126 - من فَضائلِ الأعمالِ، الجزء: 2

عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَآنِ - أَوْ تَمْلَأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا»

عناصر الشرح

غريب الحديث

الطُّهُورُ: بضمِّ الطاء بمعنى التطهُّر؛ أي: التنظُّف والتنزُّه [1]، وبالفتح اسمٌ للماء الذي يُتطَهَّر به [2].

شَطْرُ: نصف [3].

الْمِيزانَ: هو الميزانُ الذي توزَن به أعمالُ العباد يومَ القيامة [4].

يَغْدُو: الغُدُوُّ هو السَّيْرُ أوَّلَ النهار [5].

المراجع

  1. انظر: "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 739).
  2. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 147).
  3. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 473).
  4. انظر: "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (1/ 148).
  5. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 346).


المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه عن رَسُول اللهِ أنه قال: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ»؛ أي: التطهُّرُ نصفُ الإيمان. «وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ»: معناه أن أجرَها العظيم يَمْلَأُ الْمِيزَانَ الذي توزَن به أعمالُ العباد يومَ القيامة. «وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَآنِ -أَوْ تَمْلَأُ- مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»؛ أي: إن الثواب على الذِّكر: «سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ» كثيرٌ جدًّا، بحيث لو كان أجسامًا لَمَلأ ما بين السموات والأرض. «وَالصَّلَاةُ نُورٌ»؛ أي: إن الصلاة إذا أدَّاها العبدُ بشُروطها، أنارت قلبَه بأنوار الحكمة والمعرفة، فيزداد بها تعلُّقًا حتى تَصير قُرَّةُ عينه في الصلاة. «وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ»؛ أي: الصدقة دليلٌ على صحَّة إيمان المتصدِّق. «وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ»؛ يعني أن الصبر يُضيء للإنسان عند الظلمات، واشتداد الكُرُبات، فإذا صبر، فإن هذا الصبر يكون له ضياءً يهديه إلى الحقِّ. «وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»؛ أي: إن القرآن حجَّةٌ للعبد إن قرأه وعمِل به، أو حجةٌ عليه إن أعرضَ عنه، وتركَ العملَ بمعانيه. «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» معناه: كُلُّ إنسان يسعى بنفسه، فمنهم من يَبِيعُها لِلَّه تعالى بطاعته فيُحرِّرها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشيطان والهوى باتِّباعهما فيُهْلِكها.

الشرح المفصَّل للحديث

لم يَترُكِ النبيُّ ﷺ بابًا من أبواب الخير إلا ودلَّ أمَّته عليه، ورغَّبها فيه، ولم يَترُك بابًا من أبواب الشرِّ إلا وحذَّر منه. وهذا حديثٌ عظيمٌ من جوامع كَلِمه ﷺ، جَمَع فيه بعض ما يُهِمُّ المسلمَ من أمر دنياه وآخرته.

يقول ﷺ:

«الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ»، والطُّهورُ بضمِّ الطاء هو فعلُ الطهارة، والمراد به: "التطهُّر بالماء من الأحداث"

[1]،

واختلف العلماءُ في معنى قول النبيِّ ﷺ: «الطُّهورُ شَطرُ الإيمان»، فقيل معناه: أن الأجر فيه ينتهي تضعيفُه إلى نصف أجر الإيمان، ولعلَّ ذلك راجعٌ لكَون الإيمانِ نظافةَ الباطن، والطهارةِ نظافةَ الظاهر، وقيل معناه: أن الإيمان يجُبُّ ما قبلَه من الخطايا، وكذلك الوضوء؛ لأن الوضوء لا يصحُّ إلا مع الإيمان، فصار لتوقُّفه على الإيمان في معنى الشطر، وقيل: المراد بالإيمان هنا الصلاة؛

كما قال الله تعالى:

﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾

[البقرة: 143]

والطهارةُ شرطٌ في صحَّة الصلاة، فصارت كالشَّطْرِ، وليس يَلزَم في الشطر أن يكون نصفًا حقيقيًّا، وهذا القولُ أقربُ الأقوال. ويُحتمَل أن يكون معناه: أن الإيمان تصديقٌ بالقلب، وانقيادٌ بالظاهر، وهما شطرانِ للإيمان، والطهارة متضمِّنةٌ الصلاةَ، فهي انقيادٌ في الظاهر، والله أعلم[2].

والطهارة من أجَلِّ العبادات، وأعظم القُرُبات التي يتقرَّب بها العبدُ إلى خالقه سبحانه، وعليها تتوقَّف صحةُ كثيرٍ من العبادات، وهي سبب لمحبَّة اللهِ - عزَّ وجلَّ -

قال تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾

[البقرة: 222].

وقوله ﷺ: «وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ»، فيه إشارةٌ إلى عِظَم أجْر الحمد، والحمدُ هو: "الثناءُ على الله بالجميل الاختياريِّ، والإذعان له" [3]، والمراد بالميزان هو حقيقتُه، وهو: ما يوزَن به أعمالُ العباد يومَ القيامة [4]، والمراد: "قيل: إنه ضربُ مَثَل، وإن المعنى: لو كان الحمدُ جِسمًا لَمَلَأ الميزان. وقيل: بل اللهُ - عزَّ وجلَّ - يمثِّل أعمال بني آدمَ وأقوالَهم صورًا تُرى يوم القيامة وتوزَن" [5]، وقد أَمَرنا اللهُ - عزَّ وجلَّ - بحمده في غير موضعٍ من كتابه العزيز؛

قال تعالى:

﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ ۗ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾

[النمل: 59].

ثم يقول ﷺ:

«وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَآنِ - أَوْ تَمْلَأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»

"والتسبيحُ هو تنزيهُ الله عن النقائص والعيوب والآفات" [6]، فمعنى قول القائل: سبحانَ الله؛ أي: أُنزِّه الله - عزَّ وجلَّ - عن كل نَقْصٍ وعَيب. وأما التحميدُ فكما سبق: هو الثناءُ على الله - عزَّ وجلَّ - بكلِّ جَميل. وقوله: «تَمْلَآنِ - أَوْ تَمْلَأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»، "فشكَّ الراوي في الذي يملأ ما بين السماء والأرض: هل هو الكلمتان أو إحداهما؟ وهل المراد أنهما معًا يملآن ما بين السماء والأرض، أو أن كلًّا منهما يملأ ذلك؟ هذا محتَمَل" [7].

"وأما معناه، فيَحتمِل أن يُقال: لو قُدِّر ثوابُهما جِسمًا لملأ ما بين السموات والأرض، وسببُ عِظَم فضلهما ما اشتملتا عليه من التنزيه لله تعالى بقوله: سبحان الله، والتفويضِ والافتقار إلى الله تعالى بقوله: الحمدُ لله" [8]، فلعِظَم معنى هاتين الكلمتين؛ استحقَّتا هذا الفضلَ العظيم من الله - عزَّ وجلَّ - "فإذا حَمِد اللهَ حامدٌ مُستحضِرًا معنى الحمد في قلبه، امتلأ ميزانه من الحسنات، فإن أضاف إلى ذلك: سبحانَ الله، الذي معناه تَبْرئةُ الله، وتَنزيهه عن كلِّ ما لا يَليق به من النقائص، ملأت حسناتُه وثوابها زيادةً على ذلك ما بين السموات والأرض؛ إذ الميزانُ مملوءٌ بثواب التحميد، وذكر السموات والأرض على جهة الإغياء على العادة العربية، والمراد: أن الثواب على ذلك كثيرٌ جدًّا، بحيث لو كان أجسامًا لَمَلأ ما بين السموات والأرض" [9].

ثم يقول ﷺ: «وَالصَّلَاةُ نُورٌ»؛ أي: إن الصلاة إذا أدَّاها العبدُ بشُروطها، أنارت قلبَه بأنوار الحكمة والمعرفة، فيزداد بها تعلُّقًا حتى تَصير قُرَّةُ عينه في الصلاة؛

كما قال ﷺ:

«وجُعل قُرَّةُ عيني في الصلاة»

[10].

وأيضًا: فإن الصلاة تنوِّر بين يدي العبد الظُّلُماتِ يومَ القيامة. وأيضًا: تُنوِّر الصلاةُ وجهَ العبد يوم القيامة، فيكون ذا غُرَّة وتحجيل؛

كما قال ﷺ:

«إن أمتي يُدْعَوْن يومَ القيامة غُرًّا محجَّلين من آثار الوضوء، فمَن استطاع منكم أن يُطيل غُرَّته فلْيَفْعَل»

[11].

"الصلاة نفْسُها تُضيء لصاحبها في ظُلُمات الموقف بين يديه، ولم يجئْ في فعلٍ متعبَّد به أنه نور في نفْسه سوى الصلاة، فالظاهرُ أن هذا النورَ خاصٌّ بها. وقيل: النور أجرُها لا هي. وقيل: نورٌ ظاهرٌ على وجه المؤمن يوم القيامة، فالمراد بها: أي بسببها يعلو النورُ وجهَ المؤمن، فالإسنادُ مجازيٌّ من الإسناد للسبب. وقيل: النور معنويٌّ لأنها تَنهى عن الفحشاء والمنكَر، وتَهدي إلى الصواب، فتصدُّ عن الْمَهالك، وتوصِّل إلى طريق السلامة كما يُستضاء بالنور. وقيل: نورُ القلب بسببها لاشتمالها على ما لم يجتمع في غيرها من أعمال القلوب والألسُن والجوارح فرضًا ونَفْلًا، فالصلاة الكاملة يَحصُل بها من النور الإلهيِّ في القلب ما لا يُعبَّر عنه. قيل: ويمكِن حملُ النور على جميع ما تقدَّم"[12].

ثم يقول ﷺ: «وَالصَّدَقةُ بُرْهَانٌ»، والبرهانُ هو الحُجَّة والدليل، والمعنى: أن الصدقةَ دليلٌ على صحَّة إيمان المتصدِّق. أو دليلٌ على أنه ليس من المنافقين الذين يَلمِزون المطوِّعين من المؤمنين في الصدقات، أو على صحَّة محبَّة المتصدِّق لله تعالى، ولما لدَيْهِ من الثواب؛ إذ قد آثَرَ محبَّةَ الله تعالى وابتغاء ثوابه، على ما جُبِل عليه من حبِّ الذهب والفضة؛ حتى أخرجه لله تعالى [13]، وقيل: برهان له يومَ القيامة إذا سُئل عن ماله فيمَ أنفقَه؟ [14].

وقوله ﷺ: «وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ»؛ أي: "الصبرُ على طاعة الله، وعلى اجتناب معصيته، وعلى النائبات والمكاره؛ أي: لا يَزال صاحبه مستضيئًا مهتديًا مستمِرًّا على الصواب" [15].

"قال إبراهيمُ الخواص: الصبر هو الثباتُ على الكتاب والسُّنة. وقال ابن عطاء: الصبر الوقوف مع البلاء بحُسن الأدب. وقال الأستاذ أبو علي الدقاق : حقيقة الصبر ألَّا يعترضَ على المقدور، فأما إظهارُ البلاء لا على وجه الشكوى فلا يُنافي الصبر؛

قال الله تعالى في أيوب عليه السلام:

﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾

[ص: 44]

مع أنه قال: أني مَسَّنيَ الضُّرُّ" [16].

وقوله ﷺ: «وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»؛ أي: إن القرآن الذي هو كلام الله - عزَّ وجلَّ - حجَّةٌ للعبد إن قرأه وعمِل به، أو حجةٌ عليه إن أعرضَ العبدُ عنه، وتركَ العملَ بمعانيه [17].

"ختَمَ تلك الشُّعَب به، وسَلَك به مَسلكًا غير مَسلكها؛ دلالةً على كونه سلطانًا قاهرًا، وحَكَمًا فَيْصلًا، يفرِّق بين الحقِّ والباطل، حجَّة الله في الخَلق، به السعادة والشقاوة" [18].

"قوله: «والقرآن حجَّةٌ لكَ أو عليكَ» يعني: أنك إذا امتثلتَ أوامره، واجتنبتَ نواهيَه، كان حجَّةً لكَ في المواقف التي تُسأل فيها عنه؛ كمسألة الملَكَين في القبر، والمسألة عند الميزان، وفي عقبات الصراط، وإن لم تمتثِل ذلك احتجَّ به عليك. ويُحتَمل أن يُراد به: أن القرآنَ هو الذي يُنتهى إليه عند التنازع في المباحث الشرعية والوقائع الحُكمية، فبه تَستدِلُّ على صحَّة دعواكَ، وبه يَستدِلُّ عليكَ خَصمكَ" [19].

ثم ختم النبيُّ ﷺ الحديثَ بقوله: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا»، والغُدوُّ هو السَّيْرُ في أوَّل النهار، "يَغْدو بمعنى: يُبكِّر، يقال: غدا إذا خرج صباحًا في مصالحه. وراح: إذا رجع بعشيٍّ. ومعنى ذلك: أن كل إنسان يُصبح ساعيًا في أموره، مُتصرِّفًا في أغراضه، ثم إما أن تكون تصرُّفاته بحسَب دواعي الشرع والحقِّ، فهو الذي يَبيع نفْسه من الله، وهو بيعٌ آيِلٌ إلى عتقٍ وحرِّية؛

كما قال تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ ﴾

[التوبة: 111].

وإما أن تكون تصرُّفاته بحسَب دواعي الهوى والشيطان، فهو الذي باع نفْسه من الشيطان فأوْبَقَها؛ أي: أهلَكَها، ومنه:

﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ﴾

[الشورى: 34]" [20].

المراجع

  1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 7).
  2. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 100، 101).
  3. "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (1/ 148).
  4. انظر: "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (1/ 148).
  5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 16).
  6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 17).
  7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 17- 18).
  8. "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 101).
  9. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (3/ 102).
  10. رواه النسائيُّ (3939). وقال الألبانيُّ في "صحيح سنن النسائيِّ" (3939): صحيح.
  11. رواه البخاريُّ (136)، ومسلم (246)، وانظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 476).
  12. "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" ابن علان (1/ 149- 150)، باختصار.
  13. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 476)
  14. "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (1/ 150)، باختصار.
  15. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (3/ 740).
  16. "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 101، 102).
  17. انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 343).
  18. ]"الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (3/ 742).
  19. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 477).
  20. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 477- 478).



النقول

قال النوويُّ رحمه الله: "هذا حديث عظيم أصلٌ من أصول الإسلام، قد اشتمل على مُهمَّات من قواعد الإسلام، فأمّا الطُّهور، فالمراد به الفعل، فهو مضموم الطّاء على المختار وقول الأكثرين، ويجوز فتحها كما تقدَّم، وأصل الشَّطر النّصف، واختُلف في معنى قوله ﷺ: «الطهور شطر الإيمان» فقيل: معناه أنّ الأجر فيه ينتهي تضعيفه إلى نصف أجر الإيمان، وقيل: معناه أنّ الإيمان يَجُبُّ ما قبلَه من الخطايا، وكذلك الوضوء؛ لأنّ الوضوء لا يصحُّ إلّا مع الإيمان، فصار لتوقُّفه على الإيمان في معنى الشَّطر، وقيل: المراد بالإيمان هنا الصّلاة؛

كما قال اللّه تعالى:

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾

[البقرة: 143]

والطّهارة شرط في صحَّة الصّلاة، فصارت كالشّطر، وليس يلزم في الشّطر أن يكون نصفًا حقيقيًّا، وهذا القول أقرب الأقوال، ويحتمل أن يكون معناه أنّ الإيمان تصديق بالقلب وانقياد بالظّاهر، وهما شطران للإيمان، والطّهارة متضمِّنة الصّلاة؛ فهي انقياد في الظّاهر، واللّه أعلم. وأمّا قوله ﷺ: «والحمد للّه تملأ الميزان»، فمعناه عِظَم أجرها، وأنّه يملأ الميزان، وقد تظاهرت نصوص القرآن والسّنّة على وزن الأعمال وثقل الموازين وخفَّتها. وأمّا قوله ﷺ: «وسبحان اللّه والحمد للّه تملآن أو تملأ ما بين السّماوات والأرض» فضبطناه بالتّاء المثنّاة من فوقُ في تملآن وتملأ، وهو صحيح؛ فالأوّل ضمير مؤنَّثتين غائبتين، والثّاني ضمير هذه الجملة من الكلام، وقال صاحب التّحرير: يجوز [تملآن] بالتّأنيث والتّذكير جميعًا، فالتّأنيث على ما ذكرناه، والتّذكير على إرادة النّوعين من الكلام أو الذِّكرين. قال: وأمّا [تملأ] فمذكّر على إرادة الذّكر، وأمّا معناه فيَحتمِل أن يقال: لو قُدِّر ثوابهما جِسمًا لملأ ما بين السّماوات والأرض، وسبب عظم فضلهما ما اشتملتا عليه من التّنزيه للّه تعالى بقوله: سبحان اللّه، والتّفويض والافتقار إلى اللّه تعالى بقوله: الحمد للّه، واللّه أعلم" [1].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "قوله ﷺ: «والصلاة نور»: فالصلاة نور: نورٌ للعبد في قلبه، وفي وجهه، وفي قبره، وفي حشره؛ ولهذا تَجِد أكثرَ الناس نورًا في الوجوه أكثرَهم صلاةً، وأخشعَهم فيها لله - عزَّ وجلَّ - وكذلك تكون نورًا للإنسان في قلبه، تَفتَح عليه باب المعرفة لله - عزَّ وجلَّ - وباب المعرفة في أحكام الله، وأفعاله، وأسمائه، وصفاته، وهي نورٌ في قبر الإنسان؛ لأن الصلاة هي عمود الإسلام، إذا قام العمود قام البناء، وإذا لم يقم العمود فلا بناء. كذلك نورٌ في حشره يومَ القيامة؛ فهي نور للإنسان في جميع أحواله، وهذا يقتضي أن يحافظ الإنسان عليها، وأن يحرص عليها، وأن يُكثر منها حتى يَكثُر نوره وعلمه وإيمانه. وأما الصبر فقال: «إنه ضياء» فيه نور؛ لكن نور مع حرارة

كما قال الله تعالي:

﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾

[يونس: 5]

فالضوء لابدَّ فيه من حرارة، وهكذا الصبرُ، لابدَّ فيه من حرارة وتَعَب؛ لأن فيه مشقَّةً كبيرة؛ ولهذا كان أجره بغير حساب؛ فالفرق بين النور في الصلاة، والضياء في الصبر: أن الضياء في الصبر مصحوب بحرارة؛ لِمَا في ذلك من التَّعَب القلبيِّ والبدنيِّ في بعض الأحيان" [2].

قال القرطبيُّ رحمه الله: "فإذا حَمِد اللهَ حامدٌ مُستحضِرًا معنى الحمد في قلبه، امتلأ ميزانه من الحسنات، فإن أضاف إلى ذلك: سبحانَ الله، الذي معناه تَبْرئةُ الله، وتَنزيهه عن كلِّ ما لا يَليق به من النقائص، ملأت حسناتُه وثوابها زيادةً على ذلك ما بين السموات والأرض؛ إذ الميزانُ مملوءٌ بثواب التحميد، وذكر السموات والأرض على جهة الإغياء على العادة العربية، والمراد: أن الثواب على ذلك كثيرٌ جدًّا، بحيث لو كان أجسامًا لَمَلأ ما بين السموات والأرض" [3].

قال النوويُّ رحمه الله: "وأمّا قوله ﷺ: «والصّلاة نور»، فمعناه أنّها تمنع من المعاصي، وتنهى عن الفحشاء والمنكَر، وتهدي إلى الصّواب، كما أنّ النّور يُستضاء به. وقيل: معناه أنّه يكون أجرها نورًا لصاحبها يوم القيامة، وقيل: لأنّها سبب لإشراق أنوار المعارف وانشراح القلب، ومكاشفات الحقائق لفراغ القلب فيها، وإقباله إلى اللّه تعالى بظاهره وباطنه،

وقد قال اللّه تعالى: 

﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾

[البقرة: ٤٥]

وقيل: معناه أنّها تكون نورًا ظاهرًا على وجهه يوم القيامة، ويكون في الدّنيا أيضًا على وجهه البهاء، بخلاف من لم يصلّ، واللّه أعلم.

وأمّا قوله ﷺ: «والصّدقة برهان»، فقال صاحب التّحرير: معناه: يَفزَع إليها كما يفزع إلى البراهين؛ كأنّ العبد إذا سُئل يوم القيامة عن مصرف ماله، كانت صدقاتُه براهينَ في جواب هذا السّؤال، فيقول: تصدَّقت به. قال: ويجوز أن يوسم المتصدِّق بسيماء يُعرَف بها، فيكون برهانًا له على حاله، ولا يسأل عن مصرف ماله. وقال غير صاحب التّحرير: معناه: الصّدقة حجَّة على إيمان فاعلها؛ فإنّ المنافق يمتنع منها لكونه لا يعتقدها، فمن تصدَّق استدلَّ بصدقته على صدق إيمانه، واللّه أعلم [4].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "قوله «والصبر ضياء» فبيَّن النبيُّ ﷺ في هذا الحديث أن الصبر ضياء؛ يعني أن يُضيء للإنسان، عندما تَحتلِك الظلماتُ، وتشتدُّ الكُرُبات، فإذا صبر، فإن هذا الصبر يكون له ضياءً يهديه إلى الحقِّ؛ ولهذا ذَكَر الله - عزَّ وجلَّ - أنه من جملة الأشياء التي يُستعان بها؛ فهو ضياء للإنسان في قلبه، وضياءٌ له في طريقه ومنهاجه وعلمه؛ لأنه كلَّما سار إلى الله - عزَّ وجلَّ - على طريق الصبر، فإن الله تعالي يَزيده هدًى وضياءً في قلبه ويبصِّره؛ فلهذا قال النبيُّ ﷺ: «الصبر ضياء». أما بقية الحديث، فقال عليه الصلاة والسلام: «الطهور شطر الإيمان».

الطهور: يعني بذلك طهارة الإنسان. شطر الإيمان؛ أي: نصف الإيمان؛ وذلك لأن الإيمان تَخْلِيَة وتَحْلِيَة؛ أي: تبرُّؤ من الشرك والفسوق، تبرُّؤ من المشركين والفسَّاق بحسَبِ ما معهم من الفِسق، فهو تَخَلٍّ. وهذا هو الطُّهور؛ أن يتطهَّر الإنسان طهارةً حِسِّية ومعنوية من كلِّ ما فيه أذًى؛ فلهذا جعله النبيُّ عليه الصلاة والسلام شطر الإيمان.

«وسبحان الله» معناها: تنزيه الله - عزَّ وجلَّ - عما لا يليق به من العيوب ومماثلة المخلوقات؛ فالله- عزَّ وجلَّ - منزَّهٌ عن كلِّ عَيب في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، لا تَجِد في أسمائه اسمًا يَشتمِل على نقص أو على عَيب

ولهذا قال تعالي:

﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ﴾

[الأعراف: 180]

ولا تجد في صفاته صفة تشتمل على عيب أو نقص 

ولهذا قال تعالي:

﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ﴾

 بعد قوله:

ولهذا قال الله:

﴿لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ﴾

[النحل: ٦٠]

فالله - عزَّ وجلَّ - له الوصف الأكمل الأعلى من جميع الوجوه، وله أيضًا الكمال المنزَّه عن كلِّ عَيب في أفعاله

كما قال الله تعالي:

﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾

[الدخان: ٣٨]

فليس في خلق الله لَعِبٌ ولهوٌ؛ وإنما هو خلق مبنيٌّ على الحكمة" [5].

قال ابن علان رحمه الله: "الصلاة نفْسُها تُضيء لصاحبها في ظُلُمات الموقف بين يديه، ولم يجئْ في فعلٍ متعبَّد به أنه نور في نفْسه سوى الصلاة، فالظاهرُ أن هذا النورَ خاصٌّ بها. وقيل: النور أجرُها لا هي. وقيل: نورٌ ظاهرٌ على وجه المؤمن يوم القيامة، فالمراد بها: أي بسببها يعلو النورُ وجهَ المؤمن، فالإسنادُ مجازيٌّ من الإسناد للسبب. وقيل: النور معنويٌّ لأنها تَنهى عن الفحشاء والمنكَر، وتَهدي إلى الصواب، فتصدُّ عن الْمَهالك، وتوصِّل إلى طريق السلامة كما يُستضاء بالنور. وقيل: نورُ القلب بسببها لاشتمالها على ما لم يجتمع في غيرها من أعمال القلوب والألسُن والجوارح فرضًا ونَفْلًا، فالصلاة الكاملة يَحصُل بها من النور الإلهيِّ في القلب ما لا يُعبَّر عنه. قيل: ويمكِن حملُ النور على جميع ما تقدَّم" [6].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "وقوله ﷺ: «سبحان الله والحمد لله تملآن- أو قال: تملأ- ما بين السماوات والأرض» شكٌّ من الراوي: هل قال النبيُّ ﷺ: تملآن ما بين السموات والأرض، أو قال تملأ ما بين السموات والأرض؟ والمعني لا يختلف؛ يعني: أن سبحان الله والحمد لله، تملأ ما بين السماوات والأرض؛ وذلك لأن هاتين الكلمتين مشتملتان على تنزيه الله عن كلِّ نقص في قوله: «سبحان الله»، وعلى وصف الله بكلّ كمال في قوله: «والحمد لله».

فقد جمعت هاتان الكلمتان بين التَّخْلِية والتَّحْلِية كما يقولون؛ أي: بين نفي كلِّ عَيب ونقص، وإثبات كلِّ كمال، فسبحان الله فيها نفيُ النقائص، والحمدُ لله فيها إثباتُ الكمالات.

فالتسبيح: تنزيه الله عما لا يليق به في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه. واللهُ - عزَّ وجلَّ - يُحمَد على كلِّ حال" [7].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "ختَمَ تلك الشُّعَب به، وسَلَك به مَسلكًا غير مَسلكها؛ دلالةً على كونه سلطانًا قاهرًا، وحَكَمًا فَيْصلًا، يفرِّق بين الحقِّ والباطل، حجَّة الله في الخَلق، به السعادة والشقاوة" [8].

قال القرطبيُّ رحمه الله: "قوله: «والقرآن حجَّةٌ لكَ أو عليكَ» يعني: أنك إذا امتثلتَ أوامره، واجتنبتَ نواهيَه، كان حجَّةً لكَ في المواقف التي تُسأل فيها عنه؛ كمسألة الملَكَين في القبر، والمسألة عند الميزان، وفي عقبات الصراط، وإن لم تمتثِل ذلك احتجَّ به عليك. ويُحتَمل أن يُراد به: أن القرآنَ هو الذي يُنتهى إليه عند التنازع في المباحث الشرعية والوقائع الحُكمية، فبه تَستدِلُّ على صحَّة دعواكَ، وبه يَستدِلُّ عليكَ خَصمكَ" [9].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "وقوله: «الصدق برهان»: الصدقة: بذل المال تقرُّبًا إلى الله - عزَّ وجلَّ - فيُبذَل المال على هذا الوجه للأهل، والفقراء، والمصالح العامَّة؛ كبناء المساجد وغيرها؛ برهانًا على إيمان العبد؛ وذلك أن المال محبوب إلى النفوس، والنفوس شحيحةٌ به، فإذا بذله الإنسان لله، فإن الإنسان لا يبذل ما يحبُّ إلَّا لِما هو أحبُّ إليه منه، فيكون في بذل المال لله- عزَّ وجلَّ - دليلٌ على صدق الإيمان وصحَّته؛ ولهذا تجد أكثرَ الناس إيمانًا بالله - عزَّ وجلَّ – وبأخلافه، تجدهم أكثرَهم صدقةً. ثم قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: «والقرآن حجَّة لك أو عليك»؛ لأن القرآن هو حبل الله المتين، وهو حجَّة الله على خلقه، فإما أن يكون لك، وذلك فيما إذا توصَّلت به إلى الله، وقُمت بواجب هذا القرآن العظيم من التصديق بالأخبار، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وتعظيم هذا القرآن الكريم واحترامه؛ ففي هذه الحال يكون حجَّةً لك. أما إن كان الأمر بالعكس، أَهنْتَ القرآن، وهجرتَه لفظًا ومعنًى وعملًا، ولم تقم بواجبه، فإنه يكون شاهدًا عليك يوم القيامة " [10].

قال النوويُّ رحمه الله: "وَأَمَّا قَوْلُهُ ﷺ: «وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ»، فمعناه: الصّبر المحبوب في الشّرع، وهو الصّبر على طاعة اللّه تعالى، والصّبر عن معصيته، والصّبر أيضًا على النّائبات وأنواع المكاره في الدّنيا. والمراد أنّ الصّبر محمودٌ، ولا يزال صاحبُه مستضيئًا مهتديًا مستمرًّا على الصّواب. قال إبراهيمُ الخواص: الصبر هو الثباتُ على الكتاب والسُّنة. وقال ابن عطاء: الصبر الوقوف مع البلاء بحُسن الأدب. وقال الأستاذ أبو علي الدقاق رحمه الله: حقيقة الصبر ألَّا يعترضَ على المقدور، فأما إظهارُ البلاء لا على وجه الشكوى فلا يُنافي الصبر

قال الله تعالى في أيوب عليه السلام:

﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾

[ص: 44]

مع أنه قال: أني مَسَّنيَ الضُّرُّ"[11].

قال القرطبيُّ رحمه الله: "يَغْدو بمعنى: يُبكِّر، يقال: غدا إذا خرج صباحًا في مصالحه. وراح: إذا رجع بعشيٍّ. ومعنى ذلك: أن كل إنسان يُصبح ساعيًا في أموره، مُتصرِّفًا في أغراضه، ثم إما أن تكون تصرُّفاته بحسَب دواعي الشرع والحقِّ، فهو الذي يَبيع نفْسه من الله، وهو بيعٌ آيِلٌ إلى عتقٍ وحرِّية؛

كما قال تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ﴾

[التوبة: 111].

وإما أن تكون تصرُّفاته بحسَب دواعي الهوى والشيطان، فهو الذي باع نفْسه من الشيطان فأوْبَقَها؛ أي: أهلَكَها، ومنه:

﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ﴾

[الشورى: 34]" [12].

قال النوويُّ : "وأمّا قوله ﷺ: «والقرآن حجَّةٌ لك أو عليك»، فمعناه ظاهر؛ أي: تنتفع به إن تَلَوْتَه وعَمِلْتَ به، وإلّا فهو حجَّة عليك.

وأمّا قوله ﷺ:

«كلُّ النّاس يغدو فبائع نفسَه فمعتقها أو موبِقها»،

فمعناه: كلُّ إنسان يسعى بنفسه، فمنهم من يبيعها للّه تعالى بطاعته فيُعتقها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشّيطان والهوى باتّباعهما فيُوبقها؛ أي: يُهلكها، واللّه أعلم" [13].

قال ابن عثيمين رحمه الله: قوله: «كلُّ الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها»؛ أي: كلُّ الناس يبدأ يومه من الغُدوة بالعمل، وهذا شيءٌ مشاهَد؛ فإن الله تعالى جعل الليل سَكَنًا

وقال:

﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾

[الأنعام:60]،

فهذا النوم الذي يكون في الليل هو وفاة صغرى، تهدأ فيه الأعصاب، ويستريح فيه البَدَن، ويستجِدُّ نشاطه للعمل المقبِل، ويستريح من العمل الماضي، فإذا كان الصباح - وهو الغدوة - سار الناس، واتَّجَهوا كلٌّ لعمله. فمنهم من يتَّجِه إلى الخير، وهم المسلمون، ومنهم من يتَّجِه إلى الشرِّ، وهم الكفَّار، والعياذ بالله. المسلم أوَّلَ ما يغدو يتوضَّأ ويتطهَّر، «والطهور شطر الإيمان» كما في هذا الحديث، ثم يذهب فيصلِّي، فيبدأ يومَه بعبادة الله - عزَّ وجلَّ - بالطهارة، والنقاء، والصلاةِ التي هي صلة بين العبد وبين ربِّه، فيفتتح يومَه بهذا العمل الصالح؛ بل يفتتحه بالتوحيد؛ لأنه يُشرَع للإنسان إذا استيقظ من نومه أن يَذكُر الله - عزَّ وجلَّ - هذا المسلمُ، هذا الذي يغدو في الحقيقة وهو بائعٌ نفسه؛ لكن هل باعها بيعًا يُعتِقها فيه؟ نقول: المسلم باعها بيعًا يعتقها فيه؛ ولهذا قال: «فبائع نفسه فمعتقها» هذا قِسم. «أو موبِقها» معناها: بائعٌ نفسَه فموبِقها. الكافر يغدو إلى العمل الذي فيه الهلاك؛ لأن معنى [أَوْبَقها]: أَهلَكها؛ وذلك أن الكافر يبدأ يومَه بمعصية الله، حتى لو بدأ بالأكل والشرب؛ فإن أكله وشُربه يُعاقَب عليه يوم القيامة، ويُحاسَب عليه، كلُّ لُقمة يَرفَعها الكافر إلى فَمِه فإنه يعاقَب عليها، وكلُّ شَربةٍ يبتلعها من الماء، فإنه يُعاقَب عليها، وكلُّ لباس يَلبَسه فإنه يعاقَب عليه. فالكافر من حين ما يُصبح وهو بائع نفسَه فيما يُهلكها، أما المؤمن فبائع نفسه فيما يُعتقها وينجِّيها من النار" [14].


المراجع

  1. "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 100، 101).
  2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 190، 191).
  3. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (3/ 102).
  4. "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 101).
  5. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 187، 188).
  6. "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" ابن علان (1/ 149- 150)، باختصار.
  7. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 188، 189).
  8. "الكاشف عن حقائق السنن" الطيبي (3/ 742).
  9. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 477).
  10. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 191، 192).
  11. "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 101، 102)
  12. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 477- 478).
  13. "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 102).
  14. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 192 - 194).



مشاريع الأحاديث الكلية