عن عبدِ الله بنِ مُعاويةَ رضي الله عنه ، قال: قال النبيُّ :«ثلاثٌ مَن فعَلهنَّ فقد طَعِمَ طَعْمَ الإيمانِ:مَن عبَدَ اللهَ وحدَه، وأنه لا إلهَ إلا اللهُ،وأعطى زكاةَ ماله طيِّبةً بها نفْسُهُ، رافدةً عليه كلَّ عام،ولا يُعطي الهَرِمةَ، ولا الدَّرِنةَ، ولا المريضةَ، ولا الشَّرَطَ اللئيمةَ؛ولكنْ مِن وسَطِ أموالكم؛ فإنَّ اللهَ لم يَسألْكم خيرَه، ولم يأمُرْكم بشرِّه»

فقه:

1- يُخبِر النبيُّ ﷺ عن ثلاث عبادات من فعَلها فقد عرَف الإيمانَ وأصابه وتمكَّنَ منه. واستخدم الطَّعم مع أمرٍ معنويٍّ غير محسوس ولا مَطعومٍ تأكيدًا، وتشبيهًا بالطعام اللذيذ بجامعِ الالتذاذ ومَيل القلب إليهما.

وقد استعمل القرآنُ الكريمُ ذلك الأسلوب باستخدام لفظ الذَّوق مع العذاب والنَّكال،

كقوله عزَّ وجلَّ:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}

[النساء: 56]،

وأتى بها النبيُّ ﷺ في قوله: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا»[1]

وطَعمُ الإيمان الذي يَذوقه العبدُ هو تحمُّل المشاقِّ في رضا الله تعالى، والرضا بقَضائه وقدَره، وإيثار الآخرة على الدنيا، وانشراح صَدره بجميع ذلك.

2- الخَصْلة الأولى التوحيد، وهي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وتَشمل العبادةُ جميعَ ما يُحِبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة؛ كالمحبة، والرجاء والخوف، والدعاء والاستعانة، والذَّبح والنذر، والتقرب بأنواع النوافل والطاعات، فلا يجعل شيئًا من ذلك لغيرِ الله سبحانه.وهذه الخصلة التي أرسل اللهُ عزَّ وجلَّ بها جميع الأنبياء والمرسلين؛

قال تعالى:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}

[الأنبياء: 25]،

ولذلك فقد توعَّد مَن ترَك توحيده بالخلود في النَّار وإحباط العمل كائنًا من كان،

قال جل وعلا لنبيِّه ﷺ:

 {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}

[الزمر: 65، 66].

3- وثاني تلك الخصال أن يُخرج العبدُ زكاة ماله طائعًا مختارًا، تَطِيب نفسه بذلك وتُعِينه على أدائها كلَّ عامٍ.

وقد ذكَر الزكاةَ دون غيرها؛ لأنَّ المال تحبُّه النفوس وتَبخَل به، فإذا جادت به النَّفسُ مختارةً طائعةً كان ذلك علامةً على صحَّةِ إيمانها؛ إذ المنافقون هُم الذين ينفقون على مَضَضٍ وكَراهية،

قال سبحانه: 

{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}

[التوبة: 54].

4- والخصلة الأخيرة متعلِّقة بما قبلها، وهي أنَّ العبدَ إذا همَّ بإخراج زكاته، لم يَتَحرَّ أفسَدَ وأرْدَأ ما فيها ليخرجها؛ فإذا وجَبت زكاة مواشيه لم يَختَر الكبيرة المُسِنَّة الضعيفة، ولا الجَرْباء، ولا المريضة التي لا يجوز ذَبْحها وأكلها، ولا سائر ما يُستقبَح منها كالعَرْجاء والنَّحيفة والصغيرة جدًّا ونحو ذلك.

وليس معنى ذلك أنَّ المسلِم إذا كانت كلُّ ماشيته مريضةً لم يجزئه إخراج شيءٍ منها، بل المراد تحذيرُ مَن يَنتخِب أسوأَ ما عنده ليُخرِجها في الزكاة، تصديقًا لقوله

عزَّ وجلَّ:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}

[البقرة: 267].

فالمؤمنُ الحقُّ الذي يَجِد حلاوة الإيمان في نفسه يَمتثِل

قوله سبحانه:

{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}

[آل عمران: 92].

5- ثُمَّ بيَّن النبيُّ ﷺ أنَّ المطلوب في الزكاة إخراجُ أوسط المال، وهو المعتدِل بين النقيضينِ؛ فلا يُخرِج أفضلَ ما عنده ولا أسوأَه، وقد كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأنس بن مالك رضي الله عنه: «ولا يُخْرَجُ في الصدقة هَرِمةٌ، ولا ذاتُ عَوار، ولا تَيْسٌ، إلا ما شاء المُصَدِّق»[2]، أي: المُتصدِّق، وقال ﷺ لمُعاذ بن جَبل رضي الله عنه  حين أرسله إلى اليمن: «وتَوَقَّ كرائمَ أموال الناس»[3]، أي: اجتَنِبْها ولا تَختَرْها.

اتباع:

1- (1) يجب على الداعية والمُرَبِّي استخدام الألفاظ والأساليب التي تجذِب انتباه السامع وتبعَث فيه الإنصاتَ وحُسن الفَهم لِما يُقال؛ حيث استخدم النبيُّ ﷺ جملةً إجماليةً، أخبر فيها عن خصالٍ ثلاثٍ يتحصَّل لمن أدركها تمامُ الإيمان، ومثل هذا يَستدعي من المستمِع الإنصاتَ وعَدَّ تلك الخصال واحدةً واحدةً؛ حتى لا تُفلِت عنه خصلة منها.

2- (2) الخصلة الأولى هي أصل كلِّ الخصال المذكورة في هذا الحديث وغيرها؛ فإذا حقَّق الإنسانُ التوحيدَ الصحيح، طابت نفسُه وانشَرَحت للعبادة، وأيقن أنَّ ما عند الله خيرٌ وأبقى، فسَهُلت عليه التكاليف والمشقَّات في ذات الله تعالى.

3- (3) من علامات الإيمان التي يستطيع المسلم التحقُّق منها في نفسه أن ينظر في محبته للزكاة وإخراج الصدقات؛ فإنَّ المالَ تحبُّه النفوس، فإذا بذَله العبدُ طائعًا راضيًا مُحتسِبًا، كان ذلك أمارةً على صِدق إيمانه.

4- (4) كيف يَتصدَّق المؤمنُ بشيء قبيحٍ خَبيثٍ وهو يعلم أنَّه يقع في يدي الله عزَّ وجلَّ قبْل يَدِ الفقيرِ؟!

5- (5) كان السَّلفُ رضوان الله عليهم يحرِصون على الإنفاق من أفضل ما عندهم؛ فلمَّا سمع أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه  

قولَه تعالى:

{لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}

[آل عمران: 92]،

تصدَّق بأحب مالِه إليه، وهو بستانٌ له يُسمى "بَيْرُحاءَ" كان النبيُّ ﷺ يدخله ويشرب من مائه[4]، وكان الربيع بن خُثَيْم رحمه الله يُحبُّ السُّكَّر، فكان يتصدق به على النَّاس؛ امتثالًا

لقوله تعالى:

{لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}

[آل عمران: 92][5]

  • قال الشاعر:

يا مَنْ تَصَدَّقَ مالُ اللهِ تَبْذلُهُ = في أوجُـهِ الخير ِما لِلمال نُقصانُ

كَمْ ضاعَفَ اللهُ مالًا جادَ صاحِبُهُ = إنَّ السَّخاءَ بِحُـكْمِ اللهِ رضــوانُ

الشُّـحُّ يُـفْضي لِسُقمٍ لا دَواءَ لَهُ = مالُ البَخيل ِغَدا إرْثًا لِمَنْ عانوا

إنَّ التَّصَدُّقَ إسعادٌ لِمَنْ حُرِموا = أهلُ السَّخاءِ إذا ما احْتجْتَهُمْ بانوا

المراجع

  1.  رواه مسلم (34).
  2.  رواه البخاري (1455).
  3.  رواه البخاريُّ (1458)، ومسلم (19)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
  4.  رواه البخاري (1461)، ومسلم (998).
  5.  "الزهد" لأحمد بن حنبل (ص: 267).


مشاريع الأحاديث الكلية