39 - عبادةُ اللهِ في الحبِّ والكُرهِ والولاءِ والبراءِ

عَن أَنَسٍ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ قال:«ثَلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حَلاوةَ الإِيمانِ:أَنْ يكونَ اللهُ ورَسُولُه أحَبَّ إلَيهِ ممَّا سِواهُما،وأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّه إلا للهِ، وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ»

فقه

هذا الحديث من أصول الإسلام، ومن جوامع أخباره ﷺ:

1. فأخبر أن الإنسان إذا تحقَّقت فيه ثلاثُ صفاتٍ وجد حلاوةَ الإيمان، أي طعمًا تشعر به نفسُه كما تشعر بحلاوةِ الطعام. وهذا كقوله ﷺ:

«ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا»

[1]

وهي مثل ما يجدُه المؤمنُ مِن انشراح صدره، وتنويره بمعرفة الله تعالى وعبادته، ومعرفة رسوله ﷺ واتباعه [2]، ومن استلذاذِ الطاعات، وتحمُّل المشاقِّ في رِضا الله عزَّ وجلَّ ورسوله ﷺ، وإيثارُ ذلك على عرَضِ الدنيا [3] و«الإيمان هو غذاء القلوب وقُوَّتها، كما أن الطعام والشراب غذاء الأبدان وقُوتها، وكما أن الجسد لا يجد حلاوةَ الطعام والشراب إلا عند صحَّته، فإذا سَقِم لم يجِدْ حلاوة ما ينفعه من ذلك؛ بل قد يستحلي ما يضرُّه، وما ليس فيه حلاوةٌ؛ لغلَبةِ السقم عليه، فكذلك القلبُ إنما لا يجدُ حلاوةَ الإيمان من أسقامه وآفاته، فإذا سَلِم من مرض الأهواء الْمُضِلَّة والشهوات المحرَّمة، وجَد حلاوةَ الإيمان حينئذٍ، ومتى مرِض وسَقِم لم يجِدْ حلاوةَ الإيمان؛ بل يستحلي ما فيه هلاكُه من الأهواء والمعاصي؛ لأنه لو كمَل إيمانُه لوَجَد حلاوةَ الإيمان، فاستغنى بها عن استحلاء المعاصي» [4]

2. وأول هذه الخصال هي: "أنْ يَكونَ اللهُ ورَسُولُه أحَبَّ إلَيهِ ممَّا سِواهُما"، والمرادُ بحُبِّ الله ورسوله ﷺ: شعورٌ يعرفه الإنسان في قلبه، ويورثه كثرةَ ذكرِ محبوبه، والشوق له، وفعل ما يحبه، وتجنب ما يكرهه، ولا تزال تزيد المحبة حتى يقدمه على كل حبٍّ سواه، بل يقتضي إيثارَ ما يريده محبوبه، وإن كان على خلافِ هوى النفْس.

وهذه المحبة يجب أن تكون مُقَدَّمةً في قلب كل مسلم على كل محبوب، وإلا تعرَّض العبدُ لغضب

الله تعالى وعقوبته:

﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾

[التوبة: 24]،

وقال ﷺ:

«لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»

[5]

3. وأما الخَصلةُ الثانيةُ: أن يكون اللهُ تعالى حاكمًا عليه في حبه، فيحب المرء لا لشيءٍ إلا لأن الله تعالى يحبه أو أمر بحبه، وفي الحديث: «إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللَّهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللَّهِ» [6] ، ولا يزال تسليمه لله تعالى حتى يكون الحاكمِ عليه في كل حب،

كما قال تعالى:

﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾

[الممتحنة: 4]

وفي الحديث:

«مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ»

[7]

4. وأما الخَصلة الثالثة فهي كراهية الدخول في الكُفر والمعاصي -سواء كان واقعًا فيهما سابقا أو لا-، فإن من آمنَ حقاً، وتعلَّق بحبِّ الله ورسوله ﷺ؛ كان تركه لنعيم الإيمان بالله جحيمًا يكرهه؛ كما يكره أن يلقى في النار [8]

القَدْر الواجب من كراهة الذنوب أن ينفِّر نفسه منها، ويتباعد عنها، ويعزم على ألَّا يقع فيها؛ لعلمه بسخط الله لها، فأما مَيْل الطبع إلى شيء من الذنوب دون استجلاب لمحبتها أو فعلها فلا يؤاخَذ به؛ وقد مدَح الله مَن نهى النفْس عن الهوى، فدلَّ أن الهوى قد يميل إلى ما هو ممنوع منه، لكن المؤمن ينهى نفسه عن ذلك [9].

وهذا الحديث أصلٌ في محبة الله، فالعبادة تجمع كمال الحب مع كمال الذل،  "وهذه المحبة لله عز وجل حقٌ؛ كما نطق بها الكتاب والسنة، والذي عليه سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والحديث: أن الله سبحانه محبوبٌ لذاته محبة حقيقية؛ بل هي أكمل محبة فإنها 

كما قال تعالى:

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ﴾

[البقرة: 165]،

وكذلك هو سبحانه يحبُّ عباده المؤمنين محبة حقيقية، وكل ما يحبونه سواه فإنما يحبونه لأجله" [10]

اتباع

1. ذهبت أمُّ سُلَيم بابنها أنس بن مالك إلى النبي ﷺ ليكون خادمًا له، وهو دليلٌ على عظيم محبتها لرسول الله ﷺ، إذ ولدها قُرَّة عينها، وهو حُرٌّ لا عبد، ولم يخدمه لأجل مال، فماذا قدمنا لدين رسول الله صلى الله ﷺ وأحاديثه وسنته؟

2. استعمل النبيُّ ﷺ في حديثه أساليب التشويق والإغراء وجذب الانتباه، فابتدأ الحديث بحصر الخصال في عددٍ معين، ليبقى المستمع منتبهًا لها حتى يحصيها، كما أتى بلفظ "حلاوة" ليحرص الإنسان على تحقيق الخصال لينال تلك اللذة. فعلى الدعاة والخطباء والوُعَّاظ أن يحرصوا على اتباع الأساليب الدعوية المُشَوِّقة.

3. كلما رأيت نفسك مقصرًا في العمل، فعمِّق في قلبك محبة الله تعالى ومحبة رسوله ﷺ،

فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ:

«وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟». قَالَ: لا شَيْءَ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﷺ، فَقَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ». قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ». قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ

[11]

4. كلما سمعت فعلَ محبٍّ مع محبوبه، فليكن منك أعظم من ذلك مع الله تعالى ومع رسوله ﷺ، وهي درجات فمنها محبةٌ تحمل على أداء الفرائض واجتناب النواهي، ومنها محبةٌ تَحمِل على أداء المندوبات، وتجنُّب الوقوع في الشبهات.

5. لنتعلّم ونعلَّم من حولنا كيف ننمي في قلبنا حب الله تعالى وحب رسوله ﷺ ، فمن طرق تحصيل محبة الله تعالى: معرفةُ أسمائِه وصفاتِه وكمال أفعاله سبحانه، وتأمل جميل صنعه، وتذكير النفس عظيم نعمه، وعظيم رحمته، مع عظيم الذنوب، ومثلُه يُقال في محبة رسول الله ﷺ، بمعرفته ﷺ، والوقوف على جميل خصاله، وعظيم جهاده ﷺ، وكونه سببًا في هدايتنا لطريق الله عزَّ وجلَّ، وغير ذلك وغير ذلك.وقد يسأل المؤمن نفسه: كيف أعلم أن محبة الله ورسوله أحب إليّ مما سواهما؟، فلينظر إذا تعارض هواه مع ما يحبه الله؟، كمن تعرض له وظيفة مرموقة في بنك ربوي، فيتركها لله تعالى.

وقد يسأل المؤمن نفسه: كيف أعلم أن محبة الله ورسوله أحب إليّ مما سواهما؟، فلينظر إذا تعارض هواه مع ما يحبه الله؟، كمن تعرض له وظيفة مرموقة في بنك ربوي، فيتركها لله تعالى.

6. الإنسان يستطيع أن يؤثِّر في نفسه لتحبَّ شيئًا أو تكرهه، فتفقَّد نفسك وجاهدها حتى تقدم حبَّ رسول الله ﷺ على كلِّ شيء، فقد أخذ النبيُّ ﷺ بيد عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ»، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الآنَ يَا عُمَرُ» [12]

7. إذا أحببت مسلمًا فليظهر آثار ذلك بحسب ما تيسر لكل أحد، كالمجالسة والتزاور والبذل، فإن «رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ -طريقه- مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا -تطلبها-؟ قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ، بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ» [13]

8. متى أحببتَ صاحبًا في الله فحافظ على أن تكون خالصةً لله تعالى، لأن من أحبَّ امرأً لغرض انقطعت محبته بانقطاعه أو اليأس منه [14]، وكمال الحب في الله: ألَّا يَزيدَ بالبِرِّ ولا يَنقُصَ بالجفاء [15]

9. عوَّد نفسَك استبشاع المعاصي، وكراهتها لكراهة ما تؤول إليه، واحذر أن تستحليَها في نفسك، أو تتخيلها بصور جميلة، فإن الخواطرَ مفتاح الإرادة، والإرادة مفتاح العمل.

10. قال الشاعر:

تَعصي الإِلَهَ وَأَنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ = هَذا مُحَالٌ في القِياسِ بَديعُ

لَو كانَ حُبُّكَ صادِقًا لَأَطَعتَهُ = إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطيعُ

في كُلِّ يَومٍ يَبْتَديكَ بِنِعمَةٍ = مِنهُ وَأَنتَ لِشُكرِ ذاكَ مُضِيعُ

11. قال أبو قيس الأنصاري رضي الله عنه يذكر قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في المدينة:

ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجّةً = يُذَكّرُ لَوْ يَلْقَى حَبِيبًا مُوَاتِيَا

فَلَمّا أَتَانَا وَاسْتَقَرّتْ بِهِ النّوَى = وَأَصْبَحَ مَسْرُورًا بِطَيْبَةَ رَاضِيَا

بَذَلْنَا لَهُ الْأَمْوَالَ مِنْ حِلّ مَالِنَا = وَأَنْفُسَنَا عِنْدَ الْوَغَى وَالتّآسِيَا

نُعَادِي الّذِي عَادَى مِنْ النّاسِ كُلّهِمْ = جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ الْحَبِيبَ الْمُصَافِيَا


المراجع

  1. مسلم (34)، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.
  2.  "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (1/ 210).
  3. ("المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنَّووي (2/ 13).
  4.  "فتح الباري لابن رجب" (1/ 50- 51)
  5. البخاريُّ (15)، ومسلم (44)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
  6. أحمد رقم (18524) عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
  7.  أبوداود رقم (4681)، عن أبي أمامة الباهلي.
  8.  "شرح رياض الصالحين" لابن عُثيمين (3/ 260).
  9.  "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب الحنبلي (1/ 58).
  10. "مجموع الفتاوى" لابن تيمية  (10/ 66).
  11.  البخاريُّ (3688)، و مسلم (2639).
  12.  البخاريُّ (6632)
  13. . مسلمٌ (2567).
  14. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبي (1/ 214).
  15.  انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجرٍ العسْقلاني (1/ 62).

مشاريع الأحاديث الكلية