عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: قال اللهُ - عزَّ وجلَّ -: «الكِبْرياءُ رِدائي، والعَظَمةُ إزاري، فمَن نازَعَني واحدًا منهما، قَذَفْتُه في النارِ».


فقه:

يخبر النبي ﷺ بهذا الحديث الذي أوحي إليه من الله تعالى أن: 

1- الكبرياء تدل على ترفع صاحبها على كل من سواه، وأن يرى لذاته فضلاً وشرفًا عليهم، وهي لا تكون إلا لله تعالى وحده، لأنه مستحق لها بصفاته، فهي مثل الرداء، والرداء للإنسان ثوبٌ يوضع كتفَيه يستر به أعلى جسده، ، فحقيقته أنه ستر وملكٌ خاصٌ بصاحبه، وحاجبٌ له بينه وبين غيره، فلا ينازع فيه. 

2- والعظمة يدل على معاني الكمال في الأسماء والصفات، وهذه لا تكون إلا لله تعالى، لأنه مستحق حقيقة بصفاته، وهي له مثل الإزار، والإزار للإنسان ثوبٌ يشدُّ في وسطه يستر أسفلَ جسده، فحقيقته أنه ستر وملكٌ خاصٌ بصاحبه، وحاجبٌ له بينه وبين غيره فلا ينازع فيه كذلك، فالعظمة صفة انفرد بها سبحانه لنفسه، فلا يحِقُّ لمخلوقٍ أن يشاركه فيها فيعتزَّ ويتعاظم على النَّاس.

والفرقُ بين الكبرياء والعظمة: أن المتكبِّرَ يستدعي متكبَّرًا عليه؛ ولذلك لَمَّا فسَّر ﷺ الكِبْرَ، قال: «الكِبْرُ: بَطَرُ الحَقِّ، وَغَمطُ النَّاسِ»[1]، أي احتقارُهُم، أما المعظِّمُ فيلاحِظ كمالَ نفْسه ولو مِن غير ترفُّعٍ لها على غيره، وهذا التعظيمُ هو المعبَّرُ عنه بالعُجْبِ[2]، ولهذا لمَّا كان الكبرياء أعلى من العظمة وأرفع، شبَّهه الله بالرداء، وشبَّه العظمة بالإزار، وهذا أعلى الثوب وذاك أدناه.

3- فمَن أراد أن يشاركه في تلك الصفات بأن تكبَّر وتعظَّم على الناس، قذَفه الله في النار، وعذبه فيها؛ إذ لا ينبغي لمخلوق أن يتَّصِف بتلك الصفات؛ لأن صفةَ المخلوق هي التواضعُ والتذلُّلُ[3]، وقد نهى اللهُ تعالى عبادَه عن التكبُّر في الأرض والإعجاب بالنفس، فقال جل جلاله:

{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}

[الإسراء: 37]

وأخبر أنَّه جعل النارَ عاقبة المتكبرين الباغين، فقال:

{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ}

[الزمر: 60]

اتباع: 

1- (1) (2) اعرض الحق بأوضح ما يكون وأجمل ما يكون، فانظر لما في الحديث القدسيِّ من استخدام التشبيهات والتصويرات البلاغية التي توضح المعاني وتقربها؛ فينبغي على الدعاة والوُعَّاظ والعلماء أن يستعملوا مثل تلك الأساليب.

2- (1) هل نراقب أنفسنا لنرى: هل نتكبر على غيرنا؟، وربما لو حاسب الإنسان نفسه لرأى أنه يتعاظم في نفسه ويتكبر على غيره، إما بسبب مال، أو منصب، أو علم، أو قوة، أو درجة اجتماعية، أو غيرها ، فيستصغر غريبًا، أو فقيرًا، أو شعبًا، أو غير ذلك.

3- (1) ليس من الكبرياء والعظمة أن يحرص الإنسانُ على حسنِ مظهره وتجمُّله؛ فعن عبدِ الله بنِ مسعودٍ ، عن النبيِّ ﷺ قال:

«لا يدخُلُ الجنَّةَ مَن كان في قلبه مِثقالُ ذرَّةٍ من كِبرٍ»، قال رجُلٌ: إن الرجُل يحبُّ أن يكونَ ثوبُه حَسَنًا ونعلُه حسنة؟ قال: «إن اللهَ جميلٌ يحب الجمالَ، الكبرُ بطَرُ الحقِّ، وغَمطُ الناس»[4]

فالكِبرُ المنهيُّ عنه هو دفعُ الحقِّ إنكارًا وترفُّعًا، واحتقارُ الناس. 

4- (1) ليكن تعظيم الله تعالى في قلوبنا وألسنتنا ومجالسنا، ولنمحُ به كبرياء النفوس، وقد جعل اللهُ تعالى التكبيرَ بقول: (الله أكبر) شعارًا للصَّلوات والأذان والأعياد، وكان مستحبًّا في الأمكنة العالية كالصَّفَا والمروة، وإذا علا الإنسان شرفًا أو ركب دابّةً ونحو ذلك، وقد جاء أنه يُطفَأ به الحريق وإن عَظُم، وعند الأذان يَهرُب الشّيطان[5].

5- (1) راجع نفسك في أي نقاش علمي أو اجتماعي، فالكبر من أكبر أسباب ردِّ الحق، وهو سببُ هلاك كثير من الأمم السابقة؛ باستكبارهم عن اتباع النبيِّ الذي أرسله اللهُ إليهم، قال تعالى عن قوم نوح:

{وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}

[نوح: 7]

وقال تعالى:

{وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ}

[العنكبوت: 39]

وقال سبحانه:

{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}

[فصلت: 15]

ولهذا قرن اللهُ الحديثَ عن استكبارهم ببيان هلاكهم؛ فعلى المسلمِ أن يجتهد في طرد الكبر والعُجب عن نفسه.

6- (2) تأمل ضعفك عن إدراك مصالحك، وعن القدرة على تحصيلها، وأن عامتها أسباب ليست بيديك، وأنك ترى الرأي اليوم وتستسخفه غدًا، وأنك ترى القدرة على الشيء فتحجزه عنه أتفقه الأسباب، وبه تعلم أنه إنما حرَّم اللهُ التكبُّرَ لأنَّه صفةُ للهِ تعالى؛ فليس لمخلوقٍ صفته النقص والتذلل أن يتكبر أو يتعاظم؛ ولهذا حرَّم الشرع اتِّصافَ الإنسان بهاتين الصفتين، وجعلهما من الكبائر؛ لأن مَن ظنَّ كمال نفْسه ونسِيَ مِنَّة الله تعالى فيما خصَّه به، كان جاهلًا بنفْسه وبربِّه، وهي صفة إبليس الحاملة له على قوله:

{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}

[الأعراف: 12]

وصفة فِرْعونَ الحاملةُ له على قوله:

{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}

[النازعات: 24]

فكان جزاؤهما أنهما أشدُّ أهل النار عذابًا[6].

7- (2) بعض صفات الله تعالى يحبُّ الله تعالى أن يتصف ويتحلى به عباده، كالرحمة والمغفرة والكرم ونحو ذلك، لأنها في أصلها كمال، فإذا طلبها الإنسان طلب الكمال، وبعض الصفات اختص الله تعالى بها، ونهى عباده أن يتصفوا بها كالكبرياء والعظمة، لأنها إنما تحسن حين يكون صاحبها كاملاً، فإذا ادعاها غير المستحق لها كان باطلًا.

8- (2) على الإنسان أن يحرص على البُعد عن الكبر والعظمة، وأن يكسر تطلّع نفسه لها كلما نال شيئًا من الدنيا؛ فإنهما من الصفات التي توجِب للعبد النَّار، قال سفيان بن عيينة -رحمه الله-: "مَن كانت معصيتُه في الشهوة فارجُ له التوبة، فإنَّ آدمَ - عليه السلام - عصى مُشْتَهيًا فغُفر له، فإذا كانت معصيتُه في كِبْر، فاخْشَ على صاحبه اللعنةَ؛ فإن إبليسَ عصى مُستكبرًا فلُعِن"[7].

9- (2) عالج كبر نفسك بتحذيرها من نقيض قصدها؛ فلما كان المتكبِّرُ يرى نفْسه كبيرًا، فإن الله يُعاقبه بنَقيض قصده من الذُّلِّ والصَّغار والحَقارة؛ يقول ﷺ:

«يُحشَر المتكبِّرون يوم القيامة أمثال الذَّرِّ في صور الرجال يَغشاهم الذلُّ من كل مكان»[8]

وقد يُعَجِّلُ اللهُ تعالى له العقابَ في الدنيا قبل الآخرة، كما حدَث مع قارون حين خَسَف الله به الأرض، ومع فرعون حين أغرقه سبحانه. وعن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال:

«بينما رجُل يتبختَرُ، يمشي في بُردَيْه قد أعجبته نفْسُه، فخسفَ اللهُ به الأرض، فهو يَتجَلْجَلُ فيها إلى يوم القيامة»[9]

10- (2) رأى مُطَرِّفُ بن عبد الله بن الشِّخِّير رحمه الله يزيدَ بن المهلبِ بنِ أبي صفرة يتبخترُ في مشيته لابسًا ثوبًا يجرُّه، فقال مُطَرِّفٌ: يا عبد الله، هذه مشية يبغضها اللهُ ورسولُه. قال يزيدُ: ألا تعرفني؟! قال: أعرفك. أوَّلُك نطفةٌ مَذِرَةٌ، وآخرك جيفةٌ قذرةٌ، وأنت بين ذلك تحمل العَذِرَة. فاعتدل وترك مِشيته[10].

11- قال الشاعر: 

كم جاهلٍ متواضعٍ = سَتَرَ التواضُعُ جَهْلَهُ

ومميَّزٍ في عِلْمِه = هَدَم التَّكَبُّرُ فَضْلَهُ

فَدَعِ التكبُّرَ ما حَيِيـ = ـتَ ولا تُصاحِبْ أهلَهُ

فالْكِبْرُ عَيْبٌ للفتى = أَبَدًا يُقبِّحُ فِعْلَهُ

12- وقال غيره:

يا صَاحِ إن الكِبْرَ خُلْقٌ سَيِّئٌ = هَيْهَاتَ يُوجَدُ في سوى الجُهَلاءِ

والعُجْبُ داءٌ لا يُنالُ دَوَاؤه = حتى يُنَالَ الخُلْدُ في الدُّنْيَاءِ

فَاخْفِضْ جَنَاحَكَ للأنامِ تَفُزْ بِهِمْ = إنَّ التواضُعَ شِيمَةُ الحُكَماءِ

لَوْ أُعْجِبَ القَمَرُ الْمُنِيرُ بنَفْسِهِ = لرأيتَهُ يَهْوِي إلى الغَبْرَاءِ

المراجع

  1. رواه مسلم (91)
  2. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/286).
  3. انظر: "معالم السنن" للخطابيِّ (4/196).
  4. رواه مسلم (91).
  5. "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (10/ 196).
  6. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/287).
  7. "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" للمزِّيِّ (11/ 191).
  8. رواه الترمذيُّ (2492).
  9. رواه البخاريُّ (5789)، ومسلم (2088) واللفظ له.
  10. "وفيات الأعيان" لابن خلكان (6/ 284)، " سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 505).


مشاريع الأحاديث الكلية