الفوائد العلمية
1. هذا حديث عَظِيمٌ أَصْلٌ من أصول الإسلام، وهو من جوامع كَلِمه ﷺ، جَمَع فيه مُهِمَّات من قواعد الإسلام مما يُهِمُّ المسلمَ من أمر دنياه وآخرته.
2. اختُلف في معنى أن الطُّهُور شَطْرُ الْإِيمَانِ، فقيل: معناه: أن الأجر فيه ينتهي تضعيفُه إلى نصف أجر الإيمان؛ ولعلَّ ذلك راجعٌ لكَون الإيمانِ نظافةَ الباطن، والطهارةِ نظافةَ الظاهر، وقيل: معناه: أن الإيمان تصديقٌ بالقلب، وانقيادٌ بالظاهر، وهما شطرانِ للإيمان، والطهارة متضمِّنةٌ الصلاةَ، فهي انقيادٌ في الظاهر، وقيل: معناه: أن الإيمان يجُبُّ ما قبلَه من الخطايا، وكذلك الوضوء؛ لأن الوضوء لا يصحُّ إلا مع الإيمان، فصار لتوقُّفه على الإيمان في معنى الشطر، وقيل: المراد بالإيمان هنا الصلاة
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾
والطهارةُ شرطٌ في صحَّة الصلاة، فصارت كالشَّطْرِ، وليس يَلزَم في الشطر أن يكون نصفًا حقيقيًّا، وهذا القولُ أقربُ الأقوال [1].
3. الطهارة من أجَلِّ العبادات، وأعظم القُرُبات التي يتقرَّب بها العبدُ إلى خالقه سبحانه، وعليها تتوقَّف صحةُ كثيرٍ من العبادات، وهي سبب لمحبَّة اللهِ - عزَّ وجلَّ -
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾
4. اختلف في معنى: «وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ»، فقيل: المراد بالميزان هو حقيقتُه، وهو: ما يوزَن به أعمالُ العباد يومَ القيامة [2]، وقيل: إنه ضربُ مَثَل، وإن المعنى: لو كان الحمدُ جِسمًا لَمَلَأ الميزان، وقيل: بل اللهُ تعالى يمثِّل أعمال بني آدمَ وأقوالَهم صورًا تُرى يوم القيامة وتوزَن [3].
5. حمد الله: هو الثناءُ عليه بكلِّ جميل، والإذعان له [4]. والتسبيحُ: هو تنزيهُ الله عن النقائص والعيوب والآفات.
6. قوله: «تَمْلَآنِ - أَوْ تَمْلَأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»: معناه: لو قُدِّر ثوابُهما جِسمًا لملأ ما بين السموات والأرض، وسببُ عِظَم فضلهما ما اشتملتا عليه من التنزيه لله تعالى بقوله: سبحان الله، والتفويضِ والافتقار إلى الله تعالى بقوله: الحمدُ لله [5].
7. قوله ﷺ: «وَالصَّلَاةُ نُورٌ»؛ أي: إن الصلاة إذا أدَّاها العبدُ بشُروطها، أنارت قلبَه بأنوار الحكمة والمعرفة، فيزداد بها تعلُّقًا حتى تَصير قُرَّةُ عينه في الصلاة؛ كما قال ﷺ: «وجُعل قُرَّةُ عيني في الصلاة» [6].
8. «والصّلاة نور»؛ فإنّها تمنع من المعاصي، وتنهى عن الفحشاء والمنكَر، وتَهدي إلى الصّواب، كما أنّ النّور يُستضاء به، ويكون أجرها نورًا لصاحبها يوم القيامة، وهي سبب لإشراق أنوار المعارف وانشراح القلب، ومكاشفات الحقائق لفراغ القلب فيها، وإقباله إلى اللّه تعالى بظاهره وباطنه، وإنها تكون نورًا ظاهرًا على وجهه يوم القيامة، ويكون في الدّنيا أيضًا على وجهه البهاء، بخلاف من لم يصلّ [7].
9. قيل: إن الصلاة نفْسها تُضيء لصاحبها في ظُلُمات الموقف بين يديه، ولم يجئْ في فعلٍ متعبَّد به أنه نور في نفْسه سوى الصلاة، فالظاهرُ أن هذا النورَ خاصٌّ بها. وقيل: النور أجرُها لا هي. وقيل: نورٌ ظاهرٌ على وجه المؤمن يوم القيامة؛ أي: بسببها يعلو النورُ وجهَ المؤمن. وقيل: النور معنويٌّ لأنها تَنهى عن الفحشاء والمنكَر، وتَهدي إلى الصواب، فتصدُّ عن الْمَهالك، وتوصِّل إلى طريق السلامة كما يُستضاء بالنور. وقيل: نورُ القلب بسببها لاشتمالها على ما لم يجتمع في غيرها من أعمال القلوب والألسُن والجوارح فرضًا ونَفْلًا، فالصلاة الكاملة يَحصُل بها من النور الإلهيِّ في القلب ما لا يُعبَّر عنه [8].
10. في الحديث أن الصَّدَقة بُرْهَانٌ؛ أي: إن الصدقةَ دليلٌ على صحَّة إيمان المتصدِّق، أو دليلٌ على أنه ليس من المنافقين الذين يَلمِزون المطوِّعين من المؤمنين في الصدقات، أو على صحَّة محبَّة المتصدِّق لله تعالى، ولما لدَيْهِ من الثواب؛ إذ قد آثَرَ محبَّةَ الله تعالى وابتغاء ثوابه، على ما جُبِل عليه من حبِّ الذهب والفضة حتى أخرجه لله تعالى [9]. وقيل: الصدقة برهان له يومَ القيامة إذا سُئل عن ماله فيمَ أنفقَه؟ [10]
11. قوله ﷺ: «والصّبر ضياء» هو الصّبر المحبوب في الشَّرع بأنواعه الثلاثة: الصّبر على طاعة اللّه تعالى، والصّبر عن معصيته، والصّبر على النّائبات وأنواع المكاره في الدّنيا. والمراد أنّ الصّبر محمود، ولا يزال صاحبه مستضيئًا مهتديًا مستمرًّا على الصّواب [11].
12. حقيقة الصبر ألَّا يعترضَ على المقدور، فأما إظهارُ البلاء لا على وجه الشكوى فلا يُنافي الصبر
قال الله تعالى في أيوب عليه السلام:
﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾
مع أنه قال: أني مَسَّنيَ الضُّرُّ[12].
13. في الحديث أن القرآن الذي هو كلام الله - عزَّ وجلَّ - حجَّةٌ للعبد إن قرأه وعمِل به، أو حجةٌ عليه إن أعرضَ العبدُ عنه، وتركَ العملَ بمعانيه [13].
14. «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا»؛ فكل إنسان يُصبح ساعيًا في أموره، مُتصرِّفًا في أغراضه، ثم إما أن تكون تصرُّفاته بحسَب دواعي الشرع والحقِّ، فهو الذي يَبيع نفْسه من الله، وهو بيعٌ آيِلٌ إلى عتقٍ وحرِّية
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ﴾
وإما أن تكون تصرُّفاته بحسَب دواعي الهوى والشيطان، فهو الذي باع نفْسه من الشيطان فأهلَكَها [14].
15. يُضيء الصبرُ للإنسان، عندما تَحتلِك الظلماتُ، وتشتدُّ الكُرُبات، فإذا صبر، فإن هذا الصبر يكون له ضياءً يهديه إلى الحقِّ؛ ولهذا ذَكَر الله - عزَّ وجلَّ - أنه من جملة الأشياء التي يُستعان بها؛ فهو ضياء للإنسان في قلبه، وضياءٌ له في طريقه ومنهاجه وعلمه؛ لأنه كلَّما سار إلى الله - عزَّ وجلَّ - على طريق الصبر، فإن الله تعالي يَزيده هدًى وضياءً في قلبه ويبصِّره [15].
16. «والصلاة نور، والصبر ضياء» الضياء فيه نور؛ لكن مع حرارة؛
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾
فالضوء لابدَّ فيه من حرارة، وهكذا الصبرُ، لابدَّ فيه من حرارة وتَعَب؛ لأن فيه مشقَّةً كبيرة؛ ولهذا كان أجره بغير حساب؛ فالفرق بين النور في الصلاة، والضياء في الصبر:أن الضياء في الصبر مصحوب بحرارة؛ لِمَا في ذلك من التَّعَب القلبيِّ والبدنيِّ في بعض الأحيان [16].
17. إن المال محبوب إلى النفوس، والنفوس شحيحةٌ به، فإذا بذله الإنسان لله، فإن الإنسان لا يبذل ما يحبُّ إلَّا لِما هو أحبُّ إليه منه، فيكون في بذل المال لله- عزَّ وجلَّ - دليلٌ على صدق الإيمان وصحَّته [17].
18. «والقرآن حجَّة لك أو عليك»؛ لأن القرآن هو حبل الله المتين، وهو حجَّة الله على خلقه، فإما أن يكون لك، وذلك فيما إذا توصَّلت به إلى الله، وقُمت بواجب هذا القرآن العظيم من التصديق بالأخبار، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وتعظيم هذا القرآن الكريم واحترامه؛ ففي هذه الحال يكون حجَّةً لك. أما إن كان الأمر بالعكس، أَهنْتَ القرآن، وهجرتَه لفظًا ومعنًى وعملًا، ولم تقم بواجبه، فإنه يكون شاهدًا عليك يوم القيامة [18].
19. قوله: «كلُّ الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها»؛ أي: كلُّ الناس يبدأ يومه من الغُدوة – وهو الصباح - بالعمل، فمنهم من يتَّجِه إلى الخير، وهم المسلمون، ومنهم من يتَّجِه إلى الشرِّ، وهم الكفَّار [19].
المراجع
- انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 100- 101).
- انظر: "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (1/ 148).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 16).
- "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (1/ 148).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 101).
- رواه النسائيُّ (3939). وقال الألبانيُّ في "صحيح سنن النسائيِّ" (3939): صحيح.
- "شرح النوويّ على مسلم" (3/ 101).
- "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" ابن علان (1/ 149- 150)، باختصار.
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 476).
- "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (1/ 150)، باختصار.
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 101، 102).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 101، 102).
- انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 343).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 477- 478).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 187).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 191).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 191).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 192).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 193).
الفوائد العقدية
1. في الحديث إثباتُ الميزان، وقد تَظاهَرت نصوص القرآن والسُّنّة على وزن الأعمال، وثِقَل الموازين، وخِفَّتها [1].
2. في الحديث الردُّ على المرجئة الذين يُخرجون الأعمال عن مُسمَّى الإيمان [2].
3. «وسبحان الله» معناها: تنزيه الله - عزَّ وجلَّ - عما لا يليق به من العيوب ومماثلة المخلوقات؛ فالله- عزَّ وجلَّ - منزَّهٌ عن كلِّ عَيب في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، لا تَجِد في أسمائه اسمًا يَشتمِل على نقص أو على عَيب، وكذلك صفاته تعالى؛ فالله - عزَّ وجلَّ - له الوصف الأكمل الأعلى من جميع الوجوه، وله أيضًا الكمال المنزَّه عن كلِّ عَيب في أفعاله [3].
المراجع
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 101).
- انظر: "الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية وتتمتها الرجبية"، عبد الرحمن بن ناصر البراق (ص: 49).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 187، 188).
الفوائد الحديثية
4. قوله ﷺ: «سبحان الله والحمد لله تملآن - أو تملأ- ما بين السماوات والأرض» شكٌّ من الراوي: هل قال النبيُّ ﷺ: تملآن، أو قال: تملأ؟ والمعني لا يختلف؛ يعني: أن سبحان الله والحمد لله، تملأ ما بين السماوات والأرض؛ وذلك لأن هاتين الكلمتين مشتملتان على تنزيه الله عن كلِّ نقص في قوله: «سبحان الله»، وعلى وصف الله بكلّ كمال في قوله: «والحمد لله»؛ فقد جمعت هاتان الكلمتان بين نفي كلِّ عَيب ونقص، وإثبات كلِّ كمال، فسبحان الله فيها نفيُ النقائص، والحمدُ لله فيها إثباتُ الكمالات [1].
المراجع
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 189).
الفوائد اللغوية
5. طُهُورُ: بضمِّ الطاء على وزن [فُعُول]؛ بمعنى فِعْلِ التطهُّر؛ أي: التنظُّف والتنزُّه، وطَهُور: بالفتح على وزن [فَعُول] اسمٌ للماء الذي يُتطَهَّر به.
6. الغُدوُّ هو السَّيْرُ في أوَّل النهار، يَغْدو بمعنى: يُبكِّر، يقال: غدا إذا خرج صباحًا في مصالحه. وراح: إذا رجع بعشيٍّ.