عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالخُطْبَةِ يَوْمَ العِيدِ قَبْلَ الصَّلاةِ مَرْوَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: الصَّلاةُ قَبْلَ الخُطْبَةِ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ رضي الله عنه: أَمَّا هذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ؛ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ»

فقه:

  1. ذكر التابعيُّ طارقُ بن شهابٍ رحمه اللهُ تعالى، أنَّ مروانَ بن الحكم كان أوَّل من ابتدعَ تقديم الخطبة قبل صلاة العيد، ومن المعلوم في دين اللهِ تعالى أنَّ صلاةَ العيد تكون قبل الخطبة، إلَّا أنَّ مروانَ خافَ من انصراف الناس بعد الصلاةِ، فأراد أن يخطب فيهم قبل الانصراف[1]، فقام إليه رجلٌ ينصحه ويُبيُّن له السُّنَّة، وهي أنَّ الصلاةَ أولًا ثم الخطبة، فلم يستجب مروانُ للنَّاصح، وقال له: قد ترك النَّاسُ ما تقول. 

  2. فحينئذٍ قال أبو سعيدٍ الخدري : أما هذا الرجل الذي نصح مروان، فقد أدَّى ما عليه من النُّصْحِ والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، وسقطَ الوجوبُ عنه؛ إذ لا يُكَلِّفُ اللهُ نفسًا إلَّا وُسْعَها، 

    وقد قال سبحانه:

    {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ}

    [المائدة: 99].

  3. ثمَّ استدلَّ أبو سعيدٍ على ذلك بما سمعه من النبيِّ حيث قال: «مَن رأى منكم منكرًا – وهو كلُّ ما قبَّحه الشرعُ وكرهه – فليغيِّره بيده».

والتغييرُ باليدِ لا يعني أن يُبادرَ المسلمُ إلى إتلاف الأموال والأشياء وإراقة الدِّماء، فيكون سببًا في الفتنةِ وعُرضَةً للأذى والضَّرَر. وإنما يُشترط في التغيير باليدِ القدرةُ عليه مع عدم الضرر، وذلك كوليِّ الأمرِ الذي يُغَيِّر بسلطته ما يُنكره، وكالوالد والزَّوج يُؤَدِّبُ أولادَه ويُنكر على أهله، فإن لم يستطع التغيير باليد استعان بالإمام ونُوَّابِه في تغييرِه، وإلا سقط عنه التغييرُ باليد.

4. فإن عجز المرءُ على تغيير المنكر بيده؛ بأن خافَ ضررًا عليه أو فتنةً يتسبب فيها، انتقل إلى التغيير باللسان، وهو أن يُنكرَ على صاحب المعصية معصيتَه، ويدعوه إلى اللهِ تعالى، ويحضَّه على التوبة وإزالة ذلك المنكر، مستعينًا بما يَصلح مع حال المخاطَب من اللين أو الشِّدَّة،بمقتضى قوله سبحانه:

{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}

[النحل: 125].

5.فإن خافَ وعجزَ عن الإنكار باليد، فعليه أن يُنكر بقلبه؛ بأن يبغض ذلك المنكَر، ويتبرَّأَ إلى اللهِ تعالى منه، ويعزم على أنَّه لو قدر على تغييره لفعل.

والإنكار بالقلبِ أضعفُ درجات الإيمان، فليس بعدَ الإنكار بالقلب إلا أن يستسيغَ المرءُ المعصيةَ ويرضى بها وإن لم يفعلها، ولهذا جاء في الرواية الأخرى: «لَيسَ وَراءَ ذلكَ مِن الإيمانِ حَبَّةُ خَردَلٍ»[2].

والأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المنكر من أوجب الفرائض؛ فبها صلاح المجتمع وإقامة شرع اللهِ تعالى. وهي فرضٌ على الكفاية، إن قام بها البعضُ سقطَ الإثمُ عن الباقي، إلا أنَّها قد تتعينُ على المرءِ إن لم يرَ المنكرَ غيرُه، أو كان المنكرُ في أهلِه ومن يَلِي أمرَهم[3].

والمنكَر إن كان من الأمور التي يظهر للعامةِ حكمُها كترك الصلاة والصيام وعقوق الوالدين وشرب الخمر والزنا ونحو ذلك، فلكلِّ واحدٍ من المسلمين الإنكارُ، أما إن كان من الأمور التي لا يبدو حكمُها لكلِّ أحدٍ، فالإنكارُ فيها لأهل العلم. 

اتباع: 

1.  (1) في الحديث بيان أنه مَن أحدثَ في الدِّين ما ليس منه فعمَلُه مردودٌ عليه، وأنه لا تُقبَلُ الأعمالُ إلَّا إذا كانت على هَدْي رسول الله ﷺ. 

2.   (1)لم يخف الرجلُ الذي خرج ينصح مروان بن الحكم من بطشه وسطوته، وقدَّم النصيحةَ إليه. فينبغي ألَّا يخافَ المسلمُ من إنكارِ المنكَرِ ما لم يصل إلى ما لا يتحمله من الضرر.

3.   (2)لا يصدنَّك عن الإنكارِ علمُك أنَّ الذي تُنكِرُ عليه لن يستمعَ لك؛ فما عليك إلا النصح، واللهُ يهدي من يشاء.

4.  (2)إياك أن تظنَّ أنَّ ابتعادَك عن المعصية كافٍ في النَّجاة؛ فإنَّ عدمَ الإنكارِ يستوجبُ العقوبةَ؛ قال : «إنَّ النَّاس إذا رَأَوُا المنكَر فلم يغيِّروه، أوشك أن يعمَّهم الله بعقابٍ منه»[4]. 

5.  (3)لا يجوز لمسلمٍ أن يرى أمرًا منكرًا من المنكرات وهو قادرٌ على تغييرها من غير أن يُغَيِّرها،

وقد قال سبحانه:

{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}

[المائدة: 78، 79].

6. (3) إياك أن ينتجَ عن تغييرك المنكرَ منكرٌ أعظم منه، بل ينبغي أن تتحلَّى بالحكمة عند التغيير، فإن رأيت التغيير باللسان أنفع من التغيير باليد فافعل.

7.  (3) التغيير باليد يشترط فيه القدرةُ على التغيير وأمن الضرر والفتنة، فإن استوفيتَ الشروطَ فافعل.

8.  (3)  من التغيير باليد ألَّا يرضى المسلمُ أن تخرج زوجتَه أو ابنته أو أخته متبرجةً، فلا يكفيه حينئذٍ أن ينصحها، بل يجب منعُها من ذلك.

9. (3) من التغيير باليد أن يأمرَ المسلمُ أهلَه بالصلاة والعبادة، وأن يعاقبه بما يظن معه هدايتُه.

10. (3) من التغيير باليد أن ينزع المسلمُ من بيته شعارات الشرك والمعاصي؛ كالصُّوَر والتماثيل والتمائم ونحوها.

11. (4) إذا عجزت عن التغيير باليد وأمكنك النُّصح وبيان الحقِّ بحكمةٍ من غير فتنةٍ أو ضررٍ فافعل.

12.(4) التغيير باللسان لا يكون بالسبِّ والقذف والتعيير والغيبة، بل بالنُّصْح والأمر بالمعروف بمعروف والنهي عن المنكر بغير منكر.

13.(4) على المسلم الصادق أن يُبادر للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يمنعه من ذلك هيبةُ مَن علَت به الرُّتب في الدنيا؛

فإن اللهَ قال:

﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾  

 [الحج: 40].

14.(4)  لا يختصُّ الأمرُ بالمعروف والنهى عن المنكر بالوُلاة والحكَّام؛ بل ذلك واجبٌ على آحاد المسلمين؛ فواجبٌ على المسلم أن يأمر وينهى، ما دام عالِمًا بما يأمُر به ويَنْهى عنه.

15.(4) من الرحمة بالمسلم العاصي وبالمجتمع المسلم نُصحه والأخذ على يديه.

16.(4) المؤمنُ الحقُّ لا يَكتفي بإصلاح نفْسه فحسبُ؛ بل يَحمل همَّ المجتمع من حوله، ويعمل على بيان الأخطار التي تهدِّدهم في دينهم ودنياهم.

17.(4) مِن أعظم البلايا على المرء أن يتركَ الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر من أجْل كسْبِ مَودَّةِ حبيب، أو لقرابة قريب، أو صَداقة صديق، أو مُداهنة ذي سلطان؛ فإن اللعنةَ نزَلت على بني إسرائيل لَمَّا منَعهم مثلُ ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر فيما بينَهم.

18.(5) إذا عجز المسلمُ عن الإنكار باللسان، توجَّب عليه أن يُنكر بقلبه، وأن يبغض تلك المعصية، وأن يتبرأ إلى الله منها، وأن يعزم على أنَّه لو أمكنه تغييرها بيده أو بلسانه لفعل.

19.(5) من الإنكار بالقلب البراءةُ من الشرك وأهله؛ فيبغض المسلمُ المشركين والكافرين، ولا يُواليهم ويُوادهم على ما هم عليه من بُغضهم للهِ تعالى وبغضِه إياهم.

20.(5) اختبر قلبَك وإيمانَك؛ فإن كنت ترى المُنكَر وتنكره بيدك أو لسانك أو قلبك ففيك من الإيمان بقدر ما تُنكر، وإن كنت لا تأبه بذلك ولا تهتم فاعلم أنَّك بعيدٌ عن رياض المؤمنين.

21.(5) الإنكارُ بالقلبِ مع الاستطاعة على الإنكار باليد أو اللسان ضعفٌ في إيمانِ العبد، فاحرص أن تكون من أهل الإيمان الكامل.

22.(5) جلوسُك في مجالس اللهو والغيبة والنميمة والمُحرَّمات يدلُّ على عدم إنكارِ القلب، فلو أنكرتَ لبغضتَ ذلك المجلس وقمت عنه.

المراجع

  1. انظر: "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجَوْزيِّ (2/ 173).
  2. رواه مسلم (50).
  3. "شرح الأربعين النووية" لابن دقيقِ العيد (ص: 112).
  4. رواه أحمد (1)، وابن ماجه (4005)، وأبو داود (4338)، والترمذيُّ (3057).


مشاريع الأحاديث الكلية