عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّﷺ قال:«مَن صلَّى صلاةً لم يَقرَأْ فيها بأُمِّ القُرآنِ فهي خِدَاجٌ – ثلاثًا - غيرُ تَمامٍ»،فقيلَ لأبي هُرَيْرةَ: إنَّا نكونُ وراءَ الإمامِ؟ فقال: اقرَأْ بها في نَفْسِكَ؛فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «قال اللهُ تعالى: قَسَمْتُ الصلاةَ بَيْني وبينَ عَبْدي نِصفَيْنِ، ولعَبْدي ما سألَ،فإذا قال العبدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، قال الله تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3]، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، قال: مجَّدني عبدي،فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعَبْدي ما سَألَ،فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7]، قال: هذا لِعَبْدي، ولِعَبْدي ما سَألَ»


فقه

1- يَذكر النبيُّ ﷺ أنَّ مَن صلَّى صلاةً لم يقرأ فيها الفاتحة فهي ناقصةٌ غيرُ تامَّة.وهذا النُّقصانُ من نُقصان الصِّحة الذي يؤثر على قَبول العمل؛

لقوله ﷺ: 

«لا صلاةَ لِمَنْ لم يَقرأْ بفاتحة الكتاب»

[1]


وسُمِّيت الفاتحة بأمِّ القرآن لأنَّها أصلُه، ومعاني سُوَر القرآن جميعًا -من الثناء على الله والتعبُّد له والترغيب والترهيب وقصص السابقين- راجعةٌ إليها، كما أنَّ مَكَّةَ أمُّ القرى لأنَّها أصلُها [2]

2- فسُئل أبو هريرة رضي الله عنه راوي الحديث عن قِراءتها للمأموم في جماعةٍ، فأخبره أنَّ عليه أن يَقرأها في سِرِّه. وهذا القولُ وإن كان موقوفًا على أبي هريرة رضي الله عنه  إلا أنَّه في حُكم المرفوع؛ فعن عُبادةَ بنِ الصامت رضي الله عنه ، قال: كنا خلْفَ رسول الله ﷺ في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله ﷺ، فثَقُلَت عليه القراءة، فلما فرَغ قال: «لعلكم تَقْرؤون خلْفَ إمامكم؟» قلنا: نعمْ، هَذًّا يا رسول الله، قال: «لا تَفعلوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاةَ لِمَن لم يقرأْ بها» [3]

3- ثُمَّ علَّل أبو هريرة رضي الله عنه  سببَ قوله ذاك؛ وهو أنَّ الله تعالى أخبر في الحديث القدسي أنَّه قَسَم القراءة بينه وبين عبدِه نِصفَين.

والمراد من القِسمةِ قِسمةُ المعاني، وهو أنَّ اللهَ سبحانه يُقابِل اللفظ بما يساويه؛

فإذا قال العبدُ:

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

[الفاتحة: 2]،

قال الله تعالى: حَمِدني عبدي.

وقد يكون المرادُ من التَّنصيفِ أنَّ السورة نِصفها تعبُّدٌ وثناءٌ وتمجيدٌ لله تعالى، ونِصفُها الآخرُ طلبٌ ودعاءٌ، وقد وعَد اللهُ سبحانه باستجابته، وموضع التنصيفِ

قولُه تعالى:

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}

[الفاتحة: 5]؛

فالجملةُ الأولى مع ما قبلها ثناءٌ ومدحٌ وتمجيدٌ وتعبُّدٌ لله تعالى، والجملةُ الأخرى وما بعدها استعانةٌ بالله وطلبُ الهدايةِ منه[4]

والتعبير بالصلاة عن قِراءة الفاتحةِ من تَسمية الشيء بأهمِّ أجزائه،

كقوله تعالى:

{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}

[الإسراء: 110]

 فالمعنى: "ولا تَجهَرْ بقراءتك"[5]

4- ثم أخبَر ﷺ أنَّ العبد إذا

قال:

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

[الفاتحة: 2]

يقولُ الله تبارك وتعالى: «حَمِدني عبدي»،

وإذا قال العبدُ:

{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

[الفاتحة: 3]

والحمد والثَّناءُ والتمجيدُ ألفاظٌ متقارِبة، تتَّفِق جميعها في أنَّها للمدح وذِكر المحاسن؛ إلَّا أنَّ الحمد لا يختصُّ بفعلٍ؛ ولهذا

قال سبحانه:

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

[الفاتحة: 2]

 فنَحمَده لأنه الله رب العالمين، أمَّا الثناء فهو ذِكر صفات الممدوح التي تَستحقُّ الثَّناء، ولهذا ذكرها اللهُ تعالى عند قول العبد: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}؛ حيث إنَّه لمَّا ذكَر صفة الرحمة قابَلها بالثَّناء، ولمَّا تحدَّث عن اليوم الآخر وأنَّه سبحانه مالِكُه والمتصرِّف فيه، ناسَب ذلك الإخبارُ بالتمجيدِ الذي فيه بيانُ العُلُوِّ والعظَمة[6]

5- فإذا قال العبدُ:

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}

[الفاتحة: 5]،

قال سبحانه: «هذه بيني وبين عبدي، ولِعَبْدي ما سأل»؛ حيث تضمَّنت الآية التَّذَلُّلَ لله تعالى والافتقارَ إليه، وإخلاصَ العبادة له وحده، وطلبَ الاستعانة به، والعبادةُ اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبُّه الله ويَرْضاه من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة، وذلك يَتضمَّن تعظيم الله عزَّ وجلَّ وبيان قُدرته على تحقيق سُؤْلِه [7]

6- وإذا قال العبدُ:

{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}

[الفاتحة: 6، 7]

 قال الله تعالى: «هذا لِعَبْدي، ولِعَبْدي ما سَألَ» أي: يَستجيب دُعاءه ويعطيه ما يتمنَّى.والمغضوب عليهم: اليهود؛ غَضِب اللهُ تعالى عليهم حين علِموا الحقَّ وخالفوه وحادُوا عنه، والضالُّون: النصارى؛ حيث تخبَّطوا عن جهالةٍ وابتداعٍ في الدِّين بغير علم[8]


اتباع

1- (1) الفاتحةُ أمُّ القرآن، وهي أصلُه، وجميع معاني السُّور راجعةٌ إليه. فالكَيِّسُ مَن عرَف معانيها، واستنبَط أحكامَها، وتبيَّن أسرارَ تفضيلها واختصاصها.

2- (1) يمكن أن نَستخرجَ من هذه السورة علومَ الدُّنيا والآخرة كلها؛ وذلك أنه يُقال: في هذه السورة عِلم الحمد، وعِلم الألوهية، وعِلم الربوبية، وعِلم العالمين، وعِلم الرحمة، وعِلم المُلك، وعِلم الدِّين، وعِلم العبادة، وعِلم الاستعانة، وعِلم الهداية، وعِلم الصراط، وعِلم الاستقامة، وعِلم النعمة، وعِلم ما يُجتَنَب من الغضب، وعِلم ما يُجتَنب من الضلالة [9] 

3- (1) دلَّ الحديث على وُجوب قراءة الفاتحة في كلِّ ركعةٍ في الصلاة؛ فلا يجوز لمسلمٍ أن يُصَلِّي بغيرها.

4- (1) كرَّر النبيُّ ﷺ قوله: «فهي خِدَاجٌ» ثلاثًا ليُفهَم عنه ويُحفظ، وليؤكِّد على السَّامع حُكم ذلك. والتَّكرار أسلوبٌ نبويٌّ أكثر النبيُّ ﷺ من استخدامه، وحَرِيٌّ بالداعية والمعلم والمُرَبِّي أن يَلتفِت إليه ويُكثِر استخدامه.

5- (2) سأل الناسُ أبا هُرَيرة رضي الله عنه  عن حُكم قراءة الفاتحة للمأموم؛ إذ يُمكِن أن يكون لها حكمها المنفصِل، ولهذا لم يُنكِر عليهم أبو هُرَيرة رضي الله عنه سؤالهم؛ فلا يَسْتحي مسلمٌ أن يسأل عمَّا لا يَعلمه، وعلى الفقيه والداعية ألَّا يَضِيق ذَرعًا بأسئلة السائل وإنْ كانت مُكرَّرَةً أو مُتَضَمَّنَةً في كلامه.

6- (3) سمَّى اللهُ سبحانَه الفاتحةَ صلاةً لأنها أهمُّ أجزائها؛ فلا يَنبغي لمسلمٍ أن يَغفُل عن ذلك الجزء الأهمِّ بحيث يَقرؤه على عَجَلٍ دون تأمُّلٍ وتدبُّر.

7- (3) أثناء قِراءة سورة الفاتحة في الصلاة تأمَّل المحاوَرة والمناجاة بين الإنسان وبين ربِّه عز وجل؛ فالواجب علينا أن تكون قلوبنا حاضرةً في حال الصلاة؛ حتى تبرأ ذِمَّتنا، وحتى ننتفِع بها؛ لأن الفوائد المترتِّبة علي الصلاة إنما تكون علي الصلاة الخاشعة الكاملة [10]

8- (4) يباهي اللهُ سبحانه وتعالى بعباده المؤمنين ويَفرُح بهم؛ فإذا قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يقول سبحانه: حَمِدني عبدي، مُباهيًا فرحًا، فأيُّ عملٍ أعظم وأرجى نفعًا وثوابًا مِن عملٍ يَفرَحُ به اللهَ تعالى.

9- (5) يَجدُر بالمسلم أن يتأمَّل قوله جلَّ جلالُه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}؛ فقد قيل: إنها تَجمع سرَّ الكتب المنزَّلة من السماء كلِّها؛ لأن الخلق إنما خُلقوا ليَعبُدوا الله تعالى؛

كما قال جل وعلا:

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}

[الذاريات: 56]،

والعبادة حقُّ الله على عباده، ولا قُدرةَ للعِباد عليها بدون إعانة الله لهم؛ فلذلك كانت هذه الكلمة بين الله وبين عَبْده؛ لأن العبادة حقُّ الله على عبده، والإعانة من الله فضلٌ من الله على عبده [11]

10- (6) أمر اللهُ سبحانه عبادَه أن يطلبوا منه أن يَهديهم الصِّراط المستقيم الذي عليه الأنبياء والصِّدِّيقين والشهداء، فمَن استقام على هذا الصراط، حصل له سعادة الدنيا والآخرة، واستقام سَيره على الصراط يوم القيامة، ومَن خرج عنه فهو إما مغضوب عليه، وهو مَن يعرِف طريق الهدى ولا يتَّبِعه كاليهود، أو ضالٌّ عن طريق الهدى؛ كالنصارى، ونحوِهم من المشركِين [12]

11- (6) أرشد الله تعالى عبادَه أن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم، وأن يُجَنِّبَهم طريق اليهود والنصارى، وذلك يقتضي أن نصرِف أنفسَنَا عن اتباعهم وتقليدهم، بل نخالفُهم ما استطعنا سبيلًا.

12- (6) إذا ختَم القارئ في الصلاة قراءةَ الفاتحة، أجاب اللهُ تعالى دعاءه فقال: «هذا لِعَبْدي ولِعَبْدي ما سأل»، وحينئذٍ تؤمِّن الملائكة على دعاء المصلِّي، فيُشرَع للمصلِّين موافقتهم في التأمين معهم؛ فالتأمينُ مما يُستجابُ به الدعاء [13]

قال الشاعر:

تُصَلِّي بلا قَلْبٍ صَلاةً بِمِثْلِهَا = يَكُونُ الفَتَى مُسْتَوْجِبًا لِلْعُقُوْبَةِ

فوَيْلَكَ تَدْرِي مَن تُناجِيهِ مُعْرِضًا = وبَيْنَ يَدَيْ مَنْ تَنْحَنِي غَيْرَ مُخْبِتِ

تُخَاطِبُهُ إيَّاكَ نَعْبُدُ مُقْبِلًا = عَلَى غَيْرِهِ فيهَا لِغَيْرِ ضَرُورَةِ

ولو رَدَّ مَن نَاجَاكَ لِلغَيْرِ طَرْفَهُ = تَمَيَّزْتَ مِن غيظٍ عليهِ وَغَيْرَةِ

المراجع

  1.  رواه البخاريُّ (756)، ومسلم (394).
  2.  انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 272)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (2/ 25)، "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنَّة" للبيضاويِّ (1/ 286).
  3.  رواه أبو داود (823)، والترمذيُّ (311).
  4.  انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (1/204)، "المسالك في شرح موطَّأ مالك" لابن العربيِّ (2/ 375).
  5.  انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (1/ 203)، "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتي (1/ 239).
  6.  انظر: "المسالك في شرح موطأ مالك" لابن العربي (2/ 376)، "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 104).
  7.  انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (2/ 27)، "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (10/ 149).
  8.  انظر: "تفسير ابن كثير" (1/140).
  9.  "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (8/ 157).
  10.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 355).
  11.  "فتح الباري" لابن رجب (7/ 102، 103).
  12.  "فتح الباري" لابن رجب (7/ 102، 103)
  13.  "فتح الباري" لابن رجب (7/ 102، 103).

مشاريع الأحاديث الكلية