الفوائد العلمية
هذا الحديث أصل جامع لأصول الطبِّ كلِّها، يَحفَظ على الإنسان حياته وصحَّته، وهو التقليل من الأكل، وعدم المبالغة في الطعام الذي يُوصِل الإنسان إلى الشِّبَع المفرِط، فيُقعِده عن العبادات والطاعات، وتَأْدِيَة ما أوجبه الله عليه في دينه، ويُصيبه بالكسل والتُّخَمَة، والأمراض المهلِكة، عاجلاً أو آجلاً.
رُوي أن ابن ماسوَيْهِ الطبيبَ لَمَّا قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة، قال: لو استَعمَل الناس هذه الكلمات، سَلِموا من الأمراض والأسقام، ولتعطَّلت المارستانات ودكاكين الصيادلة، وإنما قال هذا؛ لأن أصل كل داء التُّخَم [1].
في الحديث إشارة إلى أَمْرِ الله تعالى الإنسانَ بالاقتصاد والاعتدال في أموره وحياته؛
﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ﴾
وقد نهى النبيُّ ﷺ عن الإسراف؛
فعن عبد الله بنِ عمرِو بنِ العاصِ - رضي الله عنهما – قال:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ، وَلَا مَخِيلَةٍ»
إذا كان الطبُّ الدنيويُّ يعالج الأمراض بعد وقوعها، فإن الطبَّ النبويَّ، والوحيَ الإلهيَّ، يعلِّمنا كيف نَقِي أنفسنا، ونحافظ عليها من الأمراض، وذلك من خلال الاعتدال في الطعام والشراب.
قال لقمان الحكيم لابنه: "يا بُنيَّ، إذا امتلأت الْمَعِدة، نامت الفكرة، وخَرَست الحكمة، وقَعَدت الأعضاء عن العبادة" [3].
في الحديث التحذير من خطورة امتلاء الْمَعِدة بالطعام، حيث جعل النبيُّ ﷺ البطن أوَّلاً وِعاءً كالأوعية التي تُتَّخَذ ظروفًا لحوائج البيت؛ تَوْهينًا لشأنه، ثم جَعَله شرَّ الأوعية؛ لأنها استُعمِلت فيما هي له، والبَطن خُلِق لأن يتقوَّم به الصُّلْبُ بالطعام، وامتلاؤه يُفضي إلى الفساد في الدين والدنيا، فيكون شرًّا منها [4].
في الحديث إشارة إلى أن البطن إذا امتلأ، أفضى إلى فساد دِين الْمَرء ودُنياه، وأوقعه في المعاصي والشهوات، فشهوةُ البطن من أعظم المهلِكات، وهي التي أخرجت آدمَ عليه السلام وحوَّاء من الجَّنة؛ إذ نُهيا عن الأكل من الشجرة، فوسوس إليهما الشيطان، وغلبت عليهما شَهوتهما حتى أكلا منها؛
﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَٰنُ قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍۢ لَّا يَبْلَىٰ ﴿١٢٠﴾ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ﴾
في الحديث بيان وإرشاد وتوجيه إلى الطريقة الصحيحة لِمَلْء البطن، بأنه يكفي الْمَرْء من ذلك ما يقوِّي به ظَهره ويُقيم صُلْبَه، فيكفي المرءَ أُكُلات صغيرة يَسُدُّ بها رَمَقه وجُوعه، ويَحفَظ بها نفسه وجَسَده أن يَضعُف أو يَسقُط، ويتقوَّى بها على العبادات والطاعات المختلفة.
قال تعالى في حقِّ الكفَّار:
﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ ٱلْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾
عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:
«الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ»
في الحديث بيان أنه يجب تحقيق التوازن بين الطعام والشراب والنَّفَس؛ فإن الإنسان إذا كان لابدَّ مستزيدًا من الطعام، ومتجاوِزًا ما يكفي حاجته، فلابدَّ له من التوازن، فليَقْسِمْه إلى ثلاثة أثلاث: ثُلث لأَكله، وثُلث لشَرابه، وثُلث لنَفَسِه.
«فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ»: وهذا من أنفع ما للبَدَن والقلب؛ فإن البطن إذا امتلأ من الطعام، ضاق عن الشراب، فإذا وَرَد عليه الشراب، ضاق عن النَّفَس، وعَرَض له الكَرب والتَّعَب بحِمْله، بمنزلة حامل الحِمل الثقيل، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب، وكَسَل الجوارح عن الطاعات، وتحرُّكها في الشهوات التي يستلزمها الشِّبَع [6].
ذُكِر لبعض الفلاسفة من أطبَّاء أهل الكتاب قولُ النبيِّ ﷺ: ثُلث طعام، وثُلث شَراب، وثُلث نفس، فتعجَّب منه واستحسَنَه وقال: ما سمعتُ كلامًا في قلَّة الأكل أحكمَ من هذا، وإنه لكلام حكيم، ثم قال: جَهِدَتِ الأطبَّاء من الفلاسفة أن يقولوا مثل هذا في التقلُّل من الأكل، فلم يهتدوا إليه، فأكثرُ ما قالوا: لا تَقعُد على طعامك حتى تشتهيَه وتَرفَع يدك عنه وأنت تشتهيه، ومنهم من قال: لا يأكل إلَّا بعد الجوع، ويَرفَع قبل الشِّبَع، ومنهم من قال: لا يأكل إلَّا بعد الجوع المفرِط، ولا يَشبَع شديدًا، وإنما كان مُراده هذا الذي ذكره نبيُّكم [7].
1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 468).
2. رواه النسائيُّ (2559)، وابن ماجه (3605)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح وضعيف سنن النسائيِّ".
3. "إحياء علوم الدين" للغزاليِّ (3/ 82).
4. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (10/ 3292).
5. رواه البخاريُّ (5393)، ومسلم (2060).
6. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (4/ 17).
7. "قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد" لمحمد بن عليٍّ الحارثيِّ (2/ 285).
الفوائد الفقهية
14. الأكل يتناول الأحكام الفقهية الخمسة كالتالي: واجب: وهو ما تُحفَظ به الحياة ويؤدِّي تركه إلى ضرر. مستحبٌّ: وهو ما يُستعان به على طاعة الله وعبادته. جائز: وهو ما زاد على القدر الواجب ولا يُخشى منه ضرر. مكروه: وهو ما يُخشى ضرره. محرَّم: وهو ما يُتيقَّن ضررُه.
15. امتلاء البطن من الطعام مُضِرٌّ للقلب والبَدَن، هذا إذا كان دائمًا أو أكثريًّا، وأما إذا كان في الأحيان، فلا بأس به، فقد شَرِب أبو هريرة رضي الله عنه بحضرة النبيِّ ﷺ من اللبن حتى قال: «والذي بَعَثك بالحقِّ لا أجد له مَسلكًا» [1]، وأَكَل الصحابة بحضرته مِرارًا حتى شَبِعوا [2].
1. رواه البخاريُّ (6452).
2. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (4/ 17).
الفوائد العقدية
16. في هذا الحديث بيان لُطف الله وعِلمه بخَلقه؛ فقد خَلَق الله الإنسان وأَرشَده إلى ما فيه نفعُه وصَلاحُه، واستقامةُ حياته، فهو أدرى به من نفسه التي بين جَنْبَيه؛
﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ﴾
الفوائد الحديثية
17. من أمثلة جوامع الكَلِم من الأحاديث النبوية: حديثُ عائشةَ: «كلُّ عمل ليس عليه أمرنا فهو رد»، وحديث: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» متَّفَق عليهما، وحديث أبي هريرة:
«وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، وحديث المقدام: «ما ملأ بن آدم وعاء شرًّا من بطنه»،
الحديث أخرجه الأربعة، وصحَّحه ابن حبَّانَ والحاكم، إلى غير ذلك مما يكثر بالتتبُّع [1].
1. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (13/ 248).
الفوائد التربوية
18. مات النبيُّ ﷺ ولم يَشبَع من طعام الشَّعير، وكان يتأسَّى به الصحابة – رضوان الله عليهم -
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:
أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ - أي مَشْويَّة - فَدَعَوْهُ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ، وَقَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ»
19. قلَّة الأكل من محاسن الرجال، وكَثْرتُه مَذَمَّة للإنسان، وقد كانت العرب تَمتدِح بقلَّة الأكل، وذلك معروفٌ في أشعارها؛ فكيف بأهل الإيمان؟! وأما من عَظُمت الدنيا في عينه من كافر وسَفَيهٍ، فإنما همَّتُه في شِبَع بطنه، ولذَّة فَرْجِه [2].
1. رواه البخاريُّ (5414).
2. "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 347).
الفوائد اللغوية
20. الباء زائدة في قوله ﷺ: «بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ»، وإعراب الجملة: (بحسب) الباء: حرف جرٍّ زائدٌ، مبنيٌّ على الكسر، لا محلَّ له من الإعراب. حسب: اسمٌ مجرورٌ لفظًا بالباء، مرفوعٌ محلًّا على أنه مبتدأ، وهو مضاف، وابن: مضافٌ إليه مجرورٌ بالكسرة، وهو مضاف، آدَمَ: مضافٌ إليه مجرورٌ بالفتحة لأنه ممنوعٌ من الصرف. أُكُلات: خبرٌ مرفوع بالضمَّة الظاهرة.
21. الفرق بين الحرف الأصليِّ، والحرفِ الزائد، والحرف الشَّبِيهِ بالزائد كالتالي: حرف الجرِّ الأصليُّ: لا يُمكِن إسقاطه من الكلام وإلا اختلَّ المعنى والسياق، وله متعلَّق كالفعل أو الشبيه به من المشتقَّات، ويفيد معنى مع الاسم المجرور بعده؛ مثل: محمدٌ في البيت، مررتُ بأحمدَ.
22. حرف الجرِّ الزائد: هو حرف يمكِن إسقاطه دون اختلال السياق، وهو حرفٌ لا يفيد معنى خاصًّا مع مجروره، وليس له متعلَّق، ويُذكَر في السياق لتأكيد المعنى وتقويته، ويسبقه غالبًا نفيٌ أو نهيٌ أو استفهام؛ مثل (بحسب ابن آدم)؛ أي: حسبُ ابنِ آدم، و(أليس الله بكاف عبده)؛ أي: أليس الله كافيًا عبده، و(كفى بالله شهيدًا)؛ أي: كفى اللهُ شهيدًا.
23. حرف الجرِّ الشبيه بالزائد: هو حرفٌ له معنًى، ولو أُسقط من السياق يظلُّ المعنى والعمل كما هو، وليس له متعلَّق؛ مثل: "رُبَّ" للتقليل، و"لعلَّ" للترجِّي عند عَقِيلٍ، حيث يستعملونها حرفَ جرٍّ، مخالفين بقية العرب في استعمالها ضمن أخوات (إنَّ)؛ مثل: (ربَّ أشعثَ أغبرَ..)، ربَّ رجلٍ كريم في البيت. فأشعث: مجرور لفظًا بالفتحة لأنه ممنوع من الصرف مرفوع محلًّا على أنه مبتدأ، ورجل: مجرور لفظًا بالكسرة مرفوع محلًّا، ومثل: (وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله): الواو: واو ربَّ، وليل: مجرور بـ(ربَّ) المحذوفة لفظًا في محل رفع مبتدأ.
24. الْبَطْنُ: مُذَكَّرٌ، وعن أبي عُبَيْدَةَ أن تأنيثَه لُغَة [1].
1. "مختار الصحاح" للرازيِّ (ص: 36).