عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ»[1].

فقهٌ: 

يخبر النبيُّ ﷺ أنَّ النَّاسَ توارثوا جيلًا عن جيلٍ من كلام النبوةِ المتقدمةِ مِمَّا لا يتغير ولا يُنسخ قولَهم: «إذا لم تستحي فاصنع ما شئت»، وهو أمرٌ قد عُلم صوابُه، واتَّفَقت العقول على حُسنه، وما كان هذا صفتَه، لم يَجُزْ عليه النَّسخ والتبديل"[1]. 

ومعنى تلك المقولة أنَّ الحياء هو الذي يمنع الإنسانَ عن كثيرٍ من القبائح، فمن لم يكن له حياءٌ لم يزجره شيءٌ عن الفحشاءِ والمنكر. 
والحياءُ خُلُقٌ حميدٌ يبعث في صاحبه الانقباضَ عن الشيءِ وتركَه حذرًا من اللوم فيه أو المَذَمَّةِ به، وهو رأسُ الفضائلِ والشِّيم والأخلاق، وهو عِمادُ شُعَب الإيمان، وبه يتمُّ الدين، وهو دليلُ الإيمان، ورائدُ الإنسان إلى الخير والهدى، وهو خُلُقٌ يَبعَث صاحبَه على اجتناب القَبِيح، ويَمنَعه من التقصير في حقِّ ذي الحقِّ. 

وأول الحياء وأوْلاه: الحياءُ من الله تعالى، وهو ألَّا يراك حيث نهاك، وذلك لا يكون إلا عن معرفة بالله تعالى كاملة، ومُراقبة له حاصلة، وهي المعبَّر عنها بقوله: «أن تعبُدَ اللهَ كأنك تراه؛ فإن لم تكُنْ تراه فإنه يراكَ»[2]. وهو ما أراده النبيُّ ﷺ بجعله من شُعَب الإيمان؛ حين

قال ﷺ: «اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ». قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ؛ وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ»[3].

ولهذا أخبر ﷺ أنَّ الحياءَ شُعْبَةٌ من الإيمان[4]، ومَرَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الحَيَاءِ، يَقُولُ: إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِي، حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ أَضَرَّ بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:

«دَعْهُ، فَإِنَّ الحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ»[5].

والحياءُ نوعان؛ أحدهما: غَريزيٌّ، وهو خُلُقٌ يمنحُه اللهُ سبحانه للعبدَ ويجبُلُه عليه، فيكُفُّه عن ارتكاب القبائح والرذائل، ويحثُّه على فعل الجميل، وهو من أعلى مواهب الله للعبد، فهذا من الإيمان باعتبار أنه يؤثِّر ما يؤثِّره الإيمان من فعل الجميل والكَفِّ عن القبيح، وربما ارتقى صاحبُه بعده إلى درجة الإيمان. 

والنوع الثاني: يكون مُكتَسَبًا، إما من مقام الإيمان؛ كحياء العبد من مقامه بين يدَيِ الله يوم القيامة، فيوجِب له ذلك الاستعدادَ للقائه، أو من مقام الإحسان؛ كحياء العبد من اطِّلاع الله عليه وقُربه منه؛ فهذا من أعلى خصال الإيمان[6].

اتباعٌ: 

1- الحياءُ خُلُقٌ جميلٌ، يهذب النفوس ويدعوها إلى التحلي بالأخلاق الحميدة، والبعد عن الفواحش والمعايب. فينبغي على كلِّ مسلمٍ أن يتعاهد حياءَه ويُنَمِّيه.

2- الحياءُ خُلُقٌ نَبَوِيٌّ؛ فقد كان ﷺ حَيِيًّا،

قال أبو سعيد الخدري:

«كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ»

[7]،

وقال ﷺ في حقِّ كليم اللهِ موسى ﷺ: «إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلاً حَيِيًّا سِتِّيرًا، لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ؛ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ»[8].

أفلا يجبُ أن نتشبَّه بأنبياءِ اللهِ تعالى؟!

3- مَن أراد دخول الجنة فليحرص على الحياء؛ فإنَّ من أعظم فضائل الحياء أنه يُفضي إلى جنةٍ عَرْضُها السماوات والأرض؛ قال النبيُّ ﷺ: «الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ، وَالإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ، وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ»[9].

4- الحياءُ زينةُ الأخلاقِ، فمَن تزيَّن به فهو المحمودُ عندَ اللهِ تعالى وعند الناس، ومَن نَزَع حياءَه كان مذمومًا عند اللهِ تعالى وعند النَّاس. قال النبيُّ ﷺ:

«مَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلَّا شَانَه»[10].

5- الحياءُ خُلُقٌ ربَّانيٌّ، يكفي الحَيِيَّ شرفًا أنَّه مُتَشَبِّهٌ بالحقِّ تبارك وتعالى في صفته؛ قال النبيُّ ﷺ:

«إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ، فَيَرُدَّهُمَا صِفْرًا – أَوْ قال: خَائِبَتَيْنِ»[11].

6- قال الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ رحمه الله: "خمسٌ من علاماتِ الشَّقاوة: القَسْوَةُ في القلب، وجُمودُ العَيْن، وقِلَّةُ الحياء، والرغبة في الدنيا، وطولُ الأمل"[12]. 

7- قال الشاعر:

إذا لم تَخْشَ عاقِبَةَ الليالي = وَلَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ ما تَشَاءُ

فَلا واللهِ ما في العَيْشِ خَيْرٌ = ولا الدُّنيا إذا ذَهَبَ الحَيَاءُ

يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ = وَيَبْقَى الْعُودُ ما بَقِيَ اللِّحَاءُ

8- وقال غيره:

إِذَا حُرِمَ الْمَرْءُ الحَيَاءَ فإنَّهُ = بِكُلِّ قَبِيحٍ كَانَ مَنْهُ جَدِيرُ

لَهُ قِحَةٌ في كُلِّ شَيْءٍ، وسِرُّهُ = مُبَاحٌ، وَخِدْنَاهُ خَنًا وغُرُورُ

يَرَى الشَّتْمَ مَدْحًا وَالدَّناءَةَ رِفْعَةً = وَللسَّمْعِ منه في العِظَات نُفُورُ

وَوَجْهُ الحَيَاءِ مُلْبَسٌ جِلْدَ رِقَّةٍ = بَغِيضٌ إليه ما يَشِينُ كَثِيرُ

لَهُ رَغْبَةٌ في أَمْرِه وَتَجرُّدٌ = حَلِيمٌ لَدَى جَهْلِ الجَهُولِ وَقُورُ

فَرَجِّ الفَتَى ما دَامَ يَحْيَا فإنَّه = إلى خَيْرِ حَالاتِ الْمُنِيبِ يَصِيرُ

المراجع

  1. "معالم السنن" للخطابيِّ (4/ 109، 110).
  2. رواه البخاريُّ (50)، ومسلم (8).
  3. رواه الترمذيُّ (2458).
  4. رواه البخاريُّ (9)، ومسلم (35).
  5. رواه البخاري (6118).
  6. انظر: "فتح الباري" لابن رجب (1/ 102).
  7. رواه البخاريُّ (3562)، ومسلم (67).
  8. رواه البخاري (3404).
  9. رواه أحمد (10512)، والترمذيُّ (2009)، وابن ماجه (4184).
  10. رواه الترمذيُّ (1974)، والبخاريُّ في الأدب المفرد (601).
  11. رواه ابن ماجه (3865).
  12. رواه البيهقيُّ في "شعب الإيمان" (10/182)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (48/416).


مشاريع الأحاديث الكلية