غريب الحديث:
علَقة: دمٌ غليظٌ متجمِّدٌ[1]
الْمُضْغة: قطعةُ لحْم بقَدْر ما يُمضَغُ [2]
المراجع
- قال الفيوميُّ في "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير" (2/ 425): "وَالْعَلَقَةُ: الْمَنِيُّ ينتقل بعد طَوره فيصير دمًا غليظًا متجمِّدًا، ثمّ ينتقل طَورًا آخَرَ فيصير لحمًا، وهو الْمُضغة، سمِّيت بذلك لأنّها مقدار ما يُمضَغ".
- قال الأزهريُّ في "تهذيب اللغة" (8/ 57): "الْمُضغَة من اللَّحم قدر ما يُلقي الإنسان في فيه".
المعنى الإجماليُّ للحديث:
يقول ابن مسعودرضي الله عنه: "حدَّثنا رسولُ الله ﷺ وهو الصادقُ المصدوقُ": هذا الحديث في أمور الغيب، ففيه وصف تفصيليٌّ لخلق الإنسان، ولم يكن معروفًا حينها في الطبِّ، وهناك ما هو فوق الطبِّ؛ (كتابة الرزق، والأجل، والعمل، وشقيٌّ أو سعيد)؛ فهذ الحديث دليل على صدق رسالته ﷺ.
قوله ﷺ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا»: هي مرحلة التقاء ماء الرجل بماء المرأة، ويظلُّ هذا الماء الْمَهين على حاله، قبل أن يتحوَّل إلى طَور العَلَقة. «ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ»؛ أي: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَالْعَلَقَةُ قِطعة من دَمٍ جامدة، وسُمّيت بذلك لأنها تَعلَق في جدار الرحم. «ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ»؛ أي: أربعين يومًا. والْمُضغة: قِطْعَةٌ من لَحْمٍ صغيرة، بقدر ما يُمضَغ. «ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وَأَجَلُهُ، وَرِزْقُهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ»: ثم يَكْتُبُ الملَك له هذه الأربعَ الكلماتِ: الرزقَ، والأجَلَ، والعمل، والشقاء أو السعادة، ثم يَنْفُخُ فيه الرُّوحَ بأمر ربِّه، فتَدِبُّ فيه الحركة، ويُصبح كائنًا حيًّا تُحِسُّ به الأمُّ.
قوله ﷺ: «فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ»؛ أي: من المعاصي والذنوب. «حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ»: كنايةً عن شدَّة القُرب. «فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ»: يغلِب عليه الذي كُتب له في بطن أمه. «فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ»: من الطاعات والقُرُبات. «فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ»: برحمة الله وفضله. «وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ»: من الطاعات والقُرُبات، فيما يَبْدو للناس ظاهرًا، أو كان ذلك منه رِياءً وسُمعةً. «حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ»؛ أي: إن العبرة بالخواتيم، وعلى الإنسان ألَّا يغترَّ بعمله.
الشرح المفصَّل للحديث:
في هذا الحديث بيان أمرٍ مهمٍّ من أمور الغَيب التي لا نُشاهِدُها، وهي خَلْق الإنسان في رَحِم أمِّه ومراحله، بَدْءًا من إلقاء النُّطفة، إلى أن يُنفَخ فيه الروحُ، ويَكتب الْمَلَكُ الموكَّل به ما يخصُّه.
ثم في الحديث أيضًا إشارةٌ إلى أن الأعمال بالخواتيم، وعلى المرء ألَّا يغترَّ بعمله، ولا يحكم بمصير أحد من الخَلْق؛ فإن القلوب بين أصابع الرحمن، يقلِّبها كيف يشاء.
قوله ﷺ: «إن أحدكم يُجمَع خَلْقه في بطن أمه أربعين يومًا» يُريد أن ما يُخلق منه الإنسان يُقرَّر ويُحرَّز في بطن الأمِّ تلك المدَّةَ، أو ربما أراد أن النُّطفة تمكُث في الرحِم أربعين يومًا تتهيَّأ للخَلْق وتتخمَّر[1] أو ربما يُريد بالجمع ضمَّ بعضِه إلى بعض بعد الانتشار [2]
وفي ذلك ردٌّ على أهل التشريح والطبِّ والطبائعيِّين الذين يقولون: إن أصل الولد من ماء الحَيض، وليس للمَنِيِّ دَورٌ إلا عقده كما تَعقِد الأنفحةُ اللبنَ، وهذا مردودٌ بالحديث،
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ,ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ , ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ ﴾
وقوله ﷺ: «ثم يكون عَلَقةً مثلَ ذلك، ثم يكون مُضغةً مثلَ ذلك»؛ أي: تتحوَّل تلك النُّطفة فتَصير عَلَقةً، وهي الدم الغليظ المتجمِّد، فتمكُث على صورتها تلك أربعين يومًا أخرى، ثم بعدها تتشكَّل في صورة الْمُضْغة، وهي قطعة لحم يسيرة بقَدْر ما يَمضغ الإنسان في فمِه.
واللهُ - عزَّ وجلَّ - قادرٌ على أن يَخلُق الإنسان جملةً واحدةً، بدَلًا من أن يَخلُقه على مراحلَ متفاوتةٍ، وإنما اقتضت حكمته ذلك لفوائد؛ منها:
أنه لو خلَق الإنسان في بطن أمِّه دفعةً واحدةً، يشُقُّ ذلك على الأمِّ وتخاف؛ لأنها لم تكن معتادةً بذلك، فلا تعلم أن ما ظَهَر في بطنها ولدٌ أو عِلَّة، فاقتضت حكمةُ الله تعالى أن يجعله أولًا نُطفةً مدَّةً لتعتاد أمُّه بذلك، ثم ينقلب عَلَقةً مدةً لتعتاد أيضًا بالعَلَقة مدَّةً، وكذلك تعتاد وتأنس بما في بطنها ساعةً فساعةً إلى وقت الولادة.
والفائدة الثانية: إظهار نِعمته وقدرته للناس؛ ليعلموا أنه قادرٌ على كلِّ شيء، من جَعْل النطفةِ عَلَقةً، والعلقةِ مُضغةً، وغير ذلك من الأحوال؛ ليشكروا نعمته عليهم بأن خلَقَهم من نُطفة، ثم جعلهم عَلقةً، ثم مُضغةً، ثم إنسانًا حسنَ الصورة، مزيَّنًا بالعقل والفِطنة.
والفائدة الثالثة: إظهار قُدرته على البعث؛ لأنَّ مَن قدَر على خَلق الإنسان من ماء، ونفخ الرُّوح فيه؛ يَقدِر على خَلْقه بعد صيرورته في القبر ترابًا، ونفخ الرُّوح فيه، وحشره في القيامة للحساب والجزاء[4].
وقوله ﷺ: «ثم يَبعَث الله ملَكًا»: المراد بإرسال الملَك هنا إنما هو أمرُه بفعل ما يُريد الله منه؛ ففي الصحيحَين
عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه، عن النبيِّ ﷺ قال:
«إن الله وكَّل في الرَّحِم مَلَكًا، فيقول: يا ربِّ نُطفةٌ، يا ربِّ عَلَقةٌ، يا ربِّ مُضغةٌ، فإذا أراد أن يخلُقها قال: يا ربِّ أذكَرٌ، يا ربِّ أُنثى، يا ربِّ، شقيٌّ أم سعيدٌ، فما الرِّزقُ؟ فما الأجَل؟ فيُكتَب كذلك في بطن أمه»
فالظاهرُ من هذا الحديث أن الملَك موكَّل بالرحِم من أوَّل ما كان الآدميُّ نطفةً، فيكون المراد من الإرسال هو الأمرَ بذلك، من النفخ في الرُّوح والكتابة[6]
قوله: «بأربع كلماتٍ»، أي: قضايا، وكل قضية يُقال لها: كلمةٌ [7] وهذه القضايا هي الرزق، والأجَل، والعمل، والشقاء أو السعادة، كما في الحديث. وإنما يؤمَر بذلك بعد أن يسأل الملَك عنها؛ لِما في حديث أنس السابق.
والظاهر أن الملَك لا يكتب تلك الأشياءَ فحسْبُ؛ بل يَكتب كلَّ ما له عَلاقة بالإنسان؛ فيكتب شكلَه، وأخلاقَه، وطباعَه، وغير ذلك؛ فقد روى إسحاقُ بنُ راهوَيْهِ وغيرُه
عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، عن رسول الله ﷺ قال:
«إن الله إذا أراد أن يخلُقَ الخلْقَ بعَث مَلَكًا، فيدخل الرحِم فيقول: يا ربِّ، أذكرٌ أم أنثى؟ فيقول: ذكرٌ، أو أنثى، أو ما شاء الله أن يخلُق في الرحم، فيقول: أيْ ربِّ، أشقيًّا أم سعيدًا؟ فيقول: شقيًّا أم سعيدًا، فيقول: أيْ ربِّ، فما أجَلُه؟ ثم يقول: أيْ ربِّ، فما رِزقه؟ ثم يقول: أيْ رب، فما خَلْقه وخلائقه؟ فلا يقول شيئًا إلا فعَلَه في الرحم»
وهذه الكتابة التي يَكتُبها الملَك غير كتابة الله - عزَّ وجلَّ - للقدَر في اللوح المحفوظ؛ فإنه قد كتب الأقدار قبل أن يَخلُق السمواتِ والأرضَ؛ قال تعالى:
( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾
وأخرج مسلم عن عبدِ الله بنِ عمرِو بنِ العاصِ رضي الله عنه، قال:
«كتَب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألْفَ سنةٍ، قال: وعرشُه على الماء»
والحكمة من تلك الكتابة التي يكتبها الملَك كَوْنُ ما كتبه قابلًا للمَحْوِ والإزالة والتغيير، بخلاف ما كتبه في اللوح المحفوظ؛ فإنه ثابتٌ لا يتغيَّر[10]
وقوله ﷺ: «ثم ينفخ فيه الروح»: أسند النفخ للمَلَك، ومعنى إسناد النفخ للمَلَك أنه يفعله بأمر الله. والنفخ في الأصل: إخراجُ رِيحٍ من جوف النافخ ليدخل في المنفوخ فيه، والمراد بإسناده إلى الله تعالى - كما
﴿ثُمَّ سَوَّىٰهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾
- أن يقول له: كُنْ، فيكون[11]
والنفخ إنما يكون في الْمُضغة بعدَ أن تتشكَّل بصورة الإنسان؛ كما قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ﴾
مع قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ ﴾ [المؤمنون: 14]
فالمخلَّقة: المصوَّرة، وغير المخلَّقة: السَّقط، وتمام الخَلق والتصوير في كل مرحلة يكون في أربعين يومًا، وبعد ذلك ينفخ فيه الرُّوح، وهو الْمَعْنِيُّ بقوله:
﴿ ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾
وقد اتَّفَق الفقهاء على أن نفخ الرُّوح يكون بعد مِائة وعشرين يومًا؛ أخذًا بهذا الحديث وأمثاله، وذلك تمام أربعة أشهر، والدخول في الخامس، وعليه يُعوَّل فيما يُحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازُع، وفي وجوب النفقات على حمل المطلَّقات؛ وذلك لتيقُّنه بحركة الجنين في الجوفل[12]
ثم انتقل النبيُّ ﷺ إلى بيان الخواتيم، وأن السعيد مَن سَعِد في بطن أمه، والشقيَّ مَن شَقِي في بطن أمِّه؛ فقوله r: «إن الرجُل ليَعمَلُ بعمل أهل النار»؛ أي: من المعاصي والذنوب.
وقوله ﷺ: «حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ» على طريق التمثيل للدلالة على قُرْب موته ودُنوِّ أجَلِه[13]
والمراد أن الله - عزَّ وجلَّ - قدَّر ما يكون، ثم أمر بأن يُكتب في اللوح ذلك، ثم أمر الملَك ليكتب في جبهة كل واحدٍ ما قُدِّر له، وإذا كان كذلك لا يكون عاقبة الرجُل ولا أجَله إلا على ما قُدِّر له في الأزل، فإذا قُدِّر في الأزل لأحد أنه من أهل الجنة، تكون عاقبتُه الجنةَ، وإن كان مشغولًا بعمل أهل النار في مدَّة من عمره؛ بل يقلبه الله تعالى من أعمال أهل النار إلى أعمال أهل الجنة؛ حتى يموت على عمل أهل الجنة، فيدخل الجنة[14]
وقوله ﷺ: «وإن الرجُل ليعمل بعمل أهل الجنة» ليس على إطلاقه؛ بل المراد أنه كان يعمل كذلك فيما يَبْدو للناس ظاهرًا، أو كان ذلك منه رِياءً وسُمعةً؛ ففي حديث الشيخين عن سهل بن سعد الساعديِّ، أن النبيَّ قال ﷺ: «إن الرجُلَ ليعملُ عملَ أهل الجنة - فيما يَبْدو للناس - وهو من أهل النار، وإن الرجُل ليعملُ عملَ أهل النار - فيما يَبْدو للناس - وهو من أهل الجنة»[15]
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾
وقوله ﷺ: «فيسبِق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار»، المراد بهذا الحديث التوكيد على أن العِبرة بالخواتيم، وعلى الإنسان ألَّا يغترَّ بعمله الذي عَمِل؛ لقوله r في حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: «إنما الأعمال بالخواتيم»[16]
فلا ينبغي أن يركَن الإنسان إلى عمل، ولا يعوِّل على عبادة؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - إذا اطَّردت الأسبابُ، خرَقها في نوادرَ؛ ليتبيَّن بذلك أنه لا تجوز عبادة الأسباب؛ ولكن يُعبَد اللهُ الْمُسَبِّب، فهذا ينبغي أن يُتداوى به في نفي العُجْبِ عن العاملين، لا ترْك العمل الصالح، وفي الحذر من القنوط من رحمة الله تعالى، لا في الزيادة من الذنوب إزماعًا على الهَلَكة[17]
وإنما يأمر الملَك حسْبما اقتضته حكمته، وسبقت به كلمته، فمَن وجده مستعدًّا لقَبول الحقِّ واتِّباعه، ورآه أهلًا للخير، وأسباب الصلاح متوجِّهة إليه، أثبته في عداد السُّعداء، وكتب له أعمالًا صالحةً تناسب ذلك. ومَن وجده جافيًا قاسيَ القلب ضاريًا بالطبع، متأبِّيًا عن الحق، أثبت ذِكره في ديوان الأشقياء الهالكين، وكتب له ما يتوقَّع منه من الشرور والمعاصي. هذا إذا لم يعلم من حاله وقوع ما يقتضي تغيُّر ذلك، فإن علِم من ذلك شيئًا، كتب له أوائل أمره وأواخره، وحكم عليه وَفْقَ ما يتمُّ به عمله؛ فإن مِلاك العمل خواتيمه، وهو الذي يسبق إليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، أو النار[18]
وهذا الحاصل من الختم بالسوء لمَن ظاهرُ أمرهم الخيرُ والصلاحُ، وأنهم من أهل الجنة؛ إنما هو من النوادر التي لا تطَّرد، وحكمته بيان أن الأعمال بالخواتيم، وأن ظاهر الأعمال ليس دليلًا على المصير؛ فإن السعيد قد يشقى، والشقيَّ قد يسعد، وهذا بالنسبة للأعمال الصالحة، أما في علم الله فلا يتغيَّر الحال؛ فالذي كتبه الله سعيدًا لا يشقى، وإن كان قد يخلط عمله الصالح بالسيِّئ حتى يتوفَّاه الله على الصلاح، فيكون من أهل السعادة في الآخرة[19]
و"هذا قد يقَع في نادرٍ من الناس، لا أنه غالبٌ فيهم، وذلك من لُطْف الله سبحانه، وسَعة رحمته؛ فإن انقلاب الناس من الشرِّ إلى الخير كثير، وأما انقلابهم من الخير إلى الشرِّ، ففي غاية الندور، ولله الحمد والْمِنَّة على ذلك"[20]
وعلى هذا؛ فلا تعارُض بين هذا الحديث وبين حديث الصحيحينِ
عن عليٍّ رضي الله عنه، أن النبيَّ ﷺ قال:
«ما منكم من أحدٍ، ما من نفْس منفوسةٍ إلا كُتِب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كُتِب: شقيَّةٌ أو سعيدةٌ»، فقال رجُل: يا رسول الله، أفلا نتَّكِلُ على كتابنا ونَدَع العمل؟ فمَن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما مَن كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، قال: «أما أهل السعادة فيُيَسَّرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة فيُيسَّرون لعمل الشقاوة»، ثم قرأ: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ , وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَ ﴾
فإن حديث عليٍّ رضي الله عنه هو المطَّردُ الغالب، فيجب القول به، وأن يعمل الإنسان ولا يترك العملَ بدعوى الخواتيم والاحتجاج بالقدَر، وحديث ابن مسعود الذي معنا محمولٌ على النوادر؛ ليبيِّن أن العبرة بخاتمة الإنسان، وألَّا يغترَّ الإنسان بعمله؛ لكن لما كان النادر جائزَ الحصول، تعيَّن طلب الثبات من الله عزَّ وجلَّ[21]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
«خرج علينا رسولُ الله ﷺ ونحن نتنازَع في القَدَر، فغضب حتى احمرَّ وجهُه، حتى كأنما فُقئَ في وجنتيه الرمَّان، فقال: أبهذا أُمرتم أم بهذا أُرسلتُ إليكم؟ إنما هلَك مَن كان قبلكم حين تنازَعوا في هذا الأمر، عزمتُ عليكم ألَّا تتنازعوا فيه»
"والتنازع في القَدَر: أن يقول أحد: إذا كان جميع ما يجري في العالَم بقَدر الله تعالى، فلِمَ يُعذَّب المذنبون؟! ولِمَ يُنسَب الفعل إلى العباد وإلى الشيطان،
﴿لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ ﴾
ولذلك رُوي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله ﷺ يُكثر أن يقول: «يا مُقَلِّبَ القلوب ثَبِّتْ قلبي على دينك»
المراجع
- . انظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (5/ 101)
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 482).
- رواه إسحاق بن راهويه في "مسنده" (2/344)، والآجريُّ في "الشريعة" (365). وصحَّحه الهيثميُّ في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (7/ 193).
- رواه مسلم (2653).
- انظر: "شرح الأربعين النووية" لابن رجب (ص: 45)، "فتح الباري" لابن حجر (11/ 485).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 486).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (6/ 651).
- انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 123).
- انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 128)، "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (1/ 178).
- انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (1/ 178).
- رواه البخاريُّ (2898)، ومسلم (112).
- رواه البخاريُّ (6607).
- "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (2/ 48).
- "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 92). 1
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 488).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 39).
- رواه البخاريُّ (1362)، ومسلم (2647).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 491).
- . رواه الترمذيُّ (2133)، وقال: حديث غريب، وحسَّنه ابن حجر في "المطالب العالية" (12/ 441).
- "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (1/ 205).
- رواه الترمذيُّ (2140)، وابن ماجهْ (3834)، وقال الترمذيُّ: حديث حسن، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح سنن الترمذيِّ" (2140).
النقول
قال ابن حجر رحمه الله: "والمراد بالنُّطفة المنيُّ، وأصله الماء الصّافي القليل، والأصل في ذلك أنّ ماء الرّجل إذا لاقى ماء المرأة بالجماع، وأراد اللّه أن يَخلُق من ذلك جَنينًا، هيَّأ أسباب ذلك؛ لأنّ في رحم المرأة قوَّتين: قوّة انبساط عند ورود منيِّ الرّجل حتّى ينتشر في جسد المرأة، وقوّة انقباض بحيث لا يسيل من فرجها مع كونه منكوسًا، ومع كون المنيِّ ثقيلًا بطبعه، وفي منيِّ الرّجل قوَّة الفعل، وفي منيِّ المرأة قوَّة الانفعال، فعند الامتزاج يصير منيُّ الرّجل كالإنفحة للَّبن، وقيل: في كلٍّ منهما قوَّة فعل وانفعال؛ لكنَّ الأوّل في الرّجل أكثر، وبالعكس في المرأة، وزعم كثير من أهل التّشريح أنّ منيَّ الرّجل لا أثر له في الولد إلّا في عَقْده، وأنّه إنّما يتكوَّن من دم الحيض، وأحاديث الباب تُبطل ذلك، وما ذكر أوّلًا أقرب إلى موافقة الحديث، واللّه أعلم"[1]
قال ابن الأثير رحمه الله: "وَفِيهِ: «إِنَّ خَلْق أحَدِكُم يُجْمَعُ فِي بَطْن أمِّه أربَعين يَوْمًا»؛ أي: إنّ النُّطفة إذا وقعت في الرَّحِم فأراد اللّه أن يَخلُق منها بَشرًا، طارت في جسم المرأة تحت كلِّ ظُفر وشَعَر، ثمّ تمكث أربعين ليلةً، ثمّ تنزل دمًا في الرّحم، فذلك جَمْعُها. كذا فسَّره ابن مسعود فيما قيل. ويجوز أن يُريد بالجمع مُكْث النُّطفة في الرّحم أربعين يومًا تتخمَّر فيه حتّى تتهيَّأ للخَلق والتّصوير، ثم تُخلَق بعد الأربعين"[2]
قال ابن هُبيرة رحمه الله: "ومع ذلك فإنه لا ينبغي أن يركَن الإنسان إلى عمل، ولا يعوِّل على عبادة؛ فإن الله سبحانه وتعالى إذا اطَّردت الأسبابُ خرَقها في نوادر؛ ليتبيَّن بذلك أنه لا تجوز عبادة الأسباب؛ ولكن يُعبَد اللهُ الْمُسَبِّب، فهذا ينبغي أن يُتداوى به في نفي العُجْبِ عن العاملين، لا ترْك العمل الصالح، وفي الحذر من القنوط من رحمة الله تعالى، لا في الزيادة من الذنوب إزماعًا على الهَلَكة"[3]
قال البيضاويُّ رحمه الله: "وإنما يأمر الملَك حسْبما اقتضته حكمته، وسبقت به كلمته، فمَن وجده مستعدًّا لقَبول الحقِّ واتِّباعه، ورآه أهلًا للخير، وأسباب الصلاح متوجهة إليه، أثبته في عداد السعداء، وكتب له أعمالًا صالحةً تناسب ذلك. ومَن وجده جافيًا، قاسيَ القلب، ضاريًا بالطبع، متأبِّيًا عن الحقِّ، أثبت ذِكره في ديوان الأشقياء الهالكين، وكتب له ما يُتوقَّع منه من الشرور والمعاصي. هذا إذا لم يعلم من حاله وقوع ما يقتضي تغيُّر ذلك، فإن علِم من ذلك شيئًا، كتب له أوائل أمره وأواخره، وحكم عليه وَفْقَ ما يتمُّ به عمله؛ فإن مِلاك العمل خواتيمه، وهو الذي يسبق إليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة أو النار"[4]
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "هذا قد يقَع في نادرٍ من الناس، لا أنه غالبٌ فيهم، وذلك من لُطْف الله سبحانه، وسَعة رحمته؛ فإن انقلاب الناس من الشرِّ إلى الخير كثير، وأما انقلابهم من الخير إلى الشرِّ، ففي غاية الندور، ولله الحمد والْمِنَّة على ذلك"[6]
قال ابن رجب رحمه الله: "وَقَوْلُهُ «ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلك»؛ يعني: أربعين يومًا، والعَلَقة قطعة من دم. «ثمّ يكون مُضغةً مثل ذلك»؛ يعني: أربعين يومًا. والمضغة: قطعة من لحم. «ثمّ يرسل اللّه إليه الملك، فينفخ فيه الرّوح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقيّ أو سعيد»، فهذا الحديث يدلُّ على أنّه يتقلَّب في مِائة وعشرين يومًا، في ثلاثة أطوار، في كلّ أربعين يومًا منها يكون في طَور، فيكون في الأربعين الأولى نطفةً، ثمّ في الأربعين الثّانية علقةً، ثمّ في الأربعين الثّالثة، مُضغةً، ثمّ بعد المائة وعشرين يومًا يَنفُخ الملَك فيه الرّوح، ويَكتُب له هذه الأربعَ الكلماتِ. وقد ذكر اللّه تعالى في القرآن في مواضعَ كثيرةٍ تقلُّب الجَنين في هذه الأطوار؛
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾
وذكر هذه الأطوار الثّلاثة: النّطفة والعلقة والمضغة في مواضعَ متعدِّدة من القرآن، وفي مواضعَ أُخَرَ ذكر زيادةً عليها
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَةٍۢ مِّن طِينٍۢ ثُمَّ جَعَلْنَٰهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍۢ مَّكِينٍۢ ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَٰمًا فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَٰمَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَٰهُ خَلْقًا ءَاخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَٰلِقِينَ﴾
فهذه سبع تارات ذكرها اللّه في هذه الآية لخلق ابن آدم قبل نفخ الرّوح فيه"
قال ابن عثيمين رحمه الله: "الروح عجيبة، لها حال في المنام فتخرج من البدن؛ لكن ليس خروجًا تامًّا، فتجد نفسك تجوب الفيافيَ، ربما وصلتَ إلى الصين أو إلى أقصى المغرب، وربما طرتَ بالطائرة، وربما ركبت السيارة، وأنت في مكانك، واللحاف قد غطَّى جسمك، ومع ذلك تتجوَّل في الأرض؛ لكنها لا تفارق الجسم في حال النوم مفارقة تامَّة، فالروح أمرها غريب، ولسنا نعلم منها إلا ما جاء في الكتاب والسنَّة، وما لا نعلمه نَكِلُ علمهُ لله سبحانه وتعالى"[7]
قال ابن القيم رحمه الله: "الجُهَّال بالله وأسمائه وصفاته المعطِّلون لحقائقها يُبَغِّضون الله إلى خلقه، ويقطعون عليهم طريقَ محبَّته، والتودُّد إليه بطاعته من حيث لا يعلمون، ونحن نذكُر من ذلك أمثلة تُحتذى عليها، فمنها أنهم يقرِّرون في نفوس الضعفاء أن الله سبحانه لا تنفع معه طاعةٌ، وإن طال زمانها"[8]
قال ابن حجر رحمه الله: "والمراد أنّه يَكتُب لكلّ أحد إمّا السّعادة وإمّا الشّقاء، ولا يكتبهما لواحد معًا، وإن أمكن وجودهما منه؛ لأنّ الحكم إذا اجتمعا للأغلب، وإذا ترتَّبا فللخاتمة؛ فلذلك اقتصر على أربع، وإلّا لقال: خمس، والمراد من كتابة الرّزق تقديره قليلًا أو كثيرًا، وصفته حرامًا أو حلالًا، وبالأجل هل هو طويل أو قصير؟ وبالعمل هو صالح أو فاسد؟ ووقع لأبي داود من رواية شعبة والثّوريّ جميعًا عن الأعمش: «ثمّ يكتب شقيًّا أو سعيدًا» ومعنى قوله: «شقيّ أو سعيد» أنّ الملك يكتب إحدى الكلمتين؛ كأن يكتب مثلًا أجل هذا الجنين كذا، ورزقه كذا، وعمله كذا، وهو شقيٌّ باعتبار ما يُختَم له، وسعيد باعتبار ما يختم له، كما دلّ عليه بقيّة الخبر"[9]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "رِزْقه: الرزق هنا: ما يَنتفِع به الإنسان، وهو نوعان: رزق يقوم به البَدَن، ورزق يقوم به الدِّين. والرزق الذي يقوم به البدن: هو الأكل والشُّرب واللباس والمسكن والمركوب وما أشبه ذلك، والرزق الذي يقوم به الدين: هو العلم والإيمان، وكلاهما مراد بهذا الحديث"[10]
قال الخطابيُّ رحمه الله: "ظاهر الأعمال من الحسنات والسيئات أمارات، وليس بموجِبات، وأن مصير الأمور في العاقبة إلى ما سبق به القضاء"[11]
المراجع
1. "فتح الباري" لابن حجر (11/ 479، 480).
2. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (1/ 297).
3. "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هُبيرة (2/ 48).
4. "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 92).
5. "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 39).
6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 155، 156).
7. "شرح الأربعين النووية" لابن عثيمين (ص 93).
8. "الفوائد" لابن القيم (ص: 159).
9. "فتح الباري" لابن حجر (11/ 483).
10. "شرح الأربعين النووية" لابن عثيمين (ص85).
11. "أعلام الحديث (شرح صحيح البخاريِّ)" للخطَّابيِّ (2/ 1483).