عن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالت: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «مَن أحدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليس فيه، فهو رَدٌّ»
عن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالت: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «مَن أحدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليس فيه، فهو رَدٌّ»
هذا الحديث من أهمِّ أحاديث الشرع التي ينبني عليها كثيرٌ من الأحكام والقواعد الكُلِّية، ولذلك قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "إنّ أصول الإسلام ثلاثة أحاديثَ: حديث: «الأعمال بالنِّيَّات»، وحديث: «مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه، فهو ردٌّ»، وحديث: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ»[1]
وفي هذا الحديث يَذكر النبيُّ ﷺ أنَّ الاتباع شرطٌ في قبول الأعمال؛ فمن ابتدع شيئًا وأتى بأمرٍ حادثٍ لا أصل له في دين اللهِ تعالى وسنَّةِ رسولِ الله ﷺ؛ فهو مردودٌ على صاحبه ولا أجْرَ له ولا ثواب، بل هو مَوْزورٌ لمخالفةِ هَدْيِ النبيِّ ﷺ.
والابتداعُ: الإتيانُ بأمرٍ مُحْدَثٍ بغير دليلٍ شرعيٍّ، سواءً كان ذلك في الاعتقاد – كنفي القَدَرِ واعتقاد النفع في الأموات – أو في العَمل وهو التعبُّد بما لم يتعبَّد به ﷺ، كالاحتفال بالمولد وابتداع الأذكار والأوراد التي لا أصل لها في الكتاب والسُّنَّة، وتخصيص بعض الليالي بالأعمال؛ كقيام ليلة النصف من شعبان، ونحو ذلك من الأمور التي سببُها الجهلُ بالشرعِ واتباعُ الهوى وتقليدُ غير المسلمين وتقديمُ العقلِ على الشرع.
وقد حذَّر اللهُ تعالى من اتباع الهوى والابتداع في الدين؛
فقال تعالى:
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
[آل عمران: 105]
قال قتادة رحمه الله: "الذين تفرقوا واختلفوا: أهلُ البدع"، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "تبيَضُّ وجوهُ أهلِ السُّنَّة، وتَسْوَدُّ وجوهُ أهل البدعة"[2]
وعاب على المشركين تحليلهم وتحريمهم بغير أمرٍ منه
فقال سبحانه:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}
[يونس: 59].
وكان رسول الله ﷺ يقول في مقدِّمات خُطَبه: «وخيرُ الهديِ هديُ محمدٍ، وشرُّ الأمورِ مُحدثاتُها، وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ»[3]
وأوصى أصحابَه فقال ﷺ:
«عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»[4]
وإنَّما حذَّر النبيُّ ﷺ من الابتداع في الدِّين لأنَّ هلاك الأُمَمِ السابقة كان بسببه؛ فاليهود والنصارى بدَّلوا الشرع وزعموا أنَّ عُزَيرًا والمسيحَ أبناءُ الله، وقالوا: نحنُ أبناءُ الله وأحباؤه، وحَرَّفوا التوراةَ والإنجيل وأهملوا الحدودَ، وتحايَلوا على الشرع بعقولهم.
وهذا الحديثُ يَرُدُّ على مَن زعم أنَّ بعض البدعِ حَسنةٌ؛ فإنَّه ﷺ قضى بأنَّ كلَّ عملٍ مُحْدَثٍ مردودٌ، وهذا يشملُ جميع البدع والأفعال المستحدَثة. وأما قول عمر: «نِعمَ البدعةُ هذه» حين جمع النَّاسِ في قيامِ رمضان خلف إمامٍ واحدٍ، وهو أُبَيُّ بنُ كعبٍ رضي الله عنه,[5] فإنَّما أراد أنَّها بِدعةٌ بالمعنى اللُّغوي، وهو كلُّ أمرٍ مُحْدَثٍ، سواءً كان له أصلٌ في الدِّين أم لا؛ إذ فعلُه ليس من البِدع؛ فقدْ صلَّى النبيُّ ﷺ بالنَّاس أيامًا، ثم ترك ذلك خشيةَ أن تُفرَض على المسلمين، فلمَّا مات النبيُّ ﷺ وانقطع الوحي ذهب ما كان يخشاه ﷺ، وكان فعلُ عمرَ رضي الله عنه اتباعًا لسُنَّتِه ﷺ[6] وتخصيصُ النبيِّ ﷺ الإحداثَ بقوله: «في أمرِنا هذا» يريدُ به الدِّينَ، يدلُّ على أنَّ الابتكار والابتداع في أمور الدُّنيا ليس مذمومًا ولا مَنهِيًّا عنه؛ فاختراعُ الآلاتِ وتطويرها عمَّا كانت عليه أمرٌ محمودٌ يُسَهِّلُ على النَّاس قضاءَ مصالحهم.
1- هذا الحديث أصلٌ عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها، كما أنّ حديث: «الأعمال بالنّيّات» ميزان للأعمال في باطنها، فكما أنّ كلَّ عمل لا يُراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كلُّ عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله، فهو مردود على عامله، وكلُّ من أحدث في الدِّين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدّين في شيء[7]. فعلى المسلم أن يُحَكِّم هذين الحديثين في كلِّ أفعاله؛ ينظر في ظاهرها هل يوافق الشَّرعَ؟ وفي باطنها: هل أراد بذلك وجهَ الله أم لا؟
2- في الحديث إشارةٌ إلى أنَّ أعمال العاملين كلِّهم ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة، وتكون أحكامُ الشّريعة حاكمةً عليها بأمرها ونهيها، فمن كان عمله جاريًا تحت أحكام الشّرع موافقًا لها، فهو مقبول، ومن كان خارجًا عن ذلك، فهو مردود[8]
3- على المسلم ألَّا يقيس الشَّرع بعقله، ولا يُحِلُّ حرامًا أو يُحَرِّمُ حلالًا وُفق هواه؛ فالشرعُ كتابُ اللهِ تعالى وسُنَّةُ النبيِّ ﷺ.
4- إحياءُ السُّنَّة طاعةٌ عظيمةٌ يَستحقُّ بها المسلمُ أن يُضاف في حسناته أجرُ جميع من اقتدى به في الطَّاعة، كما أنَّ الابتداعَ في الدِّين ودعوةَ النَّاس إلى البِدَع كبيرةٌ عظيمةٌ ووِزْرٌ مُضاعَفٌ يَحمِل صاحبُه جميع أوزارِ من اتَّبعه فيه؛ فعَنْ أبِي هُريرةَ رضي الله عنه
أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قَالَ:
«مَنْ دَعَا إلى هُدًى، كان لهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أجورِ مَنْ تَبِعهُ، لا يَنقُصُ ذلك مِنْ أجُورِهم شيئًا، ومَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كان عليه مِنَ الإثمِ مثلُ آثامِ مَنْ تَبِعهُ، لا يَنْقُصُ ذلك مِنْ آثامِهم شَيئًا»[9]
5- قال الفُضيل -رحمه الله-: في
قوله تعالى:
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}
[الملك: 2]
أحسنُ العملِ أَخْلَصُه وأَصوَبه. وقال: إنَّ العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صَوَابًا لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبَل، حتَّى يكون خالصًا وصوابًا. قال: والخالِص إذا كان لله عزَّ وجلَّ، والصَّواب إذا كان على السُّنَّة[10]
6- ليْس في الدِّين مسألةٌ إلا ولها أصلٌ في الكتاب والسُّنَّة تُقاسُ عليه ويُستنبط حكمُها منه، فيجب سؤالُ أهل العلم دون الابتداع في الدِّين، قال عبدُ اللّه بنُ مسعود رضي الله عنه: "اتَّبِعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كُفِيتُم؛ فإنَّ كلَّ مُحدَثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة"[11]
7- كان السَّلَفُ أحرصَ النَّاس على اتباع سُنَّة النبيِّ ﷺ وأصحابِه؛ قال إبراهيم النَّخَعيُّ-رحمه الله-: "لو بلغني عنهم - يعني الصّحابة - أنّهم لم يُجاوِزوا بالوضوء ظُفْرًا ما جاوزتُه به، وكفى على قومٍ وزرًا أن تُخالِف أعمالهم أعمال أصحاب نبيِّهم رضي الله عنه[12]
8- قال عمرُ بنُ عبد العزيز-رحمه الله-: "قِفْ حيث وقف القوم، وقُل كما قالوا، واسكت كما سَكتوا؛ فإنّهم عن عِلْم وَقَفوا، وببصر ناقدٍ كفُّوا، وهُم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى"[13]
9- لا سبيل للنجاة من الفتن إلا بالتمسُّك بكتاب الله وسنَّة رسوله ﷺ؛ فكتابُ الله مَن اعتصَم به كفاه وهداه ووقاه، وسُنَّةُ نبيِّه ﷺ نورٌ على الطريق يومَ تعصِفُ ظلماتُ الفِتَن بالأمَّة. وفي الخبر عن رسول الله ﷺ: «وسترَوْنَ من بعدي اختلافًا شديدًا، فعليكم بسُنَّتي، وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، عَضُّوا عليها بالنَّوَاجِذ، وإيَّاكم والأمورَ المُحدَثاتِ؛ فإن كلَّ بِدعة ضلالة»[14]
10- قال الشاعر:
تَحْيَا الخلائِقُ وَالْغَوِيُّ يَشُدُّها = نحوَ الضَّلالِ لحَمْأَةٍ وفَسَادِ
يَسْعى بهم أهلُ الدَّهَاءِ بمَكْرِهم = ليُجَنِّبوهم منهجَ الإرشاد
لا يَفتُرون عن الوسائل للهوى = مهما رَأَوْا مِن شِدَّةٍ وعِنادِ
حَمَلوا النُّفُوسَ على الغَوايَة والأذى = وتَعَمَّقُوا في الزَّيْغِ والإفساد