحمته أن خلق مائة رحمة، كلُّ رحمة منها طِبَاقَ ما بين السماء والأرض، فأنزل منها إلى الأرض رحمة واحدة نشرها بين الخليفة ليتراحموا بها، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والطير والوحش والبهائم، وبهذه الرحمة قِوَام العالم ونظامه" [8].


المراجع

1. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 429).

2. "إغاثة اللهفان" لابن القيم (2/ 174).

3. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (9/ 219).

4. "شرح العقيدة الواسطية" لمحمد خليل هرَّاس (ص: 106، 107).

5. "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 248 - 251).

6. "بدائع الفوائد" لابن القيم (1/ 24).

7. "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 251).

8. "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (ص: 481 - 483).



مشاريع الأحاديث الكلية