المعنى الإجماليُّ للحديث
يروي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ – رضي الله عنه -: (بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا)؛ أي: ظهر (رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ) هو جبريل - عليه السلام - أتى النبيَّ ﷺ في صورة رجل لا يعرفونه (لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ)؛ أي: ليس عليه هيئة المسافر من غبرةٍ أو شُعوثة، (وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ)؛ أي: فألصق الرَّجل رُكْبَتَيه برُكْبَتَيِ النبيِّ ﷺ، (وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ)؛ أي: فَخِذَيْ نفسه جالسًا على هيئة المتعلِّم، (وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَام)؛ أي: ما هو الإسلام؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ﷺ»؛ أي: الإسلام أن تَعلَم وتصدِّق وتسلِّم أن لا معبود بحق إلا الله تعالى، وأن محمدًا ﷺ رسول من الله إلى العالمين بذلك. «وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»؛ أي: تأتي بهذه الأركان على وجهها الشرعيِّ بأركانها وشروطها؛ فهذه أركان الإسلام الخمسة التي بُنِيَ عليها الإسلام.
(قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ)؛ أي: قال الرجل للنبيِّ ﷺ: صدقتَ فيما أجبتَ به، فعجب الحضور من الصحابة من الرجل؛ كيف يسأله ويصدِّقه، وهو ليس يُعرَف بلقاء النبيِّ ﷺ؟! ثم هو قد سأل سؤال عارف محقِّق مصدِّق.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»؛ أي: أن تؤمن بهذه الأركان الستة، فهي أركان الإيمان.
قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»؛ أي: الإحسان هو إحسان العبادة، والإخلاص فيها، والخضوع، وفراغ البال حال التلبُّس بها، ومراقبة المعبود، فإن لم تكن في عبادته كأنك تراه، فاستمرَّ على إحسان العبادة، واستحضر أنك بين يدي الله تعالى، وأنه مطَّلِع على سِرِّك وعلانيتك؛ ليحصل لك أصل الكمال.
(قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ)؛ أي: متى تقوم القيامة؟
قَالَ: «مَا الْمَسْؤولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِل»؛ أي: لا يعلم متى الساعة أحدٌ إلا الله، حتى الرسول ﷺ نفسه.
(قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا)؛ أي: علامتها التي تدلُّ على قُرْبِها.
قَالَ: «أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا»؛ قيل: أي: أن تَكثُر السَّراريُّ حتى تلد الأمَة السُّرِّية بنتًا لسيِّدها، فتَصِير البنتُ سيِّدةً لوالدتها؛ حيث إنها بنتُ السيِّد، وقيل غير ذلك.
«وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ»: الحافي: هو مَن لا نعل له، والعاري: هو مَن لا شيء على جسده، والمراد هنا: من ليس عليه ثياب أشراف الناس، والعالة: هم الفقراء، ورعاء الشاء: المراد الأعراب وأصحاب البوادي؛ فالمعنى: أن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والفاقة تُبسَط لهم الدنيا؛ حتى يتباهَوْا في البُنيان.
(قَالَ – أي: عمر -: ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِثْتُ مَلِيًّا). قال عمرُ: ثم ذهب الرجل السائل، فمكثتُ لا أدري مَن الرجل وقتًا غير قصير.
ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا عُمَرُ، أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ»؛ أي: قال النبيُّ ﷺ: ذلك الرجل جبريلُ أتى ليبيِّن لكم أمر دينكم بسؤاله.
الشرح المفصَّل للحديث
إن هذا الحديث حديث عظيم القدر، كبير الشأن، جامعٌ لأبواب الدِّين كلِّها، بأيسر أسلوب، وأوضح عبارة، وقد اشتَمَل على جميع وظائف الأعمال الظاهرة والباطنة، وعلومُ الشريعة كلُّها راجعة إليه، ومتشعِّبة منه؛ حيث يتضمَّن أركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستة، وأركان الإخلاص لله وحده لا شريك له، والساعة وأشراطها.
وقد تناول هذا الحديث الشريف مراتب الدين الثلاث: الإسلامَ والإيمان والإحسان، وإن بين هذه المراتب الثلاث ارتباطًا وثيقًا؛ فدائرةُ الإسلام أوسعُ هذه الدوائر، تليها دائرة الإيمان، فالإحسان، ومن ثمَّ فإن كلَّ محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وقد ردَّ الله تعالى في كتابه الكريم على الأعراب الذين ادَّعَوْا لأنفسهم مقام الإيمان، وهو لم يتمكَّن في قلوبهم بعدُ
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ
فدلَّ ذلك على أن الإيمان أخصُّ وأضيق دائرةً من الإسلام.
وفي هذا الحديث يروي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ – رضي الله عنه -: (بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ): فبينما الصحابة – رضوان الله عليهم - عند النبيِّ ﷺ جُلوسٌ، إذ طلع عليهم ذلك الرجل بهذه الهيئة، فتعجَّب الصحابة من هذا الرجل، فهو غير معروف أنه من أهل البلد، وليس عليه هيئة المسافر؛ فهيئتُه هيئة شابٍّ لا يُرى عليه أثر السفر؛ لأن المسافر يكون أشعثَ أغبرَ؛ لأنهم يسافرون على الإبل، أو على الأقدام، والأرض كلُّها غبار. (حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ)؛ أي: فألصق الرَّجل رُكْبَتَيه برُكْبَتَيِ النبيِّ ﷺ، (وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ)؛ أي: فَخِذَيْ نفسه جالسًا على هيئة المتعلِّم.
" قال العلماء: وَضَع كفَّيْهِ على فَخِذَيْ نفسه، لا على فَخِذَيِ النبيِّ ﷺ، وذلك من كمال الأدب في جِلسة المتعلِّم أمام المعلِّم، بأن يجلس بأدب واستعداد لِما يَسمَع، واستماع لِما يُقال من الحديث"[1].
وهذا الرجل هو جبريلُ - عليه الصلاةُ والسلام – تمثَّل في هيئة ذلك الرجل، وجبريلُ أحد الملائكة العِظام؛ بل هو أفضل الملائكة؛ لشَرَف عمله؛ لأنه يقوم بحمل الوحيِ من الله تعالى إلى الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وقد رآه النبيُّ ﷺ على صورته التي خُلِق عليها مرَّتين:
المرة الأولى: رآه ﷺ وهو في غار حِراء، رآه وله ستُّمِائةِ جَناح، قد سدَّ الأُفُق أمام الرسول ﷺ فلا يرى السماءَ
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ(5)ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ(6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ(7)ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ(8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ
دنا جبريلُ من فوقُ فتدلَّى؛ أي: قَرُب إلى محمدٍ ﷺ فأوحى إلى عبده - الرسول ﷺ - ما أوحاه من وحيِ الله الذي حمَّله إيَّاه.
والمرة الثانية: عند سِدْرة المنتهى
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ(13)عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَىٰ
وقد جعل الله تعالى للملائكة قُدرةً على أن يتشكَّلوا بغير أشكالهم الأصلية، فها هو قد جاء في صورة ذلك الرجل، (وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَام)؛ أي: ما هو الإسلام؟
"ولم يقل: يا رسول الله، أخبرني؛ كصَنيع أهل البادية الأعراب؛ لأن الأعراب إذا جاؤوا إلى النبيِّ ﷺ يقولون: يا محمدُ. أما الذين سَمِعوا أدب اللهِ - عزَّ وجلَّ - لهم فإنهم لا يقولون: يا محمدُ؛ وإنما يقولون: يا رسولَ الله
لأن الله تعالى قال في كتابه:
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا
وهذا يَشمَل دعاءه عند النداء باسمه، ويَشمَل دعاءه إذا أَمَر أو نهى، فلا نَجعَل أمره كأمر الناس: إن شئنا امتثلْنا، وإن شئنا تَرَكْنا، ولا نجعل نهيَه كنهيِ الناس: إن شئنا تَرَكْنا، وإن شئنا فَعَلْنا. كذلك عندما ندعوه، لا ندعوه كدعاء بعضنا بعضًا، فنقول: يا فلانُ يا فلان، مثلما تنادي صاحبَك؛ وإنما تقول: يا رسولَ الله؛ لكن الأعراب - لبُعدهم عن العلم، وجهل أكثرِهم - إذا جاؤوا ينادونه باسمه، فيقولون: يا محمدُ"[2].
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»؛ أي: تَشهَد بلسانك نُطقًا، وبقلبك إقرارًا: أن لا إله إلا اللهُ؛ يعني: لا معبود بحقٍّ إلا اللهُ سبحانه وتعالى. وألوهيةُ الله فرع عن ربوبيَّته؛ لأن من تعبَّد لله أقرَّ بربوبيته؛ إذ إن المعبود لا بدَّ أن يكون ربًّا، ولا بدَّ أن يكون أيضًا كاملَ الصفات؛ حتى يُعبَد بمقتضى هذه الصفات
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا
ادْعوه؛ أي: تعبَّدوا له وتوسَّلوا بأسمائه إلى مطلوبكم؛ فالدعاء هنا يَشمَل دعاء المسألة، ودعاء العبادة.
وقد أرسل الله تعالى بهذه الكلمة (لا إله إلا الله) جميعَ الرسل
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
أي: ابتعدوا عن الشِّرك. فهذه الكلمة إذا حقَّقها الإنسان، وقالها من قلبه ملتزمًا بما تقضيه من الإيمان والعمل الصالح، فإنه يدخل الجنة بها.
قيل لوهب بن منبِّه: أليس "لا إله إلّا اللُّه" مِفتاحُ الجنّة؟ قال: "بلى؛ ولكن ليس مفتاح إلّا له أسنان، فإن جئتَ بمفتاح له أسنان فُتح لك، وإلّا لم يُفتَح لك"[3]؛ يعني: وأسنان هذا المفتاح فعلُ ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى الله عنه.
«وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ﷺ»؛ أي: تشهد بأن محمدًا ﷺ رسولُ الله إلى الناس كافَّةً
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﱠ
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
فهو رسول إلى جميع الخلق، وقال ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»[4].
وقد جمعت الشهادتان: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله) شَرْطَيِ العبادة، وهما: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله ﷺ؛ لأن من قال: "لا إله إلا الله" أخلص لله، ومن شهد أن محمدًا رسول الله، اتَّبَع رسول الله، ولم يَتَّبِع سواه؛ "ولهذا عُدَّ هذان ركنًا واحدًا من أركان الإسلام؛ لأنهما يعودان إلى شيء واحد، وهو تصحيح العبادات؛ لأن العباداتِ لا تصحُّ إلا بمُقتَضى هاتين الشهادتين: شهادةِ أن لا إله إلا الله، التي يكون بها الإخلاص، وأن محمدًا رسول الله التي يكون بها الاتِّباع. وقوله: «وأن محمدًا رسول الله» يجب أن تَشهَد بلسانك، مُقِرًّا بقلبك، أن محمدًا رسول الله، أرسله إلى العالمين جميعًا؛ رحمةً بالعالمين
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَﱠ
وأن تؤمن بأنه خاتم النبيين
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ
فلا نبيَّ بعده، ومن ادَّعى النبوَّة بعده، فهو كافر كاذب، ومن صدَّقه فهو كافر. ويَلزَم من هذه الشهادة أن تتَّبِعه في شرعه وسُنَّته، وأن لا تبتدع في دينه ما ليس منه"[5].
قوله ﷺ:«وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»؛ أي: تأتي بهذه الأركان على وجهها الشرعيِّ بأركانها وشروطها؛ فهذه أركان الإسلام الخمسة التي بُني عليها الإسلام؛ عن عبد الله بن عمرَ قال: قال رسول الله ﷺ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ»[6]. "والمرادُ من هذا الحديث أنَّ الإسلامَ مبنيٌّ على هذه الخمس؛ فهي كالأركان والدَّعائم لبُنْيَانه، وقد خرَّجه محمّدُ بنُ نصرٍ الْمَرْوَزِيُّ في "كتاب الصّلاة" ولفظُه: «بُنِي الإسلام على خمسِ دعائم» فذَكَره. والمقصودُ تمثيلُ الإسلامِ ببُنيانه، ودعائمُ البُنيان هذه الخمسُ، فلا يَثبُت البُنيان بدونها، وبقيَّةُ خِصال الإسلام كتَتمَّة البُنيان، فإذا فُقِد منها شيء، نَقَص البُنيان، وهو قائمٌ لا يَنتقِض بنَقْصِ ذلك، بخِلاف نَقْضِ هذه الدَّعائم الخمسِ، فإنَّ الإسلام يَزُول بفَقْدِها جميعًا بغير إشكال، وكذلك يَزُول بفَقد الشَّهادتينِ، والمرادُ بالشَّهادتين الإيمانُ باللّه ورسوله"[7].
"فأمَّا الإسلامُ، فقد فسَّره النّبيُّ ﷺ بأعمال الجوارح الظّاهرة من القول والعمل، وأوَّلُ ذلك: شهادةُ أن لا إله إلَّا اللَّه، وأنَّ محمَّدًا رسول اللَّه، وهو عمل اللِّسان، ثمّ إقامُ الصّلاة، وإيتاءُ الزّكاة، وصومُ رمضان، وحجُّ البيت لمن استطاع إليه سبيلًا. وهي منقسِمةٌ إلى عمل بدنيٍّ؛ كالصَّلاة والصَّوم، وإلى عمل ماليٍّ؛ وهو إيتاء الزَّكاة، وإلى ما هو مركَّب منهما؛ كالحجِّ بالنِّسبة إلى البَعيد عن مكَّةَ. وفي رواية ابن حبَّانَ أضاف إلى ذلك الاعتمار، والغُسل من الجَنابة، وإتمام الوضوء، وفي هذا تنبيهٌ على أنّ جميع الواجبات الظّاهرة داخلةٌ في مسمَّى الإسلام. وإنَّما ذكر هاهنا أصول أعمال الإسلام الّتي ينبني عليها. وقوله في بعض الرّوايات: (فإذا فعلتُ ذلك، فأنا مسلم؟) قال: «نعم»، يدلُّ على أنَّ من كمَّل الإتيان بمباني الإسلام الخمس، صار مسلمًا حقًّا، مع أنَّ من أقرَّ بالشَّهادتين، صار مسلمًا حُكمًا، فإذا دخل في الإسلام بذلك، أُلزِم بالقيام ببقيَّة خصال الإسلام، ومن ترك الشَّهادتين، خرج من الإسلام، وفي خروجه من الإسلام بترك الصَّلاة خلاف مشهور بين العلماء، وكذلك في تركه بقيَّةَ مباني الإسلام الخمس. وممّا يدلُّ على أنَّ جميع الأعمال الظَّاهرة تدخل في مسمَّى الإسلام: قولُ النّبيِّ ﷺ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»[8]، وفي الصّحيحين عن عبد اللّه بن عمرو أنَّ رجلًا سأل النّبيَّ ﷺ: أيُّ الإسلام خير؟ قال: «أن تُطعِم الطَّعامَ، وتَقرأَ السَّلام على من عرفتَ ومن لم تعرف»... وكذلك ترك المحرَّمات داخلٌ في مسمَّى الإسلام أيضًا"[9].
(قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ)؛ أي: قال الرجل للنبيِّ ﷺ: صدقتَ فيما أجبتَ به، فعجب الحضور من الصحابة من الرجل؛ كيف يسأله ويصدِّقه، وهو ليس يُعرَف بلقاء النبيِّ ﷺ؟! ثم هو قد سأل سؤال عارفٍ محقِّق مصدِّق.
(قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ)، قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»؛ أي: أن تؤمن بهذه الأركان الستة، فهي أركان الإيمان؛ فقد فسَّر النّبيُّ ﷺ الإيمان في هذا الحديث بالاعتقادات الباطنة، وقد ذكر اللّهُ تعالى الإيمان بهذه الأصول في مواضعَ من القرآن الكريم
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِﱠ
وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
"وقد أَدخَل في الإيمانِ الإيمانَ بالقدر خيرِه وشرِّه، ولأجل هذه الكلمة؛ روى ابنُ عمرَ هذا الحديث محتجًّا به على من أَنكَر القَدَر، وزعم أنَّ الأمر أُنُفٌ؛ يعني: أنّه مستأنَفٌ لم يَسبِق به سابقُ قَدَر من اللّه - عزَّ وجلَّ - وقد غلَّظ ابن عمر عليهم، وتبرَّأ منهم، وأخبر أنَّه لا تُقبَل منهم أعمالهم بدون الإيمان بالقدر. والإيمانُ بالقدر على درجتين؛ إحداهما: الإيمان بأنّ اللّه تعالى سَبَق في علمه ما يَعمَله العباد من خير وشرٍّ، وطاعة ومعصية، قبل خلقهم وإيجادهم، ومن هو منهم من أهل الجنَّة، ومن هو منهم من أهل النّار، وأَعَدَّ لهم الثَّوَاب والعقاب؛ جزاءً لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم، وأنّه كتب ذلك عنده وأحصاه، وأنّ أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه. والدَّرجة الثَّانية: أنّ اللّه خَلَق أفعال العباد كلَّها من الكُفر، والإيمان، والطَّاعة، والعصيان، وشاءها منهم"[10].
"فإن قيل: فقد فرَّق النّبيُّ ﷺ في هذا الحديث بين الإسلام والإيمان، وجعل الأعمال كلَّها من الإسلام، لا من الإيمان، والمشهورُ عن السَّلَف وأهل الحديث أنّ الإيمان قولٌ وعمل ونيَّة، وأنّ الأعمال كلَّها داخلة في مسمَّى الإيمان، وحكى الشّافعيُّ على ذلك إجماع الصَّحابة والتّابعين ومَن بعدَهم ممَّن أدركهم، وأنكر السّلف على من أخرج الأعمال من الإيمان إنكارًا شديدًا. وأمّا وجه الجمع بين هذه النّصوص وبين حديث سؤال جبريل - عليه السّلام - عن الإسلام والإيمان، وتفريق النّبيِّ ﷺ بينهما، وإدخاله الأعمال في مسمَّى الإسلام دون الإيمان، فإنّه يتَّضِح بتقرير أصل، وهو أنَّ من الأسماء ما يكون شاملًا لمسمَّيات متعدِّدة عند إفراده وإطلاقه، فإذا قُرن ذلك الاسم بغيره، صار دالًّا على بعض تلك المسمَّيات، والاسم المقرون به دالٌّ على باقيها، وهذا كاسم الفقير والمسكين، فإذا أُفرِد أحدُهما، دخل فيه كلُّ من هو محتاج، فإذا قُرِن أحدهما بالآخر، دلَّ أحد الاسمين على بعض أنواع ذوي الحاجات، والآخَرُ على باقيها، فهكذا اسم الإسلام والإيمان، إذا أُفرِد أحدهما، دَخَل فيه الآخَرُ، ودلَّ بانفراده على ما يدلُّ عليه الآخر بانفراده، فإذا قُرن بينهما، دلَّ أحدُهما على بعض ما يدلُّ عليه بانفراده، ودلَّ الآخر على الباقي، وبهذا التّفصيل الّذي ذكرناه يزول الاختلاف، فيقال: إذا أُفرِد كلٌّ من الإسلام والإيمان بالذِّكر، فلا فرقَ بينهما حينئذ، وإن قُرِن بين الاسمين، كان بينهما فرق. والتَّحقيق في الفرق بينهما: أنَّ الإيمان هو تصديقُ القلب، وإقرارُه، ومعرفته، والإسلام: هو استسلام العبد للَّه، وخضوعُه، وانقياده له، وذلك يكون بالعمل، وهو الدِّين، كما سمَّى اللّه في كتابه الإسلام دينًا، وفي حديث جبريل سمَّى النّبيُّ ﷺ الإسلام والإيمان والإحسان دينًا، وهذا أيضًا ممَّا يدلُّ على أنَّ أحد الاسمين إذا أُفرِد دخل فيه الآخر، وإنَّما يفرَّق بينهما حيث قُرِن أحد الاسمين بالآخر. فيكون حينئذ المراد بالإيمان: جنس تصديق القلب، وبالإسلام جنس العمل"[11].
(قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ)، قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»؛ أي: الإحسان هو إحسان العبادة، والإخلاص فيها، والخضوع، وفراغ البال حال التلبُّس بها، ومراقبة المعبود، فإن لم تكن في عبادته كأنك تراه، فاستمرَّ على إحسان العبادة، واستحضر أنك بين يدي الله تعالى، وأنه مطَّلِع على سِرِّك وعلانيتك؛ ليحصل لك أصل الكمال.
وقد جاء ذكر الإحسان في القرآن في مواضع، تارةً مقرونًا بالإيمان
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
وتارةً مقرونًا بالإسلام
بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
وتارةً مقرونًا بالتّقوى
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ
وقد يُذكَر مفردًا كقوله تعالى:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ
"وقد ثبت في صحيح مسلم عن النّبيِّ ﷺ تفسير الزّيادة بالنّظر إلى وجه اللّه عزَّ وجلَّ في الجنَّة، وهذا مناسب لجعله جزاءً لأهل الإحسان؛ لأنّ الإحسان هو أن يَعبُد المؤمن ربَّه في الدّنيا على وجه الحضور والمراقبة، كأنّه يراه بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته، فكان جزاء ذلك النَّظرَ إلى اللّه عِيانًا في الآخرة... فقوله ﷺ في تفسير الإحسان: «أن تعبد اللّه كأنّك تراه...» إلخ، يُشير إلى أنّ العبد يعبد اللّه على هذه الصِّفة، وهي استحضار قُربه، وأنّه بين يديه كأنّه يراه، وذلك يوجب الخشية والخوف والهَيبة والتَّعظيم، كما جاء في رواية أبي هريرة: «أن تخشى اللّه كأنّك تراه»، ويوجب أيضًا النُّصح في العبادة، وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها"[12].
و"الإحْسَان نوعان: إحسان في عبادة الخالق، بأن يعبد الله كأنَّه يراه، فإن لم يكن يراه فإنَّ الله يراه، وهو الجِدُّ في القيام بحقوق الله على وجه النُّصح، والتَّكميل لها.
وإحسانٌ في حقوق الخَلْق... هو بذل جميع المنافع مِن أيِّ نوعٍ كان، لأيِّ مخلوق يكون؛ ولكنَّه يتفاوت بتفاوت الْمُحْسَن إليهم، وحقِّهم ومقامهم، وبحسب الإحْسَان، وعظم موقعه، وعظيم نفعه، وبحسب إيمان المحْسِن وإخلاصه، والسَّبب الدَّاعي له إلى ذلك"[13].
"ومِن منازل إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين: منزلةُ الإحْسَان، وهي لبُّ الإيمان ورُوحُه وكماله، وهذه المنزلة تجمع جميع المنازل، فجميعُها منطوية فيها"[14].
"فإنَّ الإحْسَان إذا باشر القلب، مَنَعه عن المعاصي، فإنَّ مَن عبد الله كأنَّه يراه، لم يكن كذلك إلَّا لاستيلاء ذكره ومحبَّته وخوفه ورجائه على قلبه، بحيث يصير كأنَّه يشاهده، وذلك سيحول بينه وبين إرادة المعصية، فضلًا عن مُواقَعَتها، فإذا خرج مِن دائرة الإحْسَان، فاته صُحبة رفقته الخاصَّة، وعَيْشهم الهَنيء، ونعيمهم التَّامُّ، فإن أراد الله به خيرًا، أقرَّه في دائرة عموم المؤمنين"[15].
"قال بعض العارفين: اتّق اللّه أن يكون أهونَ النّاظرين إليك. وقال بعضهم: خَفِ اللّه على قدر قُدرته عليك، واستحْيِ منه على قدر قُربه منك. قالت بعض العارفات من السَّلف: من عَمِل للّه على المشاهَدة، فهو عارف، ومن عَمِل على مشاهدة اللّه إيَّاه، فهو مخلص"[16].
(قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ)؛ أي: متى تقوم القيامة؟ قَالَ: «مَا الْمَسْؤولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِل»؛ أي: لا يعلم متى الساعة أحد إلا الله، حتى الرسولُ ﷺ نفسه، وفيه إشارة إلى أنّ اللّه تعالى استأثر بعلمها
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً
وكما في حديث عبد الله بنِ عمرَ رضي الله عليه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
«مَفَاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ: لا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الارْحَامُ إِلَّا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي المَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، وَلا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ»
(قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا)؛ أي: عن علامتها التي تدلُّ على اقترابها. وقد قسَّم العلماء هذه العلاماتِ التي أخبرَ بها النبيُّ ﷺ في الأحاديث إلى علاماتٍ صُغرى وعلاماتٍ كُبرى. أمَّا الأماراتُ أو العلاماتُ الصُّغْرى فكَثيرةٌ، وقد ظهَرَ أغْلَبُها، وفي هذا الحديث يَذكر النبيُّ ﷺ علامتينِ منها، وأمَّا العَلاماتُ الكُبرى، فقد أخبَر بها ﷺ في أكثرَ من موضعٍ، ولم تَظهَر بعدُ، وظهورُها يكون قُبَيْلَ نهاية الزمان، وقيام الساعة؛ ومنها: طلوع الشمس من مغربها، وظُهورُ الـمَهْديِّ الـمُنتظَرِ، وخُروجُ الدَّجَّال، ونُزولُ عيسى بنِ مَريَمَ، وغير ذلك.
وإخبارُ النبيِّ ﷺ بما سيكون في آخر الزمان من أحداث وعلامات تدُلُّ على قُرب قيام الساعة؛ ليكون المسلمُ على بيِّنةٍ من أمره، فيُعِدَّ للأمر عُدَّته من الإيمان والتصديق والتسليم، ويأخذَ حِذْره فيتَّخِذَ من الوسائل ما يُعينه على النجاة من هذه الفتن إنْ هو أدركَها.
قَالَ ﷺ: «أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا» قيل: أي: أن تَكثُر السَّراريُّ حتى تلد الأمَة السُّرِّية بنتًا لسيِّدها، فتَصِير البنتُ سيِّدةً لوالدتها؛ حيث إنها بنتُ السيِّد، وقيل غير ذلك.
"والمرادُ بربَّتها سيِّدتها ومالكتها، وفي حديث أبي هريرة (ربّها)، وهذه إشارة إلى فتح البلاد، وكثرة جلب الرّقيق حتّى تَكثُر السَّراريُّ، ويَكثُر أولادهنَّ، فتكون الأمَة رقيقةً لسيِّدها وأولادُه منها بمنزلته؛ فإنَّ ولد السَّيِّد بمنزلة السَّيِّد، فيصير ولد الأمَةِ بمنزلة ربِّها وسيِّدها. وقيل: معناه أنّ الإماء تلدن الملوك، وقال وكيع: معناه تلد العَجَمُ العَرَبَ، والعربُ ملوكُ العَجَم وأربابٌ لهم"[18].
قوله ﷺ: «وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ»: الحافي: هو مَن لا نعل له، والعاري: هو مَن لا شيء على جسده، والمراد هنا: من ليس عليه ثياب أشراف الناس، والعالة: هم الفقراء، ورعاء الشاء: المراد الأعراب وأصحاب البوادي؛ فالمعنى: أن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والفاقة تُبسَط لهم الدنيا؛ حتى يتباهَوْا في البنيان، والمراد: أنّ أسافل النّاس يصيرون رؤساءهم، وتَكثُر أموالهم حتّى يتباهَوا بطول البنيان وزخرفته وإتقانه. وفي قوله: «يتطاولون في البنيان» دليلٌ على ذمِّ التَّباهي والتَّفاخُر، خاصَّةً بالتَّطاول في البُنيان.
"ومضمونُ ما ذُكِر من أشراط السَّاعة في هذا الحديث يرجع إلى أنّ الأمور توسَّد إلى غير أهلها؛ كما قال النّبيُّ ﷺ: لمن سأله عن السّاعة: «إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر السّاعة»[19]، فإنَّه إذا صار الحفاة العراة رعاء الشّاء - وهم أهل الجهل والجفاء - رؤوسَ النّاس، وأصحابَ الثّروة والأموال، حتّى يتطاولوا في البُنيان، فإنّه يَفسَد بذلك نظام الدّين والدّنيا"[20].
ومما ورد في الأحاديث من علامات الساعة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
بَيْنَمَا النَّبِيُّ ﷺ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ القَوْمَ، جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ القَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: «أَيْنَ - أُرَاهُ - السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟» قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الهَرْجُ - وَهُوَ القَتْلُ القَتْلُ - حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ المَالُ فَيَفِيضَ»
وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، قال:
«إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا، يَنْزِلُ فِيهَا الجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا العِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الهَرْجُ»
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ»
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه،
عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: الدَّجَّالَ، وَالدُّخَانَ، وَدَابَّةَ الْأَرْضِ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَأَمْرَ الْعَامَّةِ، وَخُوَيْصَةَ أَحَدِكُمْ»
وفي ردود النبيِّ ﷺ على من يسأل عن موعد الساعة توجيهٌ إلى أنه ليس مطلوبًا من المؤمن أن يَعرِف موعد يوم القيامة؛ بل المطلوب منه أن يتجهَّز لها بالطاعات والقُربات، وفيه توجيهٌ لأنْ يأخذَ المسلمُ حِذْرَه، ويُحصِّن نفْسه، ومَن هم تحتَ ولايته من شرِّ هذه الفتن ما استطاع إلى ذلك سبيلًا؛
عن أَنَسِ بْن مَالِكٍ رضى الله عنه، قَالَ:
بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِيُّ ﷺ خَارِجَانِ مِنَ المَسْجِدِ، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ المَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟»، فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ، وَلا صَلاةٍ، وَلا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»
(قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِثْتُ مَلِيًّا). قال عمر: ثم ذهب الرجل السائل، فمكثتُ لا أدري من الرجل وقتًا غير قصير. ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا عُمَرُ، أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ»؛ أي: قال النبيُّ ﷺ: ذلك الرجل جبريلُ أتى ليبيِّن لكم أمر دينكم بسؤاله.
المراجع
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 347).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 347).
- "صحيح البخاريِّ" (2/ 71).
- رواه مسلم (250).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 351).
- رواه البخاريُّ (8)، ومسلم (16).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 145).
- رواه البخاريُّ (10).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 98- 101).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 103).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 104- 108).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 126).
- "بهجة قلوب الأبرار" للسعديِّ (204- 206).
- "مدارج السَّالكين" لابن القيِّم (3/319).
- "الجواب الكافي" لابن القيم (55-56).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 129).
- رواه البخاريُّ (4697).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 136 - 137).
- رواه البخاريُّ (59).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 139).
- رواه البخاريُّ (59).
- رواه البخاريُّ (1036)، ومسلم (157).
- رواه البخاريُّ (7062)، ومسلم (2672).
- رواه مسلم (158).
- رواه مسلم (2947).
- رواه البخاريُّ (7153)، ومسلم (2639).
النقول
قال ابن عثيمين رحمه الله: "فبينما الصحابة عند النبيِّ ﷺ جلوس، إذ طلع عليهم رجل «شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد» وهذا غريب! ليس مسافرًا حتى نقول: إنه غريب عن البلد، ولا يُعرَف فنقول: إنه من أهل البلد، فتعجَّبوا منه، ثم هذا الرجل الذي جاء نظيفًا، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر؛ أي: شابٌّ لا يُرى عليه أثر السفر؛ لأن المسافر - لا سيَّما في ذلك الوقت - يكون أشعثَ أغبرَ؛ لأنهم يسافرون على الإبل، أو على الأقدام، والأرض غير مُسفلَتة، كلُّها غبار؛ لكن هذا لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فهو غريب ليس بغريب! حتى جاء وجلس إلى النبيِّ ﷺ، وهذا الرجل هو جبريلُ - عليه الصلاةُ والسلام - أحد الملائكة العظام؛ بل هو أفضل الملائكة فيما نعلمُ؛ لشَرَف عمله؛ لأنه يقوم بحمل الوحيِ من الله إلى الرسل - عليهم الصلاة والسلام - فهو مَلَكٌ عظيم، رآه النبيُّ ﷺ على صورته التي خُلِق عليها مرَّتين: مرَّةً في الأرض، ومرَّة في السماء؛ مرَّةً في الأرض وهو في غار حراء، رآه وله ستمائةِ جَناح، قد سدَّ الأُفُق - كلَّ الأُفق - أمام الرسول ﷺ لا يرى السماءَ من فوقُ؛ لأن هذا الْمَلَك قد سدَّ الأُفق؛ لأنه له ستمائة جناح. سبحان الله!!
لأن الله يقول في الملائكة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍﱠ
لهم أجنحةٌ يَطِيرون بها طيرانًا سريعًا. والمرة الثانية عند سِدْرة المنتهى
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ(6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ
هذا في الأرض، دنا جبريلُ من فوقُ فتدلَّى؛ أي: قَرُب إلى محمدٍ ﷺ فأوحى إلى عبده - الرسول ﷺ - ما أوحاه من وحيِ الله الذي حمَّله إيَّاه. أما الثانية، فقال:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ(13)عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَىٰﱠ
فهذا جبريلُ؛ ولكن الله جعل للملائكة قُدرةً على أن يتشكَّلوا بغير أشكالهم الأصلية، فها هو قد جاء في صورة هذا الرجل.
قوله: «حتى جلس إلى النبي ﷺ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه»؛ أي: أسند رُكبتَيْ جبريلَ إلى ركبتَيِ النبيِّ ﷺ، «ووضع كفَّيه على فَخِذيه». قال العلماء: وَضَع كفَّيْهِ على فَخِذَيْ نفسه، لا على فَخِذَيِ النبيِّ ﷺ، وذلك من كمال الأدب في جِلسة المتعلِّم أمام المعلِّم، بأن يجلس بأدب واستعداد لِما يَسمَع، واستماع لِما يُقال من الحديث"[3].
قال ابن رجب رحمه الله: "فأمَّا الإسلامُ، فقد فسَّره النّبيُّ ﷺ بأعمال الجوارح الظّاهرة من القول والعمل، وأوَّلُ ذلك: شهادةُ أن لا إله إلَّا اللَّه، وأنَّ محمَّدًا رسول اللَّه، وهو عمل اللِّسان، ثمّ إقامُ الصّلاة، وإيتاءُ الزّكاة، وصومُ رمضان، وحجُّ البيت لمن استطاع إليه سبيلًا. وهي منقسِمةٌ إلى عمل بدنيٍّ؛ كالصَّلاة والصَّوم، وإلى عمل ماليٍّ؛ وهو إيتاء الزَّكاة، وإلى ما هو مركَّب منهما؛ كالحجِّ بالنِّسبة إلى البَعيد عن مكَّةَ. وفي رواية ابن حبَّانَ أضاف إلى ذلك الاعتمار، والغُسل من الجَنابة، وإتمام الوضوء، وفي هذا تنبيهٌ على أنّ جميع الواجبات الظّاهرة داخلةٌ في مسمَّى الإسلام. وإنَّما ذكر هاهنا أصول أعمال الإسلام الّتي ينبني عليها. وقوله في بعض الرّوايات: (فإذا فعلتُ ذلك، فأنا مسلم؟) قال: «نعم» يدلُّ على أنَّ من كمَّل الإتيان بمباني الإسلام الخمس، صار مسلمًا حقًّا، مع أنَّ من أقرَّ بالشَّهادتين، صار مسلمًا حُكمًا، فإذا دخل في الإسلام بذلك، أُلزِم بالقيام ببقيَّة خصال الإسلام، ومن ترك الشَّهادتين، خرج من الإسلام، وفي خروجه من الإسلام بترك الصَّلاة خلاف مشهور بين العلماء، وكذلك في تركه بقيَّة مباني الإسلام الخمس. وممّا يدلُّ على أنَّ جميع الأعمال الظَّاهرة تدخل في مسمَّى الإسلام: قولُ النّبيِّ ﷺ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»[2]، وفي الصّحيحين عن عبد اللّه بن عمرو أنَّ رجلًا سأل النّبيَّ ﷺ: أيُّ الإسلام خير؟ قال: «أن تُطعِم الطَّعامَ، وتَقرأَ السَّلام على من عرفتَ ومن لم تعرف»... وكذلك ترك المحرَّمات داخلٌ في مسمَّى الإسلام أيضًا"[3].
قال القاضي عياض رحمه الله: "هذا حديث عظيم قد اشتَمَل على جميع وظائف الأعمال الظاهرة والباطنة، وعلومُ الشريعة كلُّها راجعة إليه، ومتشعِّبة منه"[4].
قال ابن رجب رحمه الله: "والمرادُ من هذا الحديث أنَّ الإسلامَ مبنيٌّ على هذه الخمس؛ فهي كالأركان والدَّعائم لبُنْيَانه، وقد خرَّجه محمّدُ بنُ نصرٍ الْمَرْوَزِيُّ في "كتاب الصّلاة" ولفظُه: «بُنِي الإسلام على خمسِ دعائم» فذَكَره. والمقصودُ تمثيلُ الإسلامِ ببُنيانه، ودعائمُ البُنيان هذه الخمسُ، فلا يَثبُت البُنيان بدونها، وبقيَّةُ خِصال الإسلام كتَتمَّة البُنيان، فإذا فُقِد منها شيء، نَقَص البُنيان، وهو قائمٌ لا يَنتقِض بنَقْصِ ذلك، بخِلاف نَقْضِ هذه الدَّعائم الخمسِ، فإنَّ الإسلام يَزُول بفَقْدِها جميعًا بغير إشكال، وكذلك يَزُول بفَقد الشَّهادتينِ، والمرادُ بالشَّهادتين الإيمانُ باللّه ورسوله"[5].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "جَلَس هذه الجلسة ثم قال: «يا محمدُ، أخبرني عن الإسلام»، ولم يقل: يا رسول الله، أخبرني؛ كصَنيع أهل البادية الأعراب؛ لأن الأعراب إذا جاؤوا إلى النبيِّ ﷺ يقولون: يا محمدُ. أما الذين سَمِعوا أدب اللهِ - عزَّ وجلَّ - لهم فإنهم لا يقولون: يا محمدُ؛ وإنما يقولون: يا رسولَ الله
لأن الله تعالى قال في كتابه:
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا
وهذا يَشمَل دعاءه عند النداء باسمه، ويَشمَل دعاءه إذا أَمَر أو نهى، فلا نَجعَل أمره كأمر الناس: إن شئنا امتثلْنا، وإن شئنا تَرَكْنا، ولا نجعل نهيَه كنهيِ الناس: إن شئنا تَرَكْنا، وإن شئنا فَعَلْنا. كذلك عندما ندعوه، لا ندعوه كدعاء بعضنا بعضًا، فنقول: يا فلانُ يا فلان، مثلما تنادي صاحبَك؛ وإنما تقول: يا رسولَ الله؛ لكن الأعراب - لبُعدهم عن العلم، وجهل أكثرِهم - إذا جاؤوا ينادونه باسمه، فيقولون: يا محمدُ.
قال: «أخبرني عن الإسلام»؛ أي: ما هو الإسلام؟ قال النبيُّ ﷺ: «أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله». هذا الركن الأول: تَشهَد بلسانك نُطقًا، وبقلبك إقرارًا: أن لا إله إلا اللهُ؛ يعني: لا معبود بحقٍّ إلا اللهُ سبحانه وتعالى. وألوهيةُ الله فرع عن ربوبيَّته؛ لأن من تألَّه لله أقرَّ بالربوبية؛ إذ إن المعبود لا بدَّ أن يكون ربًّا، ولا بدَّ أن يكون أيضًا كاملَ الصفات؛ ولهذا تجد الذين يُنكرون صفاتِ الله - عزَّ وجلَّ - عندهم نقصٌ عظيم في العبودية؛ لأنهم يعبدون مَن لا شيء؛ فالربُّ لا بدَّ أن يكون كاملَ الصفات؛ حتى يُعبَد بمقتضى هذه الصفات
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا
ادْعوه؛ أي: تعبَّدوا له وتوسَّلوا بأسمائه إلى مطلوبكم؛ فالدعاء هنا يَشمَل دعاء المسألة، ودعاء العبادة.
المهم أنه قال: «أن تشهد أن لا إله إلا الله»، فما له من الخلق، لا مَلَك مقرَّب، ولا نبيٌّ مرسَل، ولا شمسٌ، ولا قمرٌ، ولا سجود، ولا حجر، ولا برٌّ، ولا بحر، ولا وليٌّ، ولا صديق، ولا شهيد،، ولا إله إلا اللهُ وحدَه.
وهذه الكلمة أرسل الله بها جميع الرسل
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِﱠ
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
أي: ابتعدوا عن الشِّرك. فهذه الكلمة إذا حقَّقها الإنسان، وقالها من قلبه ملتزمًا بما تقضيه من الإيمان والعمل الصالح، فإنه يدخل الجنة بها... وقوله: «وأن محمدًا رسول الله»؛ أي: تشهد بأن محمدَ بنَ عبد الله الهاشميَّ القُرَشيَّ العربيَّ رسولُ الله، ولم يذكر مَن سواه من الرسل؛ لأنه نَسَخ جميعَ الأديان كلُّ ما جاء به الرسول ﷺ فإنه ناسخٌ لما قبله من الأديان، فكلُّ الأديان باطلة ببعثه الرسول ﷺ.
وقوله: «وأن محمدًا رسول الله»؛ أي: إلى الخلق كافَّةً
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﱠ
للعالمين كلهم.
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَﱠ
فهو رسول إلى جميع الخلق. وقد أقسم ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»[6].
وقوله: «أن تشهد أن لا إله إلا الله» مع قوله: «وأن محمدًا رسول الله» هذان جَمَعا شَرْطَيِ العبادة، وهما: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله ﷺ؛ لأن من قال: "لا إله إلا الله" أخلص لله، ومن شهد أن محمدًا رسول الله اتَّبَع رسول الله، ولم يَتَّبِع سواه؛ ولهذا عُدَّ هذان ركنًا واحدًا من أركان الإسلام؛ لأنهما يعودان إلى شيء واحد، وهو تصحيح العبادات؛ لأن العباداتِ لا تصحُّ إلا بمُقتَضى هاتين الشهادتين: شهادةِ أن لا إله إلا الله، التي يكون بها الإخلاص، وأن محمدًا رسول الله التي يكون بها الاتِّباع.
وقوله: «وأن محمدًا رسول الله» يجب أن تَشهَد بلسانك، مُقِرًّا بقلبك، أن محمدًا رسول الله، أرسله إلى العالمين جميعًا؛ رحمةً بالعالمين
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَﱠﱠ
وأن تؤمن بأنه خاتم النبيين
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَﱠ
فلا نبيَّ بعده، ومن ادَّعى النبوَّة بعده، فهو كافر كاذب، ومن صدَّقه فهو كافر. ويَلزَم من هذه الشهادة أن تتَّبِعه في شرعه وسُنَّته، وأن لا تبتدع في دينه ما ليس منه"[7].
قال ابن رجب رحمه الله: "وأمّا الإيمان، فقد فسَّره النّبيُّ ﷺ في هذا الحديث بالاعتقادات الباطنة، فقال: أن تؤمن باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه. وقد ذكر اللّهُ في كتابه الإيمان بهذه الأصول الخمسة في مواضع
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ
َلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(3)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
والإيمانُ بالرُّسل يَلزَم منه الإيمانُ بجميع ما أَخبَروا به من الملائكة، والأنبياء، والكتاب والبعث، والقدر، وغير ذلك من تفاصيل ما أَخبَروا به، من صفات اللّه، وصفات اليوم الآخر؛ كالميزان، والصِّراط، والجنَّة، والنَّار. وقد أَدخَل في الإيمانِ الإيمانَ بالقدر خيرِه وشرِّه، ولأجل هذه الكلمة؛ روى ابنُ عمرَ هذا الحديث محتجًّا به على من أَنكَر القَدَر، وزعم أنَّ الأمر أُنُفٌ؛ يعني: أنّه مستأنَفٌ لم يَسبِق به سابقُ قَدَر من اللّه - عزَّ وجلَّ - وقد غلَّظ ابن عمر عليهم، وتبرَّأ منهم، وأخبر أنَّه لا تُقبَل منهم أعمالهم بدون الإيمان بالقدر. والإيمانُ بالقدر على درجتين؛ إحداهما: الإيمان بأنّ اللّه تعالى سَبَق في علمه ما يَعمَله العباد من خير وشرٍّ، وطاعة ومعصية، قبل خلقهم وإيجادهم، ومن هو منهم من أهل الجنَّة، ومن هو منهم من أهل النّار، وأَعَدَّ لهم الثَّوَاب والعقاب؛ جزاءً لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم، وأنّه كتب ذلك عنده وأحصاه، وأنّ أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه. والدَّرجة الثَّانية: أنّ اللّه خَلَق أفعال العباد كلَّها من الكُفر، والإيمان، والطَّاعة، والعصيان، وشاءها منهم"[8].
قال ابن رجب رحمه الله: "فإن قيل: فقد فرَّق النّبيُّ ﷺ في هذا الحديث بين الإسلام والإيمان، وجعل الأعمال كلَّها من الإسلام، لا من الإيمان، والمشهورُ عن السَّلَف وأهل الحديث أنّ الإيمان قولٌ وعمل ونيَّة، وأنّ الأعمال كلَّها داخلة في مسمَّى الإيمان، وحكى الشّافعيُّ على ذلك إجماع الصَّحابة والتّابعين ومَن بعدَهم ممَّن أدركهم، وأنكر السّلف على من أخرج الأعمال من الإيمان إنكارًا شديدًا. وأمّا وجه الجمع بين هذه النّصوص وبين حديث سؤال جبريل - عليه السّلام - عن الإسلام والإيمان، وتفريق النّبيِّ ﷺ بينهما، وإدخاله الأعمال في مسمَّى الإسلام دون الإيمان، فإنّه يتَّضِح بتقرير أصل، وهو أنَّ من الأسماء ما يكون شاملًا لمسمَّيات متعدِّدة عند إفراده وإطلاقه، فإذا قُرن ذلك الاسم بغيره، صار دالًّا على بعض تلك المسمَّيات، والاسم المقرون به دالٌّ على باقيها، وهذا كاسم الفقير والمسكين، فإذا أُفرِد أحدُهما، دخل فيه كلُّ من هو محتاج، فإذا قُرِن أحدهما بالآخر، دلَّ أحد الاسمين على بعض أنواع ذوي الحاجات، والآخَرُ على باقيها، فهكذا اسم الإسلام والإيمان، إذا أُفرِد أحدهما، دَخَل فيه الآخَرُ، ودلَّ بانفراده على ما يدلُّ عليه الآخر بانفراده، فإذا قُرن بينهما، دلَّ أحدُهما على بعض ما يدلُّ عليه بانفراده، ودلَّ الآخر على الباقي. وبهذا التّفصيل الّذي ذكرناه يزول الاختلاف، فيقال: إذا أُفرِد كلٌّ من الإسلام والإيمان بالذِّكر، فلا فرقَ بينهما حينئذ، وإن قُرِن بين الاسمين، كان بينهما فرق. والتَّحقيق في الفرق بينهما: أنَّ الإيمان هو تصديقُ القلب، وإقراره، ومعرفته، والإسلام: هو استسلام العبد للَّه، وخضوعُه، وانقياده له، وذلك يكون بالعمل، وهو الدِّين، كما سمَّى اللّه في كتابه الإسلام دينًا، وفي حديث جبريل سمَّى النّبيُّ ﷺ الإسلام والإيمان والإحسان دينًا، وهذا أيضًا ممَّا يدلُّ على أنَّ أحد الاسمين إذا أُفرِد دخل فيه الآخر، وإنَّما يفرَّق بينهما حيث قُرِن أحد الاسمين بالآخر. فيكون حينئذ المراد بالإيمان: جنس تصديق القلب، وبالإسلام جنس العمل"[9].
قال ابن القيِّم رحمه الله: "فإنَّ الإحْسَان إذا باشر القلب، مَنَعه عن المعاصي، فإنَّ مَن عبد الله كأنَّه يراه، لم يكن كذلك إلَّا لاستيلاء ذكره ومحبَّته وخوفه ورجائه على قلبه، بحيث يصير كأنَّه يشاهده، وذلك سيحول بينه وبين إرادة المعصية، فضلًا عن مُواقَعَتها، فإذا خرج مِن دائرة الإحْسَان، فاته صُحبة رفقته الخاصَّة، وعَيْشهم الهَنيء، ونعيمهم التَّامُّ، فإن أراد الله به خيرًا، أقرَّه في دائرة عموم المؤمنين"[10].
قال ابن رجب رحمه الله: "وأمّا الإحسان، فقد جاء ذكره في القرآن في مواضع، تارةً مقرونًا بالإيمان، وتارةً مقرونًا بالإسلام، وتارةً مقرونًا بالتّقوى، أو بالعمل، فالمقرون بالإيمان
َيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
والمقرون بالإسلام كقوله تعالى:
بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
والمقرون بالتَّقْوى كقوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ
وقد يُذكَر مفردًا كقوله تعالى:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌﱠ
وقد ثبت في صحيح مسلم عن النّبيِّ ﷺ تفسير الزّيادة بالنّظر إلى وجه اللّه عزَّ وجلَّ في الجنَّة، وهذا مناسب لجعله جزاءً لأهل الإحسان؛ لأنّ الإحسان هو أن يَعبُد المؤمن ربَّه في الدّنيا على وجه الحضور والمراقبة، كأنّه يراه بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته، فكان جزاء ذلك النَّظرَ إلى اللّه عِيانًا في الآخرة... فقوله ﷺ في تفسير الإحسان: «أن تعبد اللّه كأنّك تراه...» إلخ، يُشير إلى أنّ العبد يعبد اللّه على هذه الصِّفة، وهي استحضار قُربه، وأنّه بين يديه كأنّه يراه، وذلك يوجب الخشية والخوف والهَيبة والتَّعظيم، كما جاء في رواية أبي هريرة: «أن تخشى اللّه كأنّك تراه»، ويوجب أيضًا النُّصح في العبادة، وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها"[11].
قال ابن القيِّم رحمه الله: "ومِن منازل إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين: منزلةُ الإحْسَان، وهي لبُّ الإيمان ورُوحُه وكماله، وهذه المنزلة تجمع جميع المنازل، فجميعُها منطوية فيها، وكلُّ ما قيل مِن أوَّل الكتاب إلى هاهنا فهو مِن الإحْسَان"[12].
قال ابن رجب رحمه الله: "قال بعض العارفين: اتّق اللّه أن يكون أهونَ النّاظرين إليك. وقال بعضهم: خَفِ اللّه على قدر قُدرته عليك، واستحْيِ منه على قدر قُربه منك. قالت بعض العارفات من السَّلف: من عَمِل للّه على المشاهَدة، فهو عارف، ومن عَمِل على مشاهدة اللّه إيَّاه، فهو مخلص"[13].
قال السعديُّ رحمه الله: "الإحْسَان نوعان: إحسان في عبادة الخالق، بأن يعبد الله كأنَّه يراه، فإن لم يكن يراه فإنَّ الله يراه، وهو الجِدُّ في القيام بحقوق الله على وجه النُّصح، والتَّكميل لها.
وإحسانٌ في حقوق الخَلْق... هو بذل جميع المنافع مِن أيِّ نوعٍ كان، لأيِّ مخلوق يكون؛ ولكنَّه يتفاوت بتفاوت الْمُحْسَن إليهم، وحقِّهم ومقامهم، وبحسب الإحْسَان، وعظم موقعه، وعظيم نفعه، وبحسب إيمان المحْسِن وإخلاصه، والسَّبب الدَّاعي له إلى ذلك"[14].
قال النووي رحمه الله: "ومعنى «تَلِدُ الأَمَةُ رَبَّتَهَا» أي: سَيِّدَتَهَا، ومعناه: أن تَكثُر السَّراري حتى تَلِد الأمَةُ السُّرِّية بنتًا لسيِّدها، وبنتُ السيِّد في معني السيِّد، وقيل غير ذلك. و«العَالَةُ»: الفقراء، وقوله: «مَلِيًّا»؛ أي: زمنًا طويلًا، وكان ذلك ثلاثًا"[15].
قال ابن رجب رحمه الله: "قول جبريل - عليه السّلام -: أخبرني عن السّاعة، فقال النّبيّ ﷺ: «ما المسؤول عنها بأعلم من السّائل» يعني أنّ علم الخلق كلِّهم في وقت السّاعة سواءٌ، وهذه إشارة إلى أنّ اللّه تعالى استأثر بعلمها؛ ولهذا في حديث أبي هريرة: قال النّبيُّ ﷺ: «خمس لا يعلمهنّ إلّا اللَّهُ تعالى، ثمّ تلا:
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً
قوله: فأخبرني عن أماراتها؛ يعني: عن علاماتها التي تدلُّ على اقترابها، وقد ذكر النّبيُّ ﷺ للسَّاعة علامتين؛ الأولى: «أن تَلِد الأمَةُ ربَّتها»، والمرادُ بربَّتها سيِّدتها ومالكتها، وفي حديث أبي هريرة (ربّها)، وهذه إشارة إلى فتح البلاد، وكثرة جلب الرّقيق حتّى تَكثُر السَّراريُّ، ويَكثُر أولادهنَّ، فتكون الأمَة رقيقةً لسيِّدها وأولادُه منها بمنزلته، فإنَّ ولد السَّيِّد بمنزلة السَّيِّد، فيصير ولد الأمَةِ بمنزلة ربِّها وسيِّدها. وقيل: معناه أنّ الإماء تلدن الملوك، وقال وكيع: معناه تلد العَجَمُ العَرَبَ، والعربُ ملوكُ العَجَم وأربابٌ لهم. والعلامة الثّانية: «أن ترى الحفاة العراة العالة»، والمراد بالعالة: الفقراء، وقوله: «رعاء الشّاء يتطاولون في البنيان» والمراد: أنّ أسافل النّاس يصيرون رؤساءهم، وتَكثُر أموالهم حتّى يتباهَون بطول البنيان وزخرفته وإتقانه. ومضمونُ ما ذُكِر من أشراط السَّاعة في هذا الحديث يرجع إلى أنّ الأمور توسَّد إلى غير أهلها؛ كما قال النّبيُّ ﷺ: لمن سأله عن السّاعة: «إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر السّاعة» [16]، فإنَّه إذا صار الحفاة العراة رعاء الشّاء - وهم أهل الجهل والجفاء - رؤوسَ النّاس، وأصحابَ الثّروة والأموال، حتّى يتطاولوا في البُنيان، فإنّه يَفسَد بذلك نظام الدّين والدّنيا، فإنّه إذا كان رأسُ النّاس من كان فقيرًا عائلًا، فصار مَلِكًا على النّاس، سواءً كان مُلْكُه عامًّا أو خاصًّا في بعض الأشياء، فإنَّه لا يكاد يُعطي النّاس حقوقهم؛ بل يستأثر عليهم بما استولى عليه من المال، فقد قال بعض السّلف: لأن تَمُدَّ يدك إلى فَمِ التِّنِّين، فيَقضِمَها، خيرٌ لك من أن تمدَّها إلى يد غنيٍّ قد عالج الفقر. وإذا كان مع هذا جاهلًا جافيًا، فَسَد بذلك الدِّين؛ لأنّه لا يكون له هِمَّة في إصلاح دين النّاس ولا تعليمهم؛ بل هِمَّته في جباية المال واكتنازه، ولا يبالي بما فسد من دين النّاس، ولا بمن ضاع من أهل حاجاتهم. وفي قوله: «يتطاولون في البنيان» دليلٌ على ذمِّ التَّباهي والتَّفاخُر، خصوصًا بالتَّطاول في البُنيان، ولم يكن إطالة البناء معروفًا في زمن النّبيّ ﷺ وأصحابه؛ بل كان بُنيانهم قصيرًا بقدر الحاجة"[17].
المراجع
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 345 - 347).
- رواه البخاريُّ (10).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 98- 101).
- "شرح مسلم" للقاضي عياض (1/ 204).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 145).
- رواه مسلم (250).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 347 - 351)
- ."جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 102، 103).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 104- 108).
- "الجواب الكافي" لابن القيم (55-56).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 125، 126).
- "مدارج السَّالكين" لابن القيِّم (3/319).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 129).
- "بهجة قلوب الأبرار" للسعديِّ (204- 206).
- "رياض الصالحين" للنوويِّ (ص: 39).
- رواه البخاريُّ (59).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 135 - 141).