عن أبي الدَّرْداءِ قال: سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقولُ: «مَن سلَكَ طريقًا يَلتمِسُ فيه عِلمًا، سهَّلَ اللهُ له طريقًا إلى الجنةِ، وإنَّ الملائكةَ لَتضَعُ أجنحتَها رضًا لطالب العلم، وإنَّ طالبَ العلم يَستغفِرُ له مَن في السماء والأرض، حتى الحيتانُ في الماء، وإنَّ فضلَ العالِم على العابد كفضل القمرِ على سائر الكواكب، وإنَّ العلماءَ ورَثةُ الأنبياء، وإنَّ الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا؛ إنما ورَّثوا العلمَ، فمَن أخذه أخَذ بحظٍّ وافرٍ».

عناصر الشرح

غريب الحديث:

سلَك: دخل أو مشى[1].

يَلتمِس: يطلب[2].

الحِيتان: جمع حُوت، وهو السَّمك، وقيل: ما عَظُم منه[3]. 

الكواكب: جمع كَوْكَب، وهو النَّجْم في السماء[4].

بحظٍّ: نصيب من الكمال[5].

وافر: كثير لا نهايةَ له[6].

المراجع

  1. "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" محمد عبد الرحمن المباركفورى (7/ 376).
  2. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (4/ 270).
  3. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (2/ 26).
  4. انظر: "مختار الصحاح" لمحمد بن أبي بكر الرازي (1/ 271).
  5. "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" محمد علي بن محمد الصديقي الشافعي (7/ 181).
  6. "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" محمد علي بن محمد الصديقي الشافعي (7/ 181).


المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي أبو الدَّرْداءِ أنه سمع رسولَ الله ﷺ يقول: «مَن سلَكَ طريقًا يَلتمِسُ فيه عِلمًا»؛ أي: من سعى إلى طريق يطلب فيه العلم النافع، «سهَّلَ اللهُ له طريقًا إلى الجنةِ»؛ أي: كان جزاؤه أن يُوفِّقه الله تعالى للأعمال الصالحة الموصِّلة إلى الجنة.

ويقول ﷺ: «وإنَّ الملائكةَ لَتضَعُ أجنحتَها رضًا لطالب العلم»؛ أي: تضعُ الملائكة أجنحتها تواضُعًا وخشوعًا، وتعظيمًا لحقِّ طالب العلم، وتوقيرًا لعلمه؛ رضًا عنه وإرضاءً له. «وإنَّ طالبَ العلم يَستغفِرُ له مَن في السماء والأرض، حتى الحيتانُ في الماء» وكأنَّ الكون طُوِّع لطالب العلم محبَّةً ورضًا، فيستغفر له كلُّ الكائنات في السماء والأرض والبحار؛ كرامةً له. «وإنَّ فضلَ العالِم على العابد كفضل القمرِ على سائر الكواكب» فالعالِم كالقمر يُنير للعبَّاد طريق الهدى، أما العابد فهو كالكوكب، لا يتعدَّى نور عبادته إلى غيره.
ويقول ﷺ: «إن العلماءَ ورَثةُ الأنبياء» فالعلماء بمنزلة الأبناء بالنسبة للأنبياء، فهم الذين يرثون عِلم الأنبياء. «إن الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا؛ إنما ورَّثوا العلمَ، فمَن أخذه أخَذ بحظٍّ وافرٍ»؛ أي: فمَن أخَذ العلمَ من الأبناء يكون حظُّه أكثرَ من حظِّ الذي أخَذ المال؛ حيث أخَذ من ميراث النبوَّة بنصيب كامل. 

الشرح المفصَّل للحديث:

رفع الله - عزَّ وجلَّ - شأنَ العلم والعلماء، ووعَد مَن يبذُل جهدَه في هذا الطريق بخير الجزاء في الدنيا والآخرة، فيبيِّن النبيُّ ﷺ عظيمَ فضل الله - عزَّ وجلَّ - وعطائه لِمَن يَجِدُّ في طلب العلم، ويسعى في تحصيله. 

فيقول ﷺ: «مَن سلَكَ طريقًا يلتمِس فيه علمًا» سلوك الطريق يَشمَل الطريقَ الحسيَّ، والطريقَ المعنويَّ؛ فأما الحسيُّ فهو الطريق الذي يسير فيه طالبُ العلم، سواءٌ كان ماشيًا أو راكبًا؛ كأن يأتيَ الإنسان من بيته إلى مكان العلم، سواءٌ كان مكان العلم مسجدًا، أو مدرسةً، أو جامعةً، أو غيرَ ذلك، ومن ذلك أيضًا الرحلة في طلب العلم؛ كأن يرتحل الإنسان من بلده إلى بلد آخَرَ يلتمس العلمَ، ونحو ذلك. والثاني: الطريق المعنويُّ، وهو الطريق الذي يُتوصَّل به إلى العلم؛ كالحفظ والفَهْم، والمدارسة، والمذاكرة، والمطالَعة، سواءٌ أكان مِن أفواه العلماء، أو مِن بُطون الكتب مراجعةً وبحثًا، فمِثلُ هذا يكون سالكًا لطريق العلم وإن كان جالسًا[1].

وكما أطلق ﷺ لفظ الطريق، وأتى به عامًّا ليشمل جميع الطُّرق الحِسِّية والمعنوية الموصِّلة للعلم، كذا أطلق لفظ العلم، وأتى به منكَّرًا؛ ليشمل جميع فروع عِلم الدين ومسائله، وليندرجَ فيه القليل والكثير منه[2]. 

قوله ﷺ: «سهَّلَ اللهُ له طريقًا إلى الجنة»، فمَن كان هذا حالَه، كان جزاؤه أن يُوفِّقه الله تعالى للأعمال الصالحة الموصِّلة إلى الجنة[3]، أو يُسهِّل الله له العلم الذي طلبه، وسَلَك طريقه، ويُيسِّره عليه؛ فإن العلم طريقٌ موصِّلٌ إلى الجنة؛ بل هو من أقربها؛ إذ بالعلم الشرعيِّ يُعرَف الحلال والحرام، ومُرادُ الله من العباد، والوسائل الْمُعينة على رضاه سبحانه وتعالى. والجَنَّة هي دار كرامة الله تعالى ونعيمه لعباده الطائعين، وقد كثُر ذِكرها بأوصافها، وكذا ذِكرُ ما يوصِّل إليها في الكتاب والسُّنة. 

وقوله ﷺ: «وإن الملائكةَ لَتضَعُ أجنحتَها رِضًا لطالب العلم»: الأجنحة في ذوات الجَناح بمثابة اليد من الإنسان، والملائكة خَلقٌ من خَلْق الله - عزَّ وجلَّ - خَلَقهم من نور، لا يَعصُون الله أبدًا، وهم في عبادة دائمة له تعالى؛ قال تعالى: 

﴿ قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾

[التحريم: 6]

وقال سبحانه في وصفهم:

﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

[فاطر: 1]

ويحتمل أن يكون وضعُ الملائكة الأجنحة بمعنى التواضُع والخشوع؛ تعظيمًا لحقِّه وتوقيرًا لعلمه؛ وهذا كقوله تعالى:

﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾

[الإسراء: 24]

وقيل: هو على حقيقته، وإن غاب عن أبصارنا، ومعناه كفُّ الملائكة عن الطيران ونزولها عند طالب العلم، وهذا مِثْلُ قوله ﷺ: «لا يقعد قومٌ يذكُرون الله عز وجل إلا حفَّتهم الملائكة، وغَشِيتهم الرحمة...»[4]. وقيل: معناه: بسْطُ الجَناح وفَرْشها لطالب العلم؛ لتحمِلَه عليها فتبلغه حيث يؤمُّه ويَقصِده من البقاع في طلبه، ومعناه المعونةُ والتيسير له في طلب العلم[5].

 وفِعل الملائكة هذا إنما هو لأجْل الرضا الحاصل منها لطالب العلم، أو إرضاءً لطالب العلم[6]، وهذا معنى قوله ﷺ: «رضًا لطالب العلم».

وقوله ﷺ: «وإنَّ طالبَ العلم يَستغفِرُ له مَن في السماء والأرض، حتى الحيتانُ في الماء» بيانٌ لفضيلة أخرى من الفضائل التي وهَبها الله عز وجل لطالب العلم، وهي أن جميع مَن في السموات، ومَن في الأرض، وحتى الحيتانِ في جَوف البحر، يطلبون من الله المغفرةَ لطالب العلم إذا لحِقَه ذَنْب، ومجازاة على حُسن فِعله؛ وذلك لأن نَفْع طالب العلم يعمُّ جميع الموجودات.

وقد جعل الله تعالى الموجوداتِ من الملائكة والثَّقَلين وغيرِهم، حتى الحيتانِ في البحر، مستغفِرين لهم، طالبين لتَخْلِيَتهم مما لا ينبغي، ولا يَليق بهم من الأوضار والأدناس؛ لأن بركةَ عِلمهم وعمَلهم وإرشادهم وفتواهم سببٌ لرحمة العالَمين[7]. 

ثم بيَّن ﷺ فضلَ ورفعةَ درجة العالِم على العابد، والعالِمُ هو الذي يغلب عليه الاشتغالُ بالعلم، الْمُلِمُّ بقواعده وأصوله، وهو القائم بنشر العلم بعد أدائه ما كُلِّف به من الفرائض والسُّنن المؤكَّدة، والعابد: هو الذي يَغلِب عليه العبادة بأن يَصرِف جُلَّ أوقاته في النوافل بعد تحصيله العلمَ الضروريَّ[8]. 

قوله ﷺ: «وإنَّ فضلَ العالِم على العابد كفَضْل القمرِ على سائر الكواكب»: شبَّه ﷺ العالِمَ بالقمر والعابدَ بالكوكب؛ وذلك لأن كمال العبادة ونورها لا يتعدَّى من العابد إلى غيره، بخلاف العالِم، فإن نَفْع العلم ونوره يتعدَّى منه إلى غيره[9].

فالقمر يُضيء الآفاق، ويمتَدُّ نورُه في أقطار العالَم، وهذه حال العالِم، وأما الكوكب فنُورُه لا يجاوز نفْسَه، أو ما قرُب منه، وهذه حالُ العابد الذي يُضيء نورُ عبادته عليه دون غيره، وإن جاوز نورُ عبادته غيرَه فإنما يجاوزه غيرَ بعيد، كما يجاوز ضَوءُ الكوكب له مجاوزةً يسيرةً[10]. 

وهذه المفاضَلة لا تصحُّ حتى يكون كلُّ واحد منهما قائمًا بما وجب عليه من العلم والعمل؛ فإنَّ العابد لو تركَ شيئًا من الواجبات، أو عَمِلها على جَهْل، لم يستحِقَّ اسمَ العابد، ولا تصحُّ له عبادةٌ، والعالِم لو تركَ شيئًا من الواجبات، لكان مذمومًا، ولم يستحقَّ اسمَ العالِمِ، فإذنْ محلُّ التفضيل: إنما هو في النوافل، فالعابدُ يَستعمِل أزمانه في النوافل من الصلاة والصوم والذِّكر، وغير ذلك، والعالِم يَستعمل أزمانه في طلب العلم وحِفظه وتقييده وتعليمه، فهذا هو الذي شبَّهه بالبدر؛ لأنَّه قد كمُل في نفْسه، واستضاء به كلُّ شيء في العالَم، من حيث إن عِلمه تعدَّى لغيره، وليس كذلك العابد؛ فإنَّ غايته أن ينتفع في نفْسِه؛ ولذلك شبَّهه بالكوكب الذي غايته أن يظهر نفْسَه[11].

قوله ﷺ: «إن الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا؛ إنما ورَّثوا العلمَ، فمَن أخذه أخَذ بحظٍّ وافر»، يَسُوق ﷺ فضيلةً أُخرى للعلماء، فيَذكر أنهم ورَثةُ الأنبياء، فالعلماء بمنزلة الأبناء بالنسبة للأنبياء، وكما أن أبناء الرجُل يَرِثون ماله بعد وفاته، فإن العلماء هم مَن يرثون عِلم الأنبياء، وينقُلونه عنهم، وينشرونه بين الناس؛ وذلك لأن الأنبياء لم يورِّثوا دِينارًا من ذهبٍ، أو درهمًا من الفضة، أو أيَّ لون من ألوان المال؛ وإنما ورَّثوا العلم، فمَن أخَذ العلمَ من الأبناء يكون حظُّه أكثرَ من حظِّ الذي أخَذ المال[12]، أو مَن أخَذ العلم فإنما أخذ من ميراث النبوَّة بنصيب كامل[13]. 

المراجع

  1. انظر: "شرح رياض الصالحين" ابن عثيمين (5/ 433- 434).
  2. انظر: "فتح الباري" ابن حجر (1/ 160)
  3. "فتح الباري" ابن حجر (1/ 160).
  4. رواه مسلم (2700)
  5. "معالم السنن" للخطابي (4/ 183).
  6. انظر: "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" محمد علي بن محمد الصديقي الشافعي (7/ 180).
  7. "شرح الطِّيبيِّ على مشكاة المصابيح" (2/ 673).
  8. انظر: "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" للمباركفوري (7/ 376).
  9. "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" للمباركفوري (7/ 376).
  10. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 65).
  11. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبي (6/ 686).
  12. انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهري الحسين بن محمود بن الحسن الشيرازي (1/ 313).
  13. "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلاني (1/ 167).


النقول:

قال ابن رجب رحمه الله: "وسلوكُ الطّريق لالتماس العلم يَدخُل فيه سلوك الطّريق الحقيقيِّ، وهو المشيُ بالأقدام إلى مجالس العلماء، ويَدخُل فيه سلوك الطّرق المعنويّة المؤدِّية إلى حصول العلم؛ مثل حفظِه، ودراسته، ومذاكرته، ومطالعته، وكتابته، والتّفهُّم له، ونحو ذلك من الطّرق المعنويّة الّتي يُتوصَّل بها إلى العلم. وقوله: «سهّل اللّه له به طريقًا إلى الجنّة» قد يُراد بذلك أنّ اللّه يسهِّل له العلم الّذي طلبه، وسلك طريقه، وييسِّره عليه، فإنّ العلم طريق موصِّل إلى الجنّة؛ وهذا كقوله تعالى:

{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}

[القمر: 17]

قال بعض السّلف: هل من طالب علم فيُعان عليه؟ وقد يراد أيضًا: أنّ اللّه ييسِّر لطالب العلم إذا قصد بطلبه وجه اللّه الانتفاع به، والعمل بمقتضاه، فيكون سببًا لهدايته، ولدخول الجنّة بذلك. وقد ييسِّر اللّه لطالب العلم علومًا أُخَرَ ينتفع بها، وتكون موصِّلةً له إلى الجنّة، كما قيل: من عَمِل بما علم، أورثه اللّه عِلْمَ ما لم يعلم، وكما قيل: ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وقد دلَّ على ذلك قوله تعالى:

{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}

[محمد: 17]

وقد يدخل في ذلك أيضًا تسهيل طريق الجنّة الحسّيِّ يوم القيامة - وهو الصّراط - وما قبله وما بعده من الأهوال، فييسّر ذلك على طالب العلم للانتفاع به؛ فإنّ العلم يدلُّ على اللّه من أقرب الطّريق إليه، فمن سلك طريقه، ولم يَعرُج عنه، وصل إلى اللّه وإلى الجنّة من أقرب الطّرق وأسهلها، فسَهُلت عليه الطّرق الموصِّلة إلى الجنّة كلُّها في الدّنيا والآخرة، فلا طريق إلى معرفة اللّه وإلى الوصول إلى رضوانه والفوز بقربه ومجاورته في الآخرة إلّا بالعلم النّافع الّذي بعث اللّه به رسله، وأنزل به كتبه، فهو الدّليل عليه، وبه يُهتدى في ظلمات الجهل والشُّبَه والشّكوك؛ ولهذا سمّى اللّه كتابه نورًا؛ لأنّه يُهتدى به في الظّلمات، وقال اللّه تعالى:

{قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ 15 يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

[المائدة: 15 - 16]

ومثّل النّبيّ ﷺ حملة العلم الّذي جاء به بالنّجوم الّتي يُهتدى بها في الظّلمات؛ فَفِي "الْمُسْنَدِ[1]عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ:

«إِنَّ مَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ، يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَإِذَا انْطَمَسَتِ النُّجُومُ، أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الْهُدَاةُ»"[2].

قال ابن القيم رحمه الله: "فيه فائدتانِ: إحداهما: أن نور القمر لَمَّا كان مستفادًا من غيره (الشمس) كان تشبيهُ العالِم الذي نورُه مستفادٌ من شمس الرِّسالة بالقمر أَوْلى من تشبيهه بالشمس، والتي نورها من قوَّة ذاتية أودعها الله فيها. والفائدة الثانية: أن الشمس لا يختلف حالُها في نورها، ولا يلحقها محاقٌ، ولا تفاوتٌ في الإضاءة، وأما القمر فإنه يَقِلُّ نوره، ويكثُر، ويمتلئ ويَنقص، كما أن العلماء في العلم على مراتبهم من كثرته وقلَّته، فيَفضُل كلٌّ منهم في علمه بحسب كثرته، وقلَّته، وظهوره، وخفائه، كما يكون القمر كذلك، فعالِمٌ كالبدر ليلةَ تمامه، وآخَرُ دونه بليلةٍ، وثانية، وثالثة، وما بعدها، إلى آخر مراتبه، وهم درجات عند الله"[3].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: «جعل الموجودات من الملائكة والثَّقَلين وغيرهم حتى الحيتان في البحر مستغفرين لهم، طالبين لتخليتهم مما لا ينبغي، ولا يَليق بهم من الأوضار والأدناس؛ لأن بركةَ عِلمهم وعمَلهم وإرشادهم وفتواهم سببٌ لرحمة العالَمين»[4]. 

قال ابن رجب رحمه الله: "وما دام الْعِلْمُ باقِيًا في الأرض، فَالنَّاسُ في هُدًى، وبقاءُ العلم بَقَاءُ حَمَلَتِهِ، فإذا ذهب حَمَلَتُهُ وَمَنْ يَقُومُ به، وَقَعَ النَّاسُ في الضَّلَالِ؛ كما في الصحيحين عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:

«إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ النَّاسِ؛ وَلَكِنْ يَقْبِضُهُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»[5]"[6]. 

قال ابن القيم رحمه الله: «القمر يُضيء الآفاق، ويمتَدُّ نورُه في أقطار العالَم، وهذه حال العالِم، وأما الكوكب فنُورُه لا يجاوز نفْسَه، أو ما قرُب منه، وهذه حالُ العابد الذي يُضيء نورُ عبادته عليه دون غيره، وإن جاوز نورُ عبادته غيرَه فإنما يجاوزه غيرَ بعيد، كما يجاوز ضَوءُ الكوكب له مجاوزةً يسيرةً»[7].

وقال أبو العبَّاس القرطبيُّ رحمه الله: "هذه المفاضَلة لا تصحُّ حتى يكون كلُّ واحد منهما قائمًا بما وجب عليه من العلم والعمل؛ فإنَّ العابد لو تركَ شيئًا من الواجبات، أو عَمِلها على جَهْل، لم يستحِقَّ اسمَ العابد، ولا تصحُّ له عبادةٌ، والعالِم لو تركَ شيئًا من الواجبات، لكان مذمومًا، ولم يستحقَّ اسمَ العالِمِ، فإذنْ محلُّ التفضيل: إنما هو في النوافل، فالعابدُ يَستعمِل أزمانه في النوافل من الصلاة والصوم والذِّكر، وغير ذلك، والعالِم يَستعمل أزمانه في طلب العلم وحِفظه وتقييده وتعليمه، فهذا هو الذي شبَّهه بالبدر؛ لأنَّه قد كمُل في نفْسه، واستضاء به كلُّ شيء في العالَم، من حيث إن عِلمه تعدَّى لغيره، وليس كذلك العابد؛ فإنَّ غايته أن ينتفع في نفْسِه؛ ولذلك شبَّهه بالكوكب الذي غايته أن يظهر نفْسه"[8].

قال عبد المحسن العباد: «إن الجزاء من جنس العمل، فكما أن الإنسان سلك طريقًا للعلم، فجزاؤه أنه يُسهِّل له طريق الجنة، والجزاءُ من جِنس العمل، فالعمل هو سلوكُ طريق يوصِّل إلى العلم، والجزاء هو: تسهيلُ وتيسيرُ طريق يوصِّل إلى الجنة، فهذا يدُلُّ على فضل العلم، وأن شأنه عظيم، وفضله كبير، وأن مَن سلَك الطريقة الموصِّلة إلى العلم، فإنه يُجازى على ذلك بأن ييسِّر له الطريق والسبيل التي توصِّله إلى الجنة»[9].

قال ابن القيم رحمه الله: "هذا من أعظم المناقب لأهل العلم؛ فإن الأنبياء خيرُ خَلْق الله، فورثتُهم خيرُ الخَلْق بعدَهم، ولَمَّا كان كلُّ موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته؛ إذ هم الذين يقومون مقامَه من بعده، ولم يكن بعد الرسل مَن يقوم مقامَهم في تبليغ ما أُرسِلوا به إلا العلماء، كانوا بذلك أحقَّ الناس بميراثهم، وفي هذا تنبيهٌ على أنهم أقربُ الناس إليهم؛ فإن الميراث إنما يكون لأقرب الناس إلى الموروث، وهذا كما أنه ثابتٌ في ميراث الدينار والدرهم، فكذلك هو في ميراث النبوَّة، والله يختصُّ برحمته مَن يشاء"[10].

قال الخطَّابيُّ رحمه الله: "إن الله قد قيَّض للحيتان وغيرها من أنواع الحيوان بالعلم على ألسنة العلماء أنواعًا من المنافع، والمصالح، والإرفاق، فهم الذين بيَّنوا الحكمَ فيها فيما يحلُّ ويحرُمُ منها، وأرشدوا إلى المصلحة في بابها، وأوصَوْا بالإحسان إليها، ونفي الضرر عنها، فألهمها الله الاستغفار للعلماء؛ مجازاةً على حُسن صنيعهم بها، وشفقتهم عليها"[11].

قال ابن رجب رحمه الله: "العلم قسمان: أحدُهما: ما كان ثمرته في قلب الإنسان، وهو العلم باللّه تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله المقتضية لخشيته، ومهابته، وإجلاله، والخضوع له، ومحبَّته، ورجائه، ودعائه، والتّوكُّل عليه، ونحو ذلك، فهذا هو العلم النّافع؛ كما قال ابن مسعود: إنّ أقوامًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيَهم؛ ولكن إذا وقع في القلب، فرَسَخ فيه، نفع. وقال الحسن: العلم علمان: علم على اللّسان، فذاك حُجَّة اللّه على ابن آدم، وعلم في القلب، فذاك العلم النّافع.

والقسم الثّاني: العلم الّذي على اللّسان، وهو حجّة اللّه كما في الحديث: «القرآن حجَّةٌ لك أو عليك»[12]، فأوّل ما يُرفَع من العلم: العلم النّافع، وهو العلم الباطن الّذي يخالط القلوب ويُصلِحها، ويبقى علم اللّسان حجّةً، فيتهاون النّاس به، ولا يعملون بمقتضاه، لا حَمَلته ولا غيرهم، ثمّ يذهب هذا العلم"[13].

المراجع

  1. مسند أحمد (12627).
  2. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 297، 298).
  3. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/65).
  4. "شرح الطِّيبيِّ على مشكاة المصابيح" (2/ 673).
  5. رواه البخاريُّ (100)، ومسلم (2673).
  6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 298).
  7. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 65).
  8. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العبَّاس القرطبيِّ (6/ 686).
  9. "شرح سنن أبي داود" عبد المحسن العباد (3/412) وهو تفريغ صوتي لدروس الشيخ، ورقم الجزء هو رقم الدرس.
  10. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/66).
  11. "معالم السنن شرح سنن أبي داود" للخطابيِّ (4/ 183).
  12. رواه مسلم (223).
  13. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 299).


مشاريع الأحاديث الكلية