عن أبي هُرَيرة رضي الله عنه، قال: خطَبَنا رسولُ الله ﷺ، فقال: «أيُّها الناسُ، قد فرَضَ اللهُ عليكم الحجَّ؛ فحُجُّوا»، فقال رجُلٌ: أكلَّ عامٍ يا رسولَ الله؟ فسكَتَ حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله ﷺ: «لو قلتُ: نَعمْ، لوجَبتْ، ولَمَا استطعتم». ثم قال: «ذَروني ما تركتُكم؛ فإنما هلَك مَن كان قبلَكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتُكم بشيءٍ فأْتوا منه ما استطعتم، وإذا نَهيتكم عن شيء فدَعوه»

فقهٌ

1. خطَب النبيُّ ﷺ في أصحابه يومًا فأخبرهم أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد أمرهم بحجِّ بيته الحرام؛ تصديقًا لقوله عزَّ وجل: 

{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}

[آل عمران: 97].

فعليهم أن يستجيبوا لأمره ويؤدُّوا الفريضة. 

والحجُّ قصدُ بيت الله الحرام في أوقات معيَّنة لأداء شعائر مخصوصة بِنية التقرُّب إلى الله عز وجل [1].

2. فسأله أحدُ الصحابة رضوان الله عليهم – وهو الأقرَعُ بن حابِ - أيجِبُ الحجُّ كلَّ عامٍ يا رسول الله ﷺ؟ لأنَّه لم يَفهَم ما اقتضاه ذلك الأمرُ بالحجِّ؛ أيكون أمرًا بالأداء مرةً أم أمرًا بالتَّكرار؟

وإنما سكت النبيُّ ﷺ عن جواب الرجل مرتينِ زجرًا له عن مثل هذا السؤال؛ فإنَّ النبيَّ ﷺ بُعث ببيان الشريعة وتمامها، فلم يكُنْ ﷺ لِيَسكُت عن بيانِ ما تحتاج الأُمَّةُ إليه، فلو كان الحجُّ واجبًا على التَّكرار لَأخبَر بذلك ﷺ، فكان مثل هذا السؤال تقدُّمًا بين يدَي الله تعالى ورسوله ﷺ، وقد نهى اللهُ عزَّ وجلَّ عنه بقوله:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

[الحجرات: 1].

3. فلمَّا لم يَنزجِر الرجل بسكوته ﷺ في المرتين، أخبره ﷺ بأنه إنما امتنع عن الجواب شَفقةً ورأفةً بالمؤمنين؛ فلو أجابه النبيُّ ﷺ بالإيجاب لَوَجب على المسلمين أن يحجُّوا في كلِّ عامٍ، وفي ذلك من المشقة ما لا يُقدَر عليه.

4. ثم أرشد النبيُّ ﷺ أصحابَه إلى أنَّه لا يجوز لهم أن يُشدِّدوا في السؤال، ويُكثِروا من الاستفهام عمَّا يأتي مقيَّدًا أو مُجمَلًا؛ فإذا أُمِرْتم بأمرٍ فافعَلوا ما يقع عليه اسمُ ذلك الفعل؛ فإذا أُمِرتم بالصَّدقة أو الحجِّ أو غير ذلك، فيُجزِئكم ما تقع عليه التسمية، فأقل الصَّدقة تُجزِئ، والحجُّ مرةً واحدةً كافٍ، وذلك هو مَدلولُ اللفظ، وما زاد عليه من التَّكرار المحتمَل من اللفظ يُتغافَل عنه [2]. وفي ذلك بيانُ أنَّ الأصل في الأشياء الإباحة، وأنَّه لا حُكم إلا بوُرود الشرع، فما سكَت الشرعُ عنه فهو على أصله [3].

5. وعلَّلَ النبيُّ ﷺ ذلك بأنَّ هلاك الأمم السابقة كان في كثرة سؤالهم لأنبيائهم عمَّا لم يأتِ بيانُه؛ فإنَّه أولًا دليلٌ على عدم التصديق؛ فإنَّ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم مأمورون بإرشاد النَّاس إلى مصالح دُنياهم وآخرتهم، ولا يجوز لهم أن يَسكتوا عند الحاجة إلى البيان، فكان مِن واجب عموم النَّاسِ ألَّا يُعاجِلوهم بالسؤال، بل الواجب حُسنُ الإنصاتِ واغتنامُ ما سكتوا عنه.

ثم إنَّ ذلك أورثهم ثانيًا تشديدَ اللهِ سبحانه عليهم بتشديدهم على أنفسهم في السؤال، فثَقُلت التكاليفُ عليهم بذلك، فأهملوها، فأهلكهم الله تعالى. ولهذا نهى اللهُ سبحانه عن مثل هذا السؤال وحذَّر من عاقبتها بقوله جلَّ جلالُه:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}

[المائدة: 101، 102].

فمن ذلك أنَّ بعضَ بني إسرائيل سألوا نبيَّهم أن يجاهدوا في سبيل الله تعالى، فلمَّا فُرض ذلك عليهم تولَّوا وفرُّوا، وفيهم أنزل سبحانه:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}

[البقرة: 246].

ومنه أيضًا أن موسى ﷺ لمَّا أمر قومه بذَبْح بقرةٍ، ظلُّوا يتشدَّدون في بيان مواصفاتها فشدَّد الله سبحانه عليهم، ولو ذبَحوا أيَّ بقرةٍ من البداية لَأجْزَأتهم.

ولهذا نهى النبيُّ ﷺ أصحابَه عن السؤال؛

قال أنس بن مالك رضي الله عنه:

«نُهِينا أن نسألَ رسول الله ﷺ عن شيء، فكان يُعجبنا أن يجيء الرجُل من أهل الباديةِ العاقلُ، فيسأله، ونحن نسمع»

[4]

فإنما رخَّص لأهل البادية؛ لعدم علمهم، وعدم وصول أوامر الشرع إليهم، بخلاف أصحابه الملازمين له ﷺ.

وقال ﷺ:

«إن أعظم المسلمين في المسلمين جُرمًا: مَن سأل عن شيءٍ لم يُحرَّم على المسلمين، فحَرُمَ عليهم من أجْل مسألته»

[5].

6. ثم أرشد ﷺ إلى ما ينبغي على المسلم فعلُه، وهو أنَّه إذا أتاه الأمرُ أتى منه بالمستطاع؛ فهو مأمورٌ بالصلاة بهيئتها وأركانها وواجباتها وسُننها المعروفة، فإذا عجَز المسلمُ عن الإتيان بها كما ينبغي، أتى بها على ما يَستطيع؛ فإذا عجَز عن الصلاة قائمًا صلَّى قاعدًا أو على جَنْبٍ، وإذا عجَز عن غَسل جميع أعضائه أتى بالممكِن، وهكذا، تصديقًا لقوله تعالى:

{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}

[التغابن: 16].

وإذا جاءه النَّهيُ عن شيءٍ امتنع عنه تمامًا؛ إذ لا يكون الإنسانُ منتهيًا عن شيءٍ وهو يَقترِف بعض أجزائه، فإذا نُهي الإنسانُ عن شرب المسكرات مثلًا، فانتهى عن بعض أنواعها دون البعض لم يكُن منتهيًا حتى يمتنع عنها جميعًا. ولهذا قال سبحانه:

{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}

[الحشر: 7].

اتباع

  1. (1) استَعمل النبيُّ ﷺ أبسط الأساليب في بيان الأحكام الشرعية؛ حيث قال: «إن الله قد فرَض عليكم الحج». فعلى الفقيه والمُفتي أن يكون حريصًا على إيراد الحكم الشرعي في أوضح صوره، بحيث لا يكون قولُه مُلبِسًا أو غامضًا.

  2. (1) دلَّ الحديث على أنَّ الحجَّ فرضٌ من الفرائض التي كتبها اللهُ عزَّ وجلَّ على عبادِه، ويجب على المسلم المستطيع المبادرة إليه قبل أن يَشغَله عنه شاغلٌ أو يمنعه عنه مانع.

  3. (2) يجوز للعالِم والداعية والفقيه إذا سُئل عن شيءٍ أن يسكت عن الجواب زَجْرًا لصاحب السؤال عن الخَوض في مثله.

  4.  (2) إذا لم يَفهَم السائلُ أنَّ سكوت الفقيه أو المفتي لزجره، فينبغي على العالِم أن يبيِّن له الحكم الشرعي، وأن ينهاه عن مثل تلك الأسئلة.

  5.  (3) ينبغي على العبد أن يتأمَّل مَواضع شَفقته ورحمته ﷺ بأُمَّته، كيف أنَّه يخاف عليهم، ويَسكت عن الجواب خشيةَ أن تَثقُل عليهم التكاليف، ولا يخرج لصلاة القيام في رمضان لئلا تُفرَض على النَّاس، وينهى الصحابةَ عن السؤال فيما لا نصَّ فيه من أجْل ذلك. فإن العبد إذا تأمَّل ذلك أحبَّ النبيَّ ﷺ وارتفعت في قَلبه منزلتُه.

  6. (4) على الإنسان ألَّا يتكلَّف الخوضَ في المسكوت عنه، ويحاول أن يَجعل له حكمًا شرعيًّا، فما لا نصَّ فيه ولا عِلة يُقاس عليها، يُؤخَذ فيه بحُكم الأصل، وهو الإباحة.

  7. (4) النهيُ عن السؤال كان في زمانه ﷺ لئلا يُحرَّم شيء بسؤالهم، فيكون فيه مشقَّةٌ عليهم، أما الآن فلا يجوز للإنسان أن يفعل الشيء، ويَسكت عن السؤال عنه أحلالٌ هو أم حرامٌ؟ بل يَجِب عليه أن يتعلَّم العلم، فيَعرِف الحلال فيفعله، والحرام فيَجتنِبه [6].

  8. (4) السؤال المنهيُّ عنه الآن هو السؤال فيما لا طائلَ منه؛ أو السؤال الذي يَترتَّب عليه شَرٌّ ومفسدة، كالتقوُّل في أسماء الله وصفاته بغير عِلم، والسؤال عن كيفية صفاته وأفعاله [7].

  9. (5) يَحسُن بالداعية أن يبيِّن علة الأمر والنهي والحكمة منه إن تيسَّر معرفةُ ذلك؛ فهو أدعى للامتثال، وأرجى للقبول عند المدعوِّين.

  10. (6) دلَّ الحديثُ على أنَّ على العباد أن يَفعلوا المأمورات ما استطاعوا؛ فلا يُكلَّف الفقيرُ بالصَّدقة، ويجوز للمريض والمسافر الإفطار وقَضاء الصوم، وليس على غير المستطيع الحجُّ، بل الواجبُ أداءُ ما يَستطيعه المسلمُ في كل المأمورات.

  11. (6) ترك المعاصي أَولى من إتيان الفرائض، ألا ترى أنَّ المأمورات تتقيَّد بالاستطاعة، والمناهي يَتحتَّم على العبد الانتهاءُ عنها وعمَّا يُقَرِّب إليها؟!

  12. (6) الانتهاء عن المعاصي لا يتمُّ حتى ينتهي المسلمُ عن جميع ما تَشمله المعصية؛ فالنهي عن الشِّرك يقتضي النهيَ عن وسائله التي لا تُعَدُّ شِركًا في نفسها، كالحلِف بغير الله من غير اعتقادِ تعظيمِ المحلوف به، وقول: "ما شاء الله وفلانٌ" ونحو ذلك من ذَرائع الشِّرك وأبوابِه.



المراجع

1. انظر: "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (2/ 586)، "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (2/ 120).

2. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 447)، "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 130).

3. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 101)، "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 57).

4. رواه مسلم (12).

5. رواه البخاريُّ (7289)، ومسلم (2358). 

6. انظر: "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 315). 

7. انظر: "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 315).



مشاريع الأحاديث الكلية