133 - حسابُ الحَسَناتِ والسَّيِّئات

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللهِ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَالَ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً».


فقه:

  1. بيَّن النبيُّ ﷺ أنَّ اللهَ تعالى قدَّر الحسنات والسيئات قديمًا، وفق علمه سبحانه، ثم أخبر الملائكة الكَتَبَة بكيفية كتابتها، أو أنَّه سبحانه أمر الكَتَبَة بكتابة الحسنات والسيئات على العباد، ثم أخبرنا بطريقة احتسابها وكتابتها.

  2. فإذا نوى العبدُ فعلَ طاعةٍ من الطاعات وعقد العزمَ على فعلها ثم لم يفعلها، فإنَّها تُحسب له حسنةً كاملةً.

والمرادُ هنا انعقادُ العزمِ والتصميمُ على الفعل، لا مجرد الخَطرة التي تخطر ببالِ العبدِ ثم تتلاشى من غير نية فعلٍ؛

لقوله ﷺ:

«مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، فَعَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ أَشْعَرَ قَلْبَهُ، وَحَرَصَ عَلَيْهَا، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً»

[1].

3. وإذا فَعَلَ الطَّاعةَ جازاه عليها أضعافًا؛ فتكون الحسنةُ بعشرِ أمثالها لا تقل عن ذلك؛

لقوله تعالى:

{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}

[الأنعام: 160]

وتُضاعَفُ لمن يشاءُ اللهُ تعالى، فتكون بسبعمائة ضعفٍ أو أكثر؛

قال سبحانه:

{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}

[البقرة: 261].

4. أما إن نوى العبدُ ارتكابَ معصيةٍ من المعاصي وعقد العزمَ على ذلك، ثُمَّ تذكَّر ربَّه وأناب إليه وامتنع عن تلك المعصية، فإنَّ اللهَ سبحانه يجازيه على امتناعه بأن يكتبها له حسنةً كاملةً.

وإنما جُوزي بذلك لأنَّه خالفَ هواه وعصى شيطانه ونوى الخيرَ بالامتناع عن الشرِّ، وهو عملٌ قلبيٌّ يستحقُّ عليه الجزاءَ؛ يشهد له

قولُه ﷺ:

«على كلِّ مُسلمٍ صَدَقةٌ». قالوا: فإن لم يَفعَل؟ قال: «يُمسِكُ عن الشرِّ؛ فإنه صَدَقةٌ»

[2].

ولهذا فإنَّ مَن نوى المعصيةَ ففاتته أو حيل بينه وبينها لم يكن داخلًا في مفهوم الحديث ولا استحقَّ الثوابَ المذكور؛

لقوله جلَّ جلالُه في الحديث القدسي:

«إنّما تركها من جرَّاي»

[3]

أي: من أجلي.

5. فإن ارتكبَ العبدُ المعصيةَ أثبتها اللهُ تعالى عنده سيئةً واحدةً من غير مُضاعفة،

قال سبحانه:

{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا}

[غافر: 40]

بل يقبل توبةَ من تاب ويمحوها، ويغفرها لمن يشاء من غير توبة.

على أنَّ السيئة قد تتضاعفُ لشرف المكان؛

كقوله تعالى:

{وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}

[الحج: 25]

فرتَّب سبحانه العذابَ الأليم على الهمِّ بالمعصيةِ فيه. كما تُضاعف بشرف الزمان؛ كالمعصية في الأشهر الحُرُم، وتُضاعفُ كذلك بشرف فاعلها، فالمعصيةُ من الأنبياء والأولياء أشدُّ إثمًا من غيرهم،

كما قال سبحانه:

{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [74] إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا}

[الإسراء: 74، 75]،

وقال جلَّ وعلا:

{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}

[الأحزاب: 30].

اتباع: 

  1.  إذا تأمل العبدُ كيف يحاسب اللهُ سبحانَه عبادَه على أفعالهم ورأى لُطفه ورحمته بهم لازداد حبًّا وخضوعًا لربِّه جلَّ وعلا؛ فلولا فضلُه ورحمته ما دخل الجنةَ أحدٌ من خلقه.

  2.  على المسلم أن يعزم على الطاعات وإن لم تتيسر له، فإنه مجازى بها وإن لم يفعلها.

  3.  يستطيع المسلمُ أن يحصد الكثير من الحسنات من غير تعبٍ أو مشقةٍ؛ فما عليه إلا أن ينويَ الخيرَ ما تيسر له فعلُه؛ فينوي التصدَّق إن حصل له مالٌ، وينوي الجهادَ إن تيسَّر، ويعزمُ على النوافل وقراءة القرآن.

  4. قال ﷺ :

     «مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ»

    [4].

  5.   بادر إلى الطاعات والقُرَب؛ فإنَّ الله سبحانه يجازي على الحسنة أضعافًا كثيرةً.

  6.  انظر كيف هيَّأ اللهُ تعالى لعباده الطاعات، ثم جازاهم عليها أعظمَ الجزاء؟ سبحانَه مِن ربٍّ رحيمٍ ودودٍ يتقرب إلى عباده بالنِّعم، ويحبُّ أن يتقربوا إليه بالطاعة فيزيدهم عليها جزاءً عظيمًا.

  7.  جعل اللهُ تعالى للملائكةِ الكَتَبَةِ الاطَّلاع على ما ينويه العبد ويفكر فيه، أفلا يورثنا ذلك حياءً أن يعلموا منَّا حرصًا على معصيةِ اللهِ تعالى؟!

  8.  لا تظنَّنَّ أنَّ ما حِيل بينك وبينه من المعاصي تُثاب عليه؛ بل لا تُثابُ إلا إن امتنعتَ مختارًا نادمًا تائبًا.

  9.  إياك أن تحمل ذنب المعصية التي لم ترتكبها؛ فمَن عزم على فعل شيءٍ من المعاصي ثم لم تُتَح له الفرصةُ لها عُوقبَ كمن فعلها؛

    قال ﷺ:

    «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النّار»، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنِّه كان حريصًا على قتل صاحبه»

    [5].

  10.  من رحمة الله تعالى أنَّه جعل السيئة واحدةً من غير مضاعفة كما جعل الحسنات مضاعفة. فلا ييأس عاصٍ من رحمته، ولا يقنط مسرفٌ على نفسه من معاصيه.

  11. قال الشاعر:

وَإِنَّ عَلَيْنَا حَافِظِينَ مَلائِكًا = كِرَامًا بِسُكَّانِ البَسِيطةِ وُكِّلُوا

فَيُحْصُونَ أَقْوالَ ابْنِ آدَمَ كُلَّهَا = وَأَفْعَالَهُ طُرًّا فَلا شَيءَ يُهْمَلُ

المراجع

  1. رواه أحمد (19244).
  2. رواه البخاريُّ (1445)، ومسلم (1008).
  3. رواه مسلم (129).
  4. رواه النسائي (1787)، وابن ماجه (1344).
  5. رواه البخاريّ (31)، ومسلم (2888).


مشاريع الأحاديث الكلية