فقه
كان ابن عباس رضي الله عنهما خلف النبي ﷺ راكبًا على الدابة..
1-فأراد النبيُّ ﷺ أن يُعلِّم ابنَ عباسٍ رضي الله عنهما دروسًا في الإيمان بالله تعالى، فيجذب سمعَه وعقله لما يذكره من العلم، فناداه بما يناسب عمره، وكان غلامًا بين الحادية عشرة والرابعة عشرة، وقال له: «إني أعلمك كلمات»، أي: فاحفظها، وافهمها، واعمل بها.
2-وأولُّ ما علَّمه النبيُّ ﷺ هو أن يحفظ اللهَ تعالى، وذلك بحفظ حدوده وأوامره، فيأتمر بما أمره، وينتهي عمَّا نهاه،
قال تعالى: ﴿وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾
وقال سبحانه:﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾
3-فإذا حَفِظَ الإنسانُ حدودَ ربه وامتثل أوامره: جُوزي بجنس عمله؛ فكما يحفظُ اللهَ يحفظه الله تعالى، وحفظ الله تعالى شاملٌ لحفظ البدنِ والأعضاء والحواس وراحة البال وغيرها،
﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾
ولا يقتصر الحفظُ على الإنسانِ فحسب، بل يتعداه إلى أهله؛
﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾
،
﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾
وأرفع درجات حفظ الله للعبد أن يحفظ دينَه، فيعصمه من خطوات الشيطان ويصرفه عن وساوسه،
﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف: 24]،
ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾
يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجرُّه إلى النار[1].
4. ثم ذكر ﷺ جزاءً آخر لمن يحفظ حدود الله تعالى، وهو أنَّه يجد الله معه في كل أحواله؛ ينصره ويدافع عنه ويؤيده ويستجيب دعاءه ويتقبل عملَه؛ قال ﷺ: «وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه، فإذا أحببتُهُ، كنتُ سمْعَه الذي يسمَع به، وبصرَه الذي يُبصِر به، ويده التي يبطِشُ بها، ورِجْله التي يمشي بها، وإنْ سألني لأُعطينَّه، ولئن استعاذَني لأُعِيذنَّه» [2].
5-ثم أرشده ﷺ إلى بابٍ عظيمٍ من أبواب التوحيد وحسن الاعتقاد، وهو إفرادُ اللهِ تعالى وحده بالسؤال والطلب، فلا يدعو أحدًا غيره؛ إذ الدعاءُ عبادةٌ من العبادات لا يجوز صرفها لغير الله تعالى، ولذلك قال ﷺ: «الدعاء هو العبادة»،
﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾
.لأن السؤال فيه إظهار الذلِّ والحاجة من السائل، وفيه الاعترافُ بقُدرة المسؤول على جلب المنافع، ودَرْءِ الْمَضارِّ، ولا يَصلُح الذلُّ والافتقار إلا لله وحدَه؛ لأنه حقيقةُ العبادة[4]
6-ثم أمره ﷺ بإفراد الاستعانة بالله تعالى وحده أيضاً، والاستعانة الميل إلى المساعدة والعون لحصول المقاصد، وفي الاستعانة ظهور لمعنى التوكّل القلبي، والتوحيد في الاستعانة منتزعٌ من
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
فإنه لمَّا أمر اللهُ تعالى عبادَه بطاعته، أرشدهم إلى دعائه وحده، وإلى الاستعانة به في أداء الفرائض والانتهاء عن المناهي[5]
على أنَّ الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائزٌ ومشروعٌ، فالإنسان يستعين بأخيه في حمل المتاع الثقيل أو قضاء حاجةٍ من الحاجات التي يقدر عليها البشر، ويستحب للمسلم أن يُعين أخاه فيما يقدر عليه،
«وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ»
أما الاستعانة المحرمة فهي الاستعانة فيما هو من خصائص الرب، كما يحصل من دعاء الأموات، والتوسل بالأضرحة، وطلب الشفاء والنجاح والإنجاب منهم.
7- ثُمَّ علَّم النبيُّ ﷺ ابنَ عمِّه رضي الله عنه حقيقةَ التسليم والرضا بقضاء الله وقدره وصدق التوكُّل عليه؛ فإنَّ الأمرَ كله لله تعالى، وكلُّ ما يحدث للعبد من السَّرَّاء والضَّرَّاء من الله تعالى، كتبه على عبدِه قبل أن يخلق السماوات والأرض، فلو اجتمع الخلقُ على منعِ ما كتبه الله تعالى ما استطاعوا، ولو اجتمعوا على أن يُصيبوا العبدَ بما لم يكتبه الله عليه من الخير أو الشرِّ ما وَصَل إليه من تدابيرهم شيءٌ.
﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾
وهذه العبارة مدار الوصيةِ كلِّها؛ فإن العبدَ إذا علم أنَّه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له، وأن اجتهاد الخلق كلِّهم على خلاف المقدور غير مفيد البتَّةَ، أورثه ذلك صدق التوكُّل على الله تعالى، فلا يخاف إلا منه، ولا يسأل إلَّا الله، واقتضى التسليم له، وتقديم قولِه على قول جميع الخلق، ويستلزم ذلك حفظَ أوامره ونواهيه[7].
8-ثم أخبر ﷺ أنَّ الأقلام التي كتبت بها أقدار الخلق قد رُفعت وتوقفت عن الكتابة، والكتب التي فيها تلك الأقدار قد استقرت بما كتب فيها، فلا تعديل في صحف الأقدار واللوح المحفوظ،
﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾
و«كتَب اللهُ مقادير الخلائق قبل أن يخلق السمواتِ والأرضَ بخمسين ألْفَ سنةٍ»[8]
اتباع
1-كان النبي ﷺ يعمر وقته ووقت أصحابه بطاعة الله تعالى، حتى وقت ركوب الدابة.
2-حرص النبي ﷺ على تعليم هذا الحديث لابن عباس رضي الله عنهما على صغر سنه، مع ما في الحديث من المعاني الكبيرة في السلوك والتوحيد والقدر وغيره، فلا ينبغي أن يهمل الصغار؛ وخاصة النجباء منهم، وليخاطب كل أحد بما يناسب لغته، وخصوصًا في تدعيم أصول الدين فيهم، فهم شباب الغد، وعماد من يقوم بمصالح الناس.
3-بدأ النبيُّ ﷺ كلامَه بالنداء، وبالتشويق إلى كلمات، قليلة في عددها عظيمة في معناها، مما يجذِب الانتباهَ، ويَسترعي الفَهْم، ويَجلِب النَّظرَ، وهذا مما ينبغي على الناصح اتِّباعُه، أن يستهلَّ كلامَه بما يجعل المتلقِّيَ متشوِّقًا إليه.
4-لم يطل النبي ﷺ الوصية، بل كانت كلمات، فهي أرجى أن تستوعب ويعمل بها، خصوصًا من الصغار.
5-إذا كنت تهتم لنفسك فاحفظ الله يحفظك، قال بعض السَّلَف: "مَن اتَّقى الله، فقد حفِظ نفْسَه، ومَن ضيَّع تقواه، ضيَّع نفْسه، والله الغنيُّ عنه"[9]، حتى لو أردت أن تحفظ صحتك فاحفظ الله، وكان بَعْضُ الْعُلَمَاء قد جَاوَزَ الْمِائةَ سَنَةً، وهو مُمَتَّعٌ بقُوَّته وعقله، فأراد يومًا أن يعبر قناةً تعترض طريقه، فَوَثَبَ يومًا وَثْبَةً شديدة، فتعجَّب تلامذته من قوته على كبر سنِّه، فقال: هذه جوارحُ حفظناها عن المعاصي في الصِّغَرِ، فحفظها اللَّهُ علينا في الْكِبَرِ[10]
6-روي أن امرأة خرجت في سرية للجهاد مع المسلمين، وتركت ثنتي عشرة عَنزةً، وعصاها التي تنسج بها، فلمَّا رجعت فقدت عنزة وفقدت صيصية -وهي أداة كالصنارة أو عصا لها شوكة ينسجك بها الحائك-، فقالت: يا ربِّ، إنكَ قد ضمِنْتَ لِمَن خرج في سبيلكَ أن تحفَظ عليه، وإني قد فقدتُ عَنْزًا من غنمي وصِيصِيَتِي، وإني أَنْشُدُكَ عَنزي وصِيصِيَتِي، فكانت تناشد ربها تبارك وتعالى، فأصبحتْ عَنزُها ومِثلها، وصِيصِيتها ومثلها[11]
7-إذا أراد العبدُ أن يحفظه الله تعالى ويحفظ أهله وماله فليتقِ الله تعالى، قال ابْنُ الْمُنْكَدِرِ -رحمه الله-: "إِنَّ اللَّه ليحفظُ بِالرجل الصالح ولدَه، وولدَ ولدِه، وَالدُّوَيْرَاتِ التي حَوْلَه، فما يزالون في حفظ من اللَّه وسِتْرٍ"[12]. وقال سعيد بن المسيِّب -رحمه الله- لابنه: "إني لأَزيد في صلاتي من أجْلك؛ رجاءَ أن أُحفَظَ فيكَ،
﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾
8-صور سؤال المخلوقين المحرّمة تتجدد مع الأزمان، ومنه سؤال القوى الكونية، أو سؤال الوالدين في قبورهم ونحوها في كثير من الأفلام ورسوم الأطفال والدورات التدريبية ذات العلاقة بالكونيات، فتحرّز وانتبه إلى شرك يظهر بمسميات أخرى.
9-تجنب سؤال المخلوقين ما أمكن حتى في القليل، وعوَّد نفسك قضاء حاجتك بنفسك، فقد بايع رسول الله ﷺ قومًا على أشياء ومنها: «ولا تسألوا الناس شيئاً»، قال الراوي: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه [14]، وهذا وإن لم يكن محرمًا ولكنه "حملٌ منه على مكارم الأخلاق، والترفعُ عن تحمل منّة الخَلْق، وتعليمُ الصبر على مضض الحاجات، والاستغناءُ عن الناس، وعزَّةُ النفوس، ولمَّا أخذهم بذلك التزموه في جميع الأشياء وفي كل الأحوال، حتى فيما لا تلحق فيه منة؛ طردًا للباب، وحسمًا للذرائع"[15]
10-استعن بالله تعالى على مصالحك دينك ودنياك، من قيام لصلاةٍ، ومن تحسين خلق، وفي دراسة وطلب وظيفة، فليس أقوى من الاستعانة بالله تعالى، وقد أوصاك النبي ﷺ: «احرِصْ على ما ينفعُكَ، واستعِنْ بالله ولا تَعجِزْ» [16]، وأكثر من سؤال الله العون، فقد قال ﷺ لمعاذ بن جبل: «أوصيكَ يا معاذُ، لا تدعَنَّ في دُبر كلِّ صلاة تقول: اللهم أعنِّي على ذِكركَ وشُكركَ وحُسْن عبادتكَ»[17]
11-ما مقدار تعلقنا بالمخلوقين ومقدار تعلقنا بالله تعالى؟ قال وهب بن منبِّهٍ -رحمه الله- لرجُل كان يأتي الملوك: ويْحَكَ! تأتي مَن يُغلق عنك بابه، ويُظهر لك فقره، ويواري عنك غِنَاه، وتدع مَن يفتح لك بابه نصفَ الليل ونصفَ النهار، ويُظهر لك غِناه، ويقول: ادْعُني أستجبْ لك!؟[18]
12-احرص على تعلم هذا الحديث والعمل بما فيه، وعلِّم معانيه لأهلك ولولدك وللناس؛ كلٌّ بما يناسب لغته وعمره واستعداده، لما يشتمل عليه من الوصايا العظيمة، حتى قال بعض العلماء: تدبَّرتُ هذا الحديث، فأدهشني وكدتُ أَطيشُ، فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث، وقلَّة التفهُّم لمعناه! [19]
13-قال الشاعر:لا تسألَنَّ بُنَيَّ آدمَ حاجةً =وسَلِ الذي أبوابُه لا تُحْجَبُ اللهُ يَغضَبُ إن ترَكْتَ سؤالَه = وبُنَيُّ آدمَ حين يُسألُ يَغْضَبُ
المراجع
- انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 470).
- البخاري (6502)، عن أبي هريرة رض الله عنه.
- أبو داود (1479)، والترمذيُّ (3247)، والنسائيُّ في "السنن الكبرى" (3828)، وقال الترمذيُّ: حسن صحيح.
- انظر: "نور الاقتباس في وصيَّة النبيِّ (
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 484).
- مسلم (2653).
- "نور الاقتباس في وصيَّة النبيِّ لابن عبَّاس" لابن رجب (ص 54).
- انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 466).
- أحمدُ في "مسنده" (34/260)، (20664)، وصحَّحه الهيثميُّ في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (5/ 277).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 467).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 467).
- مسلم (1043).
- "المفهم" للقرطبي (3/ 86).
- مسلم (2664).
- أبو داود (1522)، والنسائيُّ (1303)، وصحَّحه النوويُّ في "خلاصة الأحكام" (1/ 468).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 481).