فقه
1- اهتمَّ الإسلامُ بجميع شؤون الإنسان الظاهرة والباطنة؛ ولذلك حرَص على حُسن مظهر المسلم، وفي هذا الحديث يخبر النبيُّ ﷺ عن بعض خصالِ الفطرة، وهي خصال السُّنَّة التي فَطَر الله عليها العباد وشَرَعها لهم، وبها يَحصُل جمال الهيئة وكمال الخِلقة التي خُلق الإنسان عليها، وتَشهد بحُسنها العقولُ السليمة. وإلَّا فبعض الفِطَر قد تُنكَّس وتَنحرف عن أصلها
«كلُّ مَولودٍ يُولَدُ على الفِطرة، فأبَواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانِه»[1]
على أنَّ خصال الفطرة ليست مُنحصِرةً في تلك العَشْر التي أخبر بها ﷺ في هذا الحديث، بل ورد غيرها في أحاديث أخرى، فليس المراد هنا الحصر.
2- فأوَّل تلك السُّنَن: قصُّ الشَّارب، وهو الشعر النابت فوق الشَّفة العليا. وإنما أُمِر بقصِّه لأنَّ في بقائه حصولَ الأذى بما يخرج من الأنف، ومباشَرة الماء عند الشرب، وربما يحمل في داخله ميكروبات مُضِرَّة[2]
وقصُّ الشَّاربِ سُنَّةٌ، والمختار في قصِّه: أن يجتهد في تقصيره حتى تبدو الشَّفَة.
3- وثانيها: ترك اللحية بحيث تكون وافرة ولا يحلقها ، و اللحية ما نبت من الشَّعر على ذَقَن الرَّجُل وخَدَّيه، والمقصود من إعفائها:
وقد جاءت الأحاديث في توفيرها بألفاظ: «أَعْفُوا، وأَوْفوا، وأَرْخوا، وأَرْجوا، ووفِّروا»، فحصل من مجموع تلك الروايات تحريم حلق اللحية، والأمر بترك اللحية حتى يكون لها وفرة، وأما الأخذ منها بما لا يخل بالوفرة فمحل اجتهاد فقهي.
4- وثالثها: استعمال السِّواك، وهو عُودٌ يؤخَذ من شجر الأراك يُستخدَم في تنظيف وتطييب الأسنان والفم، ويُزِيل عنهما الروائح الكريهة.
واستعمال السِّواك مشروعٌ مستحبٌّ في كلِّ الأوقات، يتأكَّد استحبابُه عند الصلاة والانتباه من النوم، وعند تغيُّر رائحة الفم وظُهور صُفْرة الأسنان
؛«السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ»[3]
5- ورابعها: استنشاق الماء، وهو أن يُدخِل الإنسانُ الماءَ في أنفه ثم يَنثُره؛ ليخرج ما فيه من أذًى ووسَخٍ.
6- وخامسُ تلك الخصال: قصُّ الأظافر، وهو أن يقُصَّ الإنسان ما طال من أظافره؛ لئلا تجتمع فيها الأوساخ والميكروبات المُضِرَّة.
7- وسادسُها: غسلُ عُقَدِ الأصابعِ ومفاصلِها كُلِّها؛ فإنَّها مظنَّة اجتماع الطين والنجاسات والجراثيم، ويلحق بذلك: ما يجتمع من الوسَخ في معاطف البدن، فينظِّفه ويزيله.
8- وسابعها: إزالةُ الشعر النَّابت تحت الإبْط؛ لأنه في مكان يجتمع فيه العَرَق والأوساخ، وتتغيَّر معه الرائحة.
وتتأدَّى السُّنَّةُ بإزالة ذلك الشَّعر بأي وسيلة كانت، سواءً كان بالحلْق أو بالنتف؛ لأنَّ الغرضَ إزالة ذلك الشعر، وقد حصل، وإن كان النَّتْفُ أحرى وأحسن لِمَن قَوِي عليه[4]
9- وثامن خصال الفطرة: حَلْقُ الشعر الخشِن الذي يَنبُت حول القُبُل عند الرجل والمرأة، وإنباتُ ذلك الشَّعْرِ علامةٌ على البلوغ. وتُسَمَّى تلك الإزالة استحدادًا؛ لأنَّه يُستعمَل الحديدة -وهي المُوسَى- في حلقه.
10- وتاسع تلك الصفات: انتقاص الماء، وهو استعمالُ الماءِ في الاستنجاء بعد قضاء الحاجة [5].
11- ونَسِي أحد رواة الحديث الصفة العاشرة، ورجَّح أن تكون المضمضة، وهي أن يُدير الإنسانُ الماءَ في فمِه ثم يمُجَّه
وقيل: بل العاشرةُ: الخِتان؛ بدليل حديث أبي هُرَيرةَ
«الفِطْرَةُ خَمْسٌ -أو خَمْسٌ مِنَ الفِطْرَةِ-: الخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ»[6]
والختان للرجال واجبٌ ما لم يضر؛ وهو أن تُقطع الجلدة التي تُغَطِّي الحشفة حتى تنكشف جميعُها؛ فإن تلك الجلدة يَحتقِن بها البول وتكون سببًا في النَّجاسة، وأما النساء فليس عليهن ختان[7]
والأصلُ في قصِّ الشَّارب والأظافر ونتف الإبط وحلق العانة أنْ يُتدارك ذلك كلَّما طال، وإلَّا فلا ينبغي أن يُترك ذلك حتى تنقضي أربعين يومًا؛ قال أنس بن مالك : «وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفِ الْإِبِطِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ؛ أَنْ لَا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً»[8]
اتباع
1- (1) اهتمَّ الإسلام بطهارة الإنسان ظاهرًا وباطنًا، وحرَص على أن يكون الإنسان على خير مَظهَرٍ
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}
وجعل «الطُّهور شَطْر الإيمان»([9] فعلى المسلم أن يَحرِص على نظافة جسده وحُسن مَظهَره، كما يحرِص على نقاء عقيدته وطهارة قلبه.
2- (1) اشترط اللهُ تعالى لوقوف عبده بين يديه أن يكون على طهارةٍ كاملةٍ، نظيف الثياب والبدن، مُستعدًّا للوقوف بين يديه بصلاح الباطن بالتوبة والظاهر بالطهارة وأخذ الزينة، ولهذا يقول المتوضِّئ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ».
3- (2) يُستحَب للإنسانِ أن يتبع سُنَّةَ النبيِّ ﷺ ويقصِّر شاربه، ويُستحَبُّ أن يبدأ بالشِّقِّ الأيمن تيامُنًا.
4- (3) لا يجوز للإنسانِ أن يقصَّ لحيته أو يحلقها، وإنما يجوز له تهذيبُ ما شذَّ منها، من باب التجمُّل.
5- (3) يُكرَه للإنسان بعض خصالٍ ذكرها العلماء في اللحية، منها صبغها بالسَّواد لغير الجهاد، وصبغها بالصُّفرة للظهور بمظهر الزُّهاد، وتبييضها لإيهام الشيخوخة والحكمة والعلم، وحلقُها ونتفُها، ونتفُ الشَّيب، وتسريحها وتصفيفها لاستمالة النساء، وتركُها شعثةً مُلَبَّدةً إظهارًا للزُّهد وعدم المبالاة بنفسه[10]
6- (4) يُستحَب للإنسان أن يستعمل السِّواك في تطهير فمه وتطييبه وإزالة الرائحة الكريهة عنه. ويجزئ كذلك استخدام الفرشاة والمعجون ونحو ذلك مما يفي بالغرض.
7- (4) يُستحَب استعمال السِّواك قبل كلِّ صلاةٍ امتثالًا لقوله ﷺ:
«لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي -أَوْ عَلَى النَّاسِ- لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ»[11]
8- (4) لا يُكره استعمال السِّواك في أيِّ وقتٍ من الأوقات، بل يُستحَب استعمالُه للصائم كذلك؛
فعن عامر بن ربيعة أنَّه قال:
«رأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ ما لا أُحصي يتسَوَّكُ وَهوَ صائمٌ»[12]
9- (5) الاستنشاق من الأفعال المُطَهِّرة للأنف، ولهذا أَمَر النبيُّ ﷺ المتوضئَ فقال: «وبالِغْ في الاستنشاقِ إلَّا أنْ تكونَ صائمًا»[13]
10-(6) ليَحرِصِ المسلم على تقليم أظافره وقصِّها، كما ينبغي أن يتعاهَد ما تحتها من الطين والوسَخ فيقوم بتنظيفه.
11- (7) يدخل في غسل البراجِم كلُّ ما يمكن أن يجتمع به الوَسَخُ مثل معاطف الأُذُن، وتحت ترهُّلات الجلد، وبين أصابع القدمَين، وكل موضع يمكن أن يجتمع العَرَقُ والتُّراب ونحوهما فيه [14]
12- (9) يُستحب أن يتعاهد الإنسانُ حلق عانته وغسل منابت الشعر وتطهير ما بين فخذيه ووصول الماء إلى كل بقعة من جلد الإنسان؛ حيث تكثر في تلك المنطقة الأمراض والالتهابات.
13-(10) استعمال الماء في تطهير المحل بعد قضاء الحاجة أفضل غالبًا من استعمال الأشياء الجامدة كورق الحمام، لأنه بالماء تزول النجاسة تمامًا ويطهر أثرها وتنتفي عن المحل رائحته الكريهة.ومما يلحق بذلك: رشُّ الإنسانِ الماءَ على ذَكَرِه أو ثيابه بعد الوضوء؛ لينفي عن نفسه الوسواس الذي يُوهِمه بأنَّ قطرات البول قد أتت على ثيابه[15]
14-(11) على المسلم ألَّا يَصُدَّه الغرورُ وعزَّةُ النَّفسِ عن قبول الحقِّ أو القولِ به؛ فراوي الحديث حين شكَّ أنَّه نَسِي شيئًا من الخصال صرَّحَ بذلك؛ فالتصريح بالخطأ والنسيان والجهل أفضل من الافتراء على اللهِ سبحانه وعلى رسوله ﷺ.
15-(11) المضمضة من سُنن الفطرة التي ينبغي للمسلم أن يحرِص عليها ويواظِب على فعلها؛ ليَنال رضا الله تعالى وأجر اتباع رسوله ﷺ، ولتَتِم له الطهارة الكاملة.
16-(11) الأفضل في الختان أن يُبادَر إلى ذلك بحسب الاستطاعة، فالختان في الصغر أفضل؛ حيث إنَّ نمو اللحم فيه أسرع، كما أنَّ الطفل لا يصيبه الألم النفسي الذي يصيب الكبار.
17- قال الشاعر:
وَوُلِدْتَ مَفْطُورًا بِفِطْرتَكِ التِي = لَيْسَتْ سِوَى التَّصْدِيقِ والإِيمَانِ
وَبُلِيتَ بالتَّكْلِيفَ أَنْتَ مُخَيَّرٌ = وَأَمَامَكَ النَّجْدَانِ مُفْتَتَحَانِ
فَعَمِلْتَ مَا تَهْوَى وَأَنْتَ مُرَاقَبٌ = مَا كُنْتَ مَحْجُوبًا عَن الدَّيَّانِ
المراجع
- رواه البخاري (1385)، ومسلم (2658)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 230).
- رواه النسائي (5)، والبخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (1934).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 149).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150).
- رواه البخاريُّ (5889)، ومسلم (257).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 229).
- رواه مسلم (258).
- رواه مسلم (223).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 149، 150).
- رواه البخاري (887)، ومسلم (252).
- رواه الترمذي (725)، وقال حديث حسن، والبخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (1934).
- رواه أبو داود (142)، والترمذي (788)، والنسائي (114)، وابن ماجه (448).
- انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150).