عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ: فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ: فِيمَ فَعَلَ؟ وَعَنْ مَالِه: مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسْمِهِ: فِيمَ أَبْلَاهُ؟».

فقه:

1- يُنَبِّهُ النبيُّ ﷺ أُمَّتَه إلى أنَّ العبد لا بدَّ أن يُسأل عن أربعة أمور بين يدي الله تعالى، فعليه أن يَستعدَّ لتلك الأسئلة، وأن يُعِدَّ للسؤال جوابًا. ومِن رَحمته سبحانه أنَّه لم يجعل تلك الأسئلة مُبهَمةً لا يعلمها أحدٌ، بل بيَّنَها وأخبر بها النبيُّ ﷺ.

2- وأوَّلُ تلك الأسئلة أن يُسأل عن عُمُره الذي عمَّره اللهَ تعالى في الأرضِ، كيف قضاه وفِيم ضيَّعه؟ أفي طاعةِ اللهِ تعالى أم في معاصِيه؟ ولهذا حرَص النبيُّ ﷺ على توجيهِ أُمتِه إلى اغتنام عُمرها بقولِه لابنِ عباسٍ رضي الله عنهما:

«اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»[1].

3- ثُمَّ يَسأله جلَّ وعلا عن عِلمه – إن كان من أهل العلم -؛ هل تعلَّم ذلك العلمَ مخلِصًا لله تعالى أم رياءً وسُمعةً فيكون مَن أوَّل مَن يُقضى فيه يوم القيامة؛ ففي الحديث:

«وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ»[2].

وهل نشَر ذلك العلم وصَدَق فيه أم كَتَمَه ودلَّس في إبلاغه وكذَب على النَّاس يَبتغي رِضا بعضِهم به؟ وهل عَمِلَ بما عَلِم أم خالَفه بفِعله فدخَل في قوله تعالى:

{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}

[البقرة: 44]

وقوله عزَّ وجلَّ:

{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}

[الصف: 3]

4- وثالث الأسئلة أن يُسأل العبدُ عن ماله؛ مِن أين اكتسَبه وأتى به، أمِن حلالٍ أم حرام، وفِيم أنفقه؟ هل سخَّرها في الطاعة وخِدمة الإسلام أم ضيَّعها على المعاصي والشهواتِ والذُّنوب؟

5- وآخِرُ تلك الأسئلة أن يُسأل المرءُ عن جِسمه وقوته وصحَّته وشَبابه؛ كيف أبلاها وفي أيِّ الأبواب استعمَلها.

وليس معنى الحديث أنَّ العبدَ لا يُسأل عن غير تلك الأمور، بل إنَّه سبحانه سيُحاسِب كلَّ عبدٍ على ما قدَّم من الأعمال والأقوال، إلَّا أنَّ تلك الأسئلة أهمُّ ما يُسأل عنه العبدُ، وتَنتظِمُ تحتها جميعُ الأسئلة الأُخرى.

اتباع: 

1- (1) على العبد أن يسارِع في الاستعداد لتلك الأسئلة التي يُسأل عنها بين يدَي الله تعالى؛ فالشقيُّ مَن عرَف السؤال ولم يَستعِد له بالجواب.

2- (1) يَدخل بعضُ المؤمنين الجنَّة بغير حسابٍ، فلا يُسألون ولا يَقِفون بين يدَي ربهم للسؤال؛

قال ﷺ:

«يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»[3].

فما أعظمَ دخول الجنة، وأعظم منه دخولها بغير حسابٍ! فالحرصَ الحرصَ على أن نكون من هؤلاء. 

3- (1) قال الفُضَيل بن عِياضٍ رحمه الله لرجلٍ: كمْ أتتْ عليك؟ قال: سِتون سنةً، قال: فأنت منذ سِتين سنةً تَسير إلى ربك، يُوشِك أن تَبلغ، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون! فقال الفُضيل: أتعرِف تفسيرَه؟ تقول: أنا لله عبدٌ وإليه راجعٌ، فمَن عَلم أنه لله عبدٌ، وأنه إليه راجعٌ، فلْيَعلَم أنه موقوفٌ، ومَن عَلم أنه موقوفٌ، فلْيَعلم أنه مسؤولٌ، ومَن عَلم أنه مسؤول، فلْيُعِد للسؤال جوابًا، فقال الرجل: فما الحِيلة؟ قال: يسيرةٌ، قال: ما هي؟ قال: تُحسِن فيما بَقِيَ يُغفَر لك ما مَضَى؛ فإنك إن أسأتَ فيما بَقِي، أُخِذْتَ بما مَضَى وبما بَقِي[4].

4- (2) عُمر الإنسان أهمُّ شيءٍ يملِكه؛ فإنَّما هو أيامٌ معدودةٌ وساعاتٌ محسوبةٌ. فينبغي على العبد أن يعرِف قيمةَ وقته، وأن يَغتنم ساعاتِه في طاعة الله تعالى؛ فإن الله سائلُه يوم القيامة عن حياتِه كلِّها، فإنْ أدَّى ما عليه من الفرائض والطاعات، نَجا وسَلِم، وإنْ لم يفعل ذلك، هَلَك وخَسِر.

5- (2) احرِص على اغتنام وقتِك في الطاعات وتحصيلِ أعلى الدرجات؛ قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه: "إن الدنيا قد ترحَّلت مُدبِرةً، وإن الآخرةَ قد ترحَّلت مقبِلةً، ولكلٍّ منهما بَنُون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تَكونوا مِن أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عملٌ ولا حسابَ، وغدًا حسابٌ ولا عملَ"[5].

6- (3) العلم حُجَّةٌ على صاحبه؛ فربما اعتذَر الجاهل بالجهْل، ولا عُذرَ لعالِمٍ عرَف حُكمَ اللهِ تعالى وخالَفه متبِعًا هواه.

7- (3) زكاةُ العلمِ نشرُه وتعليمُه للنَّاس، وكَتمُ العلمِ كبيرةٌ من الكبائر توعَّد اللهُ تعالى عليها بأقصى العقوبات؛ قال تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}

[البقرة: 159]

وقال ﷺ:

«مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[6].

8- (4) أمرُ المال عند اللهِ سبحانه عظيمٌ، ولهذا سَأل عن العُمر والعلم والجسم سؤالًا سؤالًا، وسأل عن المالِ سؤالين؛ مِن أين أتى به، وكيف أنفَقه؟ فعلى العبد أن يَتحرَّى في ماله؛ فلا يَأخذ المال إلا مِن حلال، ولا يُنفِقه إلا في حلال.

9- (4) اشتدَّ حِرصُ الصحابة رضوان الله عليهم على تحرِّي الأكل من الحلال وترْكِ الحرام وما فيه شُبهة، فأبو بكرٍ الصدِّيقُ أكل يومًا من طعامٍ جاء به غلامُه، فلما أكل أخبره الغلام أنَّ هذا الطعام جاء به رجلٌ كان قد تَكهَّن له الغلامُ في الجاهلية، وهو لا يُحسِن الكهانةَ، غير أنَّه خدَعه، فصادف ذلك قضاءَ اللهِ تعالى، فجاء الرجل بالطعامِ جائزةً للغلام، فأدخَل أبو بكر يده في فَمِه حتى قاء ما في بطنِه[7].

10- (5) جسدُك أمانةٌ استَودَعها اللهُ تعالى عندك، فاحفَظْها بطاعة الله تعالى والتَّقَرُّب إليه، وامنَعْها عن مَوارد الهَلَكة والعصيان.

11- قال الشاعر: 

نَلْهُو ونَأْمُل آمَالًا نُسَرُّ بها = شَرِيعةُ الموتِ تَطْوِينا وتَطْوِيها

فاغْرِسْ أُصُولَ التُّقَى ما دُمْتَ مُقْتَدِرًا = واعلَمْ بأنَّكَ بعدَ الموتِ لاقِيها

تَجْنِي الثِّمَارَ غَدًا في دارِ مَكْرُمةٍ = لا مَنَّ فيها ولا التَّكْدِيرُ يأتِيها

المراجع

  1. رواه الحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (7846).
  2. رواه مسلم (1905).
  3. رواه البخاري (6472)، ومسلم (220)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
  4. " جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 383).
  5. "إغاثة اللهفان" لابن القيم (1/ 71).
  6. رواه أبو داود (3658)، والترمذي (2649)، وابن ماجه (264).
  7. رواه البخاري (3842).


مشاريع الأحاديث الكلية