عن ابنِ عُمرَ رضي الله عنهما، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ؛ إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ».

عناصر الشرح

الشرح المفصَّل للحديث:

إن الله تبارك وتعالى أنزل شريعته، وهيَّأ للناسِ أن يقوموا بتكاليفها؛ فمثلًا: جعل في أمور المعاملات بين الناس لكلٍّ منهم حقوقًا وعليه واجبات؛ حتى تنتظم حياة الناس ومعايشهم، ويَعمُروا الأرض بطاعة الله والاستجابة لأوامره.

وحيث إن صلاح حياة الناس ومعيشتهم تكون في العَيش جماعاتٍ؛ أمرهم الله تعالى بأن يكونوا مع الجماعة، وأن يحذروا الفُرْقةَ والاختلافَ؛ لأنَّ ذلك يُسبِّب الشرَّ والفساد والنزاع واختلال الأمن؛ فالإسلامُ يحضُّ على لزوم الجماعة؛ حيث إن رفع راية الحقِّ، وكلمة الله تعالى، يتوقَّف تحقُّقه على قوَّة الجماعة، وقوَّةُ الأمَّة في وَحْدتها.

لقد أَمَرَهم الله تعالى أن يولُّوا عليهم من يَحكُمُهم بشرع الله تعالى، فيَسُوسهم ويحفظ دنياهم، ويَذُود عن دينهم، ويرفع راية الإسلام، وأمرهم أن يسمعوا له ويُطيعوه في المعروف، وأن يُعينوه في مَهامِّه وواجباته، ويتعاونوا معه؛ إلا أن يأمرهم بمعصية، فلا سمع له ولا طاعة فيها؛ بل يأثم من يُطيعه في المعصية.

لقد أمرهم الله تعالى بالسَّمع والطاعة لوليِّ الأمْرِ المسلم، ونهاهم عن الخروج عليه، والسَّعيِ إلى عَزْلِه؛ فإن ذلك من أعظم أسباب نشر الفِتن وتهييجها، وإراقةِ الدِّماءِ، وإفساد ذاتِ البَينِ؛ وغالبًا ما تكونُ المفسدةُ في عَزْلِه أكثرَ منها في بقائه.

وفي هذا الحديثِ يقول النبيُّ ﷺ:

«عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ؛ إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ»

يُبيِّن النبيُّ ﷺ أنَّ مِن حقوقِ الحاكِم الشَّرعيِّ الواجبة على الْمُسلِم: السَّمْعَ والطاعةَ فيما أحَبَّ، وكذلك فيما كَرِه لأيِّ سبب، سواءٌ كان السبب فَواتَ مَصالِحَ شخصيَّةٍ له، أو وقوعَ ضرر عليه، أو حتى لِمَا يَراه مِن فواتِ مَصالِح الأمَّة؛ ولكن هذا الحق مشروطٌ بألَّا يأمُرَه الحاكمُ بمعصية لله تعالى، فإنْ أمَرَه بمعصيةٍ، فلا سَمْعَ ولا طاعةَ له فيها.

ففي قوله: «إلا أن لم يؤمَر بمعصية» تقييدُ ما أُطلِق في الأحاديث الأخرى التي تأمر بالسّمع والطّاعة، ولو لحبشيٍّ، ومن الصَّبر على ما يقع من الأمير ممَّا يُكرَه، والوعيد على مفارقة الجماعة، وقوله: «فإذا أَمَرَ بمعصية، فلا سمع ولا طاعة»؛ أي: لا يَجِب ذلك؛ بل يَحْرُم على من كان قادرًا على الامتناع؛ بل إنه ينعزل بالكُفر إجماعًا، فيجب على كلِّ مسلم القيامُ في ذلك، فمن قَوِيَ على ذلك، فله الثَّوابُ، ومن داهَنَ، فعليه الإثم، ومن عَجَز، وَجَبت عليه الهجرة من تلك الأرض[1].

وإن وليَّ الأمر هو كلُّ من جعل الله تعالى له ولاية على من تحته، وعلى رأس هؤلاء مَن يتولَّى الإمامة العظمى على البلاد؛ من الملوك والأمراء والرؤساء ونحوهم، وكل من ولَّاه السلطان ولاية من الولايات، فإنه يطاع فيها بالمعروف؛ لِمَا في ذلك من الخير العظيم، واستِتْباب الأمن، ونصر المظلوم، وردع الظالم، وغير هذا من الفوائد العظيمة في السمع والطاعة في المعروف

يقول الله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}

[النساء: 59]

فطاعةُ وليِّ الأمر في غير معصية طاعةٌ لله ولرسوله؛ فطاعة الله أصل، وكذلك طاعة رسوله ﷺ أصل بما أنه مُرسَل منه، أما طاعة أولي الأمر من المؤمنين فهي تَبَع لطاعة الله وطاعة رسوله، فلم يكرِّر لفظ الطاعة عند ذكرهم، كما كرَّرها عند ذكر الرسول ﷺ ليقرِّر أن طاعتهم مستمَدَّة من طاعة الله وطاعة رسوله.

وفي الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:

«مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَكَرِهَهُ فَلْيَصْبِرْ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتُ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»[2].

وفي المقابل إذا لم يَعِ المسلم أن السمع والطاعة لا تكون إلا في المعروف فقط، وإلا فإنه بطاعته في المعصية فهو على عصيان

عَنْ عَلِيٍّ رضي اللَّه عنه، قَالَ:

بَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ سَرِيَّةً، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: قَدْ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا، وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا، ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا، فَجَمَعُوا حَطَبًا، فَأَوْقَدُوا نَارًا، فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ، فَقَامَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبِيَّ ﷺ فِرَارًا مِنَ النَّارِ؛ أَفَنَدْخُلُهَا؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ خَمَدَتِ النَّارُ، وَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: «لَوْ دَخَلُوهَا، مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا؛ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ»[3].

فإنه لا طاعة لوليِّ الأمر في معصية الله تعالى، ويَجِب عليه أن يجتنب الأمر بمعصية الله تعالى، وعليه مراجعة أهل العلم فيما أَشكَل عليه؛ ليَعلَم كون الشيء المأمور به من المعاصي أو ليس كذلك، كما أنه يجب على الناس جميعًا أن يقدِّموا طاعة الله تعالى على طاعة كلِّ أحد؛ فإن الأصل أن طاعة الولاة من طاعة الله تعالى، فلا يُتصوَّر أن يكون مأمورًا بطاعتهم فيما يناقض أمر الله تعالى وشريعته.

فإذا أمر وليُّ الأمر بما فيه معصيةٌ لله تعالى، فلا تجوز طاعته في هذه المعصية فقط، لا في مُطلَق أمره ونهيِه، ولا يجوز الخروجُ عليه لأجل ذلك؛ بل يُشرَع للمسلم مراجعته ومناصحته بالحِكمة والموعظة الحسنة، ويجب التنازل عن الرَّغَبات والمصالح الشخصية؛ من أجل وَحدة الأمَّة الإسلامية، واجتماعها، وتماسكها.

وفي الحديث "البيانُ الواضح عن نهي اللهِ - على لسان رسولهِ - عبادَه عن طاعة مخلوق في معصية خالقه، سلطانًا كان الآمِرُ بذلك، أو سُوقةً، أو والدًا، أو كائنًا من كان، فغَيْرُ جائز لأحد أن يُطيع أحدًا من الناس في أمر قد صحَّ عنده نهيُ الله عنه، فإن ظنَّ ظانٌّ أن في قوله ﷺ: «اسْمَعوا وأطيعُوا، وإن استُعمِل عليكم عبد حبشيٌّ»، وفي قوله: «من رأى من أميره شيئًا يَكرَهُه فليصبرْ» حُجَّةً لمن أَقدَم على معصية الله بأمر سُلطان أو غيره، وقال: قد وَرَدت الأخبار بالسَّمع والطاعة لوُلاة الأمر، فقد ظنَّ خطأً؛ وذلك أن أخبار رسول الله ﷺ لا يجوز أن تَتضادَّ، ونَهْيَه وأمرَه لا يجوز أن يتناقض أو يتعارَضَ؛ وإنما الأخبارُ الواردة بالسمع والطاعة لهم، ما لم يكن خلافًا لأمر الله، وأمرِ رسوله، فإذا كان خلافًا لذلك، فغيرُ جائز لأحد أن يُطيع أحدًا في معصية الله، ومعصية رسولِه، وبنحوِ ذلك قال عامَّة السَّلَف"[4].

وعن أبي هُرَيرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول ﷺ:

«كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ» قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ»[5].

فيذكر النبيُّ ﷺ في هذا الحديث ذِكرًا من الماضي، حيث إن بني إسرائيل كانت تَسُوسُهم الأنبياء؛ أي: يقومون على الأمور بما يُصلحها، ويتولَّون أمور الناس كما يفعل الأمراء والولاة بالرعيَّة، ثم يوجِّه النبيُّ ﷺ الأمَّة لكيفية التعامل مع ما سيَحدُث في المستقبل، من أنه سيكون هناك أكثرُ من حاكم واحد للمسلمين في زمن واحد، فيقول: «فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ»؛ أي: إذا بُويِع لخليفة بعد خليفة، فبيعةُ الأول صحيحةٌ يجب الوفاءُ بها، وبيعةُ الثاني باطلةٌ يَحرُم الوفاء بها، ويَحرُم عليه طَلَبُها، وسواءٌ عَقَدوا للثاني عالِمينَ بعَقد الأول، أم جاهلين، وسواءٌ كانا في بلدينِ أو بلد، أو أحدُهما في بلد الإمام المنفصل، والآخَرُ في غيره

ثم يوجِّههم النبيُّ ﷺ قائلًا:

«أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ»

أي: أطيعوهم في غير معصية؛ فإن الله تعالى سيُحاسبهم بالخير والشرِّ عن حال رعيَّتهم.

"قال عليٌّ - رضى الله عنه -: حقٌّ على الإمام أن يَحكُم بما أَنزَل الله ويؤدِّيَ الأمانة، فإذا فَعَلَ ذلك، فحقٌّ على الناس أن يسمعوا ويُطيعوا. ورُوي مثلُه عن معاذِ بنِ جبلٍ... وقوله: «من رأى شيئًا يكرهه فليصبر» يعنى: من الظُّلم والجَور. فأما من رأى شيئًا من معارَضة اللهِ ببدعة أو قلبِ شريعةٍ، فليَخْرُجْ من تلك الأرض ويُهاجِر منها، وإن أمكنه إمامٌ عَدْلٌ، واتَّفَق عليه جمهور الناس، فلا بأس بخَلع الأوَّل، فإن لم يكن معه إلَّا قِطعةً من الناس، أو ما يُوجِب الفُرقة، فلا يحِلُّ له الخروج. قال أبو بكرِ بنُ الطيِّب: أجمعتِ الأمَّةُ أنه يوجِبُ خَلْعَ الإمام وسقوطَ فرض طاعته كفرُه بعد الإيمان، وتركُه إقامةَ الصلاة والدعاءَ إليها، واختلفوا إذا كان فاسقًا ظالِمًا غاصبًا للأموال، يَضرِب الأبشار، ويتناول النُّفوس المحرَّمة، ويُضيع الحدود، ويُعطِّل الحقوق، فقال كثير من الناس: يَجِبُ خَلْعُه لذلك. وقال الجمهور من الأمَّة وأهل الحديث: لا يُخلَع بهذه الأمور، ولا يَجِب الخروج عليه؛ بل يَجِب وَعْظُه وتخويفُه، وتركُ طاعته فيما يدعو إليه من معاصي الله"[6].

المراجع

  1. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (13/ 123).
  2. رواه البخاريُّ (7143). 
  3. رواه البخاريُّ (7145)، مسلم (1840). 
  4. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (8/ 214، 215).
  5. رواه البخاريُّ (3455)، مسلم (1842). 
  6. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (8/ 215).


النقول:

قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال محمدُ بنُ جَريرٍ: في حديث عليٍّ وحديث ابن عمرَ البيانُ الواضح عن نهي اللهِ على لسان رسولهِ عبادَه عن طاعة مخلوق في معصية خالقه، سلطانًا كان الآمِرُ بذلك، أو سُوقةً، أو والدًا، أو كائنًا من كان، فغَيْرُ جائز لأحد أن يُطيع أحدًا من الناس في أمر قد صحَّ عنده نهيُ الله عنه، فإن ظنَّ ظانٌّ أن في قوله ﷺ في حديث أنس: «اسْمَعوا وأطيعُوا، وإن استُعمِل عليكم عبد حبشيٌّ»، وفي قوله في حديث ابن عبَّاس: «من رأى من أميره شيئًا يَكرَهُه فليصبرْ» حجَّةً لمن أَقدَم على معصية الله بأمر سلطان أو غيره، وقال: قد وردت الأخبار بالسَّمع والطاعة لوُلاة الأمر، فقد ظنَّ خطًا؛ وذلك أن أخبار رسول الله ﷺ لا يجوز أن تَتضادَّ، ونَهْيَه وأمرَه لا يجوز أن يتناقض أو يتعارَضَ؛ وإنما الأخبارُ الواردة بالسمع والطاعة لهم، ما لم يكن خلافًا لأمر الله، وأمرِ رسوله، فإذا كان خلافًا لذلك، فغيرُ جائز لأحد أن يُطيع أحدًا في معصية الله، ومعصية رسولِه، وبنحوِ ذلك قال عامَّة السَّلَف"[1].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قولُه: «السمع والطاعة» يعني: سَماعُ كلام الحاكم وطاعتُه واجبٌ على كلِّ مسلم، سواءٌ أَمَرَه بما يوافق طَبْعَه أو لم يوافقْه، بشرط ألَّا يَأْمُرْه بمعصية، فإن أَمَره بها، فلا تجوز طاعتُه؛ ولكن لا يجوز له محاربة الإمام"[2].

قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال عليٌّ - رضى الله عنه -: حقٌّ على الإمام أن يَحكُم بما أَنزَل الله ويؤدِّيَ الأمانة، فإذا فَعَلَ ذلك، فحقٌّ على الناس أن يسمعوا ويُطيعوا. ورُوي مثلُه عن معاذِ بنِ جبلٍ... وقوله: «من رأى شيئًا يكرهه فليصبر» يعنى: من الظُّلم والجَور. فأما من رأى شيئًا من معارَضة اللهِ ببدعة أو قلبِ شريعةٍ، فليَخْرُجْ من تلك الأرض ويُهاجِر منها، وإن أمكنه إمامٌ عَدْلٌ، واتَّفَق عليه جمهور الناس، فلا بأس بخَلع الأوَّل، فإن لم يكن معه إلَّا قِطعةً من الناس، أو ما يُوجِب الفُرقة، فلا يحِلُّ له الخروج. قال أبو بكرِ بنِ الطيِّب: أجمعتِ الأمَّةُ أنه يوجِبُ خَلْعَ الإمام وسقوطَ فرض طاعته كفرُه بعد الإيمان، وتركُه إقامةَ الصلاة والدعاءَ إليها، واختلفوا إذا كان فاسقًا ظالِمًا غاصبًا للأموال، يَضرِب الأبشار، ويتناول النُّفوس المحرَّمة، ويُضيع الحدود، ويُعطِّل الحقوق، فقال كثير من الناس: يَجِبُ خَلْعُه لذلك. وقال الجمهور من الأمَّة وأهل الحديث: لا يُخلَع بهذه الأمور، ولا يَجِب الخروج عليه؛ بل يَجِب وَعْظُه وتخويفُه، وتركُ طاعته فيما يدعو إليه من معاصي الله"[3].

قال ابن حجر رحمه الله: "قولُه: «ما لم يؤمَر بمعصية»: هذا يقيِّد ما أُطلِق في الحديثين الماضيين من الأمر بالسّمع والطّاعة، ولو لحبشيٍّ، ومن الصَّبر على ما يقع من الأمير ممَّا يُكرَه، والوعيد على مفارقة الجماعة. قوله: «فإذا أَمَرَ بمعصية، فلا سمع ولا طاعة»؛ أي: لا يَجِب ذلك؛ بل يَحْرُم على من كان قادرًا على الامتناع. وفي حديث معاذٍ عند أحمدَ: «لا طاعة لمن لم يُطِعِ اللّه»، وعنده وعند البزَّار في حديث عمرانَ بنِ حُصينٍ والحَكَم بنِ عمرٍو الغفاريِّ: «لا طاعة في معصية اللّه» وسندُه قويٌّ، وفي حديث عبادةَ بنِ الصَّامت عند أحمدَ والطّبرانيِّ: «لا طاعة لمن عصى اللّه تعالى»، وقد تقدَّم البحث في هذا الكلام على حديث عبادة في الأمر بالسّمع والطّاعة إلّا أن تَرَوا كُفرًا بَواحًا، بما يُغني عن إعادته، وهو في كتاب الفتن، وملخَّصُه أنَّه ينعزل بالكُفر إجماعًا، فيجب على كلِّ مسلم القيامُ في ذلك، فمن قَوِيَ على ذلك، فله الثَّوابُ، ومن داهَنَ، فعليه الإثم، ومن عَجَز، وَجَبت عليه الهجرة من تلك الأرض"[4].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «والسمع والطاعة»؛ أي: أوصيكم بقبول قول الأمير وطاعته، وبما أمركم به ولو كان أدنى خَلق، وهذا وارد على سبيل المبالغة لا التحقيق؛ كما جاء: «مَن بنى مسجدًا لله كمِفْحَصِ قَطَاةٍ»[5] يعني: لا تستنكفوا عن طاعة من وُلِّي عليكم، ولو كان عبدًا حبشيًّا؛ إذ لو استنكفتم عنه، لأدَّى إلى إثارة الحروب، وتهييج الفتن، وظهور الفساد في الأرض، فعليكم بالصبر والْمُداراة حتى يأتي أمر الله. والفاء في «فإنه» للتسبيب، جَعَلت ما بعدها سببًا لِما قبلها؛ يعني: من قَبِل وصيَّتي، والْتَزَم تقوى الله، وقَبِل طاعة من وُلِّي عليه، ولم تهيَّج الفتن، أَمِن بعدي مما يرى من الاختلاف الكثير، وتشعيب الآراء، ووقوع الفتن"[6].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "قال ﷺ: (والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبد حبشيٌّ): السمع والطاعة، يعني لوليِّ الأمر. (وإن تأمَّر عليكم عبدٌ حبشيٌّ)، سواءٌ كانت إمرتُه عامَّةً؛ كالرئيس الأعلى في الدولة، أو خاصَّةً كأمير بلدة، أو أمير قبيلة وما أشبه ذلك. وقد أخطأ من ظنَّ أن المراد بقوله: (وإن تأمَّر عليكم عبد حبشيٌّ) أن المراد بهم الأمراء الذين دون الوليِّ الأعظم الذي يسمِّيه الفقهاء الإمام الأعظم؛ لأن الإمارة في الشرع تشمل الإمارة العظمى، وهي الإمامة وما دونها؛ كإمارة البُلدان، والمقاطعات، والقبائل، وما أشبه ذلك؛ ودليل هذا أن المسلمين منذ تولَّى عمرُ بنُ الخطَّاب - رضي الله عنه - يسمُّون الخليفة (أمير المؤمنين) فيجعلونه أميرًا. وهذا لا شكَّ فيه، ثم يسمَّى أيضًا (إمامًا)؛ لأنه السلطان الأعظم، ويسمَّى سُلطانًا؛ لكن الذي عليه الصحابة أنهم يسمُّونه (أمير المؤمنين). وقوله: (وإن تأمَّر عليكم عبد حبشيٌّ)؛ يعني: حتى ولو لم يكن من العرب، لو كان من الحبشة، وتولَّى، وجعل الله له السلطة، فإن الواجب السمع والطاعة له؛ لأنه صار أميرًا، ولو قلنا بعدم السمع والطاعة له، لأصبح الناس فوضى، كلٌّ يعتدي على الآخر، وكلٌّ يُضيع حقوق الآخرين. وقوله: (والسمع والطاعة): هذا الإطلاق مقيَّد بما قيَّده به النبيُّ ﷺ حيث قال: «إنما الطاعة في المعروف»[7] ثلاث مرات، يعني فيما يُقرُّه الشرع، وأما ما يُنكره الشرع، فلا طاعة لأحد فيه، حتى لو كان الأبَ أو الأمَّ أو الأمير العامَّ أو الخاصَّ؛ فإنه لا طاعة له. فمثلًا لو أمر وليُّ الأمر بأن لا يصلِّي الجنود، قلنا: لا سمع ولا طاعة؛ لأن الصلاة فريضة، فرضها الله على العباد، وعليك أنت أيضًا، أنت أول من يصلِّي، وأنت أول من تُفرَض عليه الصلاة، فلا سمع ولا طاعة... وهكذا كلُّ ما أمر به وليُّ الأمر، إذا كان معصيةً لله، فإنه لا سمع له ولا طاعة، يجب أن يُعصى عَلَنًا ولا يُهتمَّ به، إن من عصى الله وأمر العباد بمعصية الله، فإنه لا حقَّ له في السمع والطاعة؛ لكن يجب أن يُطاع في غير هذا؛ يعني: ليس معنى ذلك أنه إذا أَمَر بمعصية، تسقط طاعته مطلَقًا، لا؛ إنما تسقط طاعته في هذا الأمر المعيَّن الذي هو معصية لله، أما ما سوى ذلك، فإنه تجب طاعته، وقد ظنَّ بعض الناس أنه لا تجب طاعة وليِّ الأمر إلا فيما أمر الله به، وهذا خطأ؛ لأن ما أمر الله به فإنه يجب علينا أن ننفِّذه ونفعله، سواءٌ أَمَرنا به وليُّ الأمر أم لا. فالأحوال ثلاثة: إما أن يكون ما أَمَر به وليُّ الأمر مأمورًا به شرعًا، كما لو أمر بالصلاة مع الجماعة مثلًا، فهذا يجب امتثاله لأمر الله ورسوله ولأمر وليِّ الأمر. وأما أن يأمر وليُّ الأمر بمعصية الله، مِن تركِ واجب، أو فعل محرَّم، فهنا لا طاعة له ولا سمع. وأما أن يأمر الناس بما ليس فيه أمر شرعيٌّ ولا معصية شرعية، فهذا تجب طاعته فيه

لأن الله قال:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}

[النساء: 59]

فطاعةُ وليِّ الأمر في غير معصية طاعةٌ لله ولرسوله"[8].

المراجع

  1. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (8/ 214، 215).
  2. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (8/ 2559).
  3. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (8/ 215).
  4. "فتح الباري" لابن حجر (13/ 123).
  5. رواه ابن ماجه (738)، وصحَّحه البوصيريُّ في "مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه" (1/ 94).
  6. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 634).
  7. رواه البخاريُّ (7145)، ومسلم (1840).
  8. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 276، 279).


مشاريع الأحاديث الكلية