المعنى الإجماليُّ للحديث:
يروي الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ رضي الله،
عنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ»:
يبشِّر ﷺ أُمَّته أن هذا الدِّين باقٍ إلى قيام الساعة، ببقاء فئة ثابتةٍ على الحقِّ ظاهرة على الناس.
وفي رواية: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ»
وفي هذه الرواية زيادة في صفات هذه الطائفة: أنهم قائمون بأمر دينه وأحكام شريعته، وأنهم لا يضرُّهم من خذلهم أو خالفهم، وظاهرون على الناس حتى قيام الساعة.
الشرح المفصَّل للحديث
كرَّم اللهُ هذه الأُمةَ بأن جعَل الحقَّ فيها قائمًا وظاهرًا إلى قيام الساعة، وأن الحقَّ لا يَزال فيها باقيًا ببقاء الصادقين الحامِلين له، المدافِعين عنه، والداعين إليه إلى أن يشاءَ اللهُ عز وجل.
وفي هذا الحديث بيان ذلك
لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ»،
و"الطائفةُ: الجماعةُ من الناس، والتنكيرُ للتقليل، أو التعظيم؛ لعِظَم قَدْرهم، ووُفور فَضْلهم، ويَحتمِل التكثير أيضًا؛ فإنهم وإن قلُّوا فهم الكثيرون؛ فإن الواحد لا يُساويه الألف؛ بل هم الناسُ كلُّهم"[1].
وقد اختلَف العلماء في تحديد هذه الطائفة؛ فقيل: هم أهلُ الحديث، وقيل: هم المجاهِدون، وقيل غيرُ ذلك، "ويُحتمَل أن تكون هذه الطائفةُ متفرِّقةً من أنواع المؤمنين؛ فمنهم: شُجْعانٌ مقاتلون، ومنهم فقهاءُ، ومنهم محدِّثون، ومنهم زُهَّاد، ومنهم آمِرون بالمعروف وناهُون عن المنكَر، ومنهم أهلُ أنواعٍ من الخير، ولا يَلزم اجتماعُهم؛ بل يكونون متفرِّقين[2].
وقوله ﷺ: «ظَاهِرِينَ»، المراد بالظُّهور هنا الغَلَبة؛ أي: غالبون لعدوِّهم. أو المراد: أنهم غيرُ مُستَتِرين؛ بل مشهورون مَعْروفون[3]، والمراد بأمر الله في قوله ﷺ: «حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ»: الرِّيحُ الطَّيِّبةُ التي تكون قبْلَ قيام الساعة تَقبض أرواحَ المؤمنين؛ لحديث أبي هريرة ، عن رسول الله ﷺ قال: «إن اللهَ يبعَثُ رِيحًا من اليمن ألْيَن من الحرير، فلا تدعُ أحدًا في قلبه مثقالُ حبَّة إيمان»[4].
فـ"المراد بقوله ﷺ: «حتى يأتي أمرُ الله» الرِّيحُ التي تأتي فتأخذ رُوحَ كل مؤمنٍ ومؤمِنة، وأن المراد برواية مَن روى: «حتى تقوم الساعة»[5]؛ أي: تقرُب الساعة، وهو خروج الرِّيح"[6].
وقوله ﷺ: «حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ» فيه بشارةٌ ببقاء هذه الفئة منتصرةً غالبةً حتى يأتي أمر الله «وَهُمْ ظَاهِرُونَ»؛ أي: غالبون على مَن خالَفهم.
وفي الرواية الأُخرى زاد بعض الصفات التي اتَّصَفت بها هذه الطائفةُ، حيث قال ﷺ في وَصْفهم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ»، فمِن صفاتهم أنهم قائمون بأمر الله؛ أي: "بأمر دينه وأحكام شريعته، من حِفظ الكتاب، وعِلم السُّنة، والاستنباط منهما، والجهاد في سبيله، والنصيحة لخَلْقه، وسائر فروض الكفاية، كما يُشير إليه قوله تعالى:
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
ومِن صفاتهم أيضًا: أنهم لا يضرُّهم في دينهم أو في غلبتهم وظهورهم «مَنْ خَذَلَهُمْ»؛ أي: مَن ترك عَوْنهم ونَصْرهم؛ بل في الحقيقة إنما ضرَّ نفْسه وظلَمها، وكذا لا يضرُّهم مَن «خَالَفَهُمْ»؛ أي: لم يوافِقْهم على أمرهم[8]
المراجع
- "حاشية السنديِّ على سنن ابن ماجه" (1/ 7)
- "شرح النوويِّ على مسلم" (13/ 67).
- انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (13/ 294).
- رواه مسلم (117)
- رواه البخاريُّ (7312)، وفيه: «ولن يَزال أمر هذه الأمة مستقيمًا حتى تقوم الساعة، أو: حتى يأتي أمر الله»، ورواه مسلم (1822) ولفظه: «لا يَزال الدين قائمًا حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفةً، كلهم من قريشٍ». وفي رواية ابن ماجه (6)، قال: «لا تَزال طائفةٌ من أمتي منْصورين، لا يضرُّهم مَن خذَلهم حتى تقوم الساعة».
- "شرح النوويِّ على مسلم" (13/ 66).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للمُلَّا علي القاري (9/ 4047).
- انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للمُلَّا علي القاري (9/ 4047)
النقول
قال السِّنديُّ رحمه الله : "الطائفةُ: الجماعةُ من الناس، والتنكيرُ للتقليل، أو التعظيم؛ لعِظَم قَدْرهم، ووُفور فَضْلهم، ويَحتمِل التكثير أيضًا؛ فإنهم وإن قلُّوا فهم الكثيرون؛ فإن الواحد لا يُساويه الألف؛ بل هم الناسُ كلُّهم"[1].
قال النوويُّ رحمه الله: "ويُحتمَل أن تكونَ هذه الطائفةُ متفرِّقةً من أنواع المؤمنين؛ فمنهم شجعانٌ مقاتلون، ومنهم فقهاءُ، ومنهم محدِّثون، ومنهم زُهَّادٌ، ومنهم آمِرون بالمعروف وناهون عن المنكَر، ومنهم أهل أنواع من الخير، ولا يَلزَم اجتماعهم؛ بل يكونون متفرِّقين[2].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "وقوله: «ولن تزال هذه الأمةُ قائمةً على أمر الله»، يريد أن أمَّته آخِرُ الأمم، وأن عليها تقوم الساعة، وإن ظهرت أشراطها، وضَعُف الدين، فلابدَّ أن يبقى من أمَّته من يقوم به، والدليل على ذلك قوله: «لا يضرُّهم من خالفهم»، وفيه أن الإسلام لا يُذلُّ، وإن كثُر مطالبوه. فإن قيل: فقد روى عبد الرزَّاق، عن معمر، عن ثابت، عن أنس،
« لا تقوم الساعة حتى لا يقول أحد: الله الله»، وروى ابن مسعود، أن النبيَّ ﷺ، قال: «لا تقوم الساعة إلا على شِرار الناس»،
عن علىِّ بنِ الأقمر، عن أبى الأحوص، عن عبد الله، وهذه معارضة لحديث معاوية. قال الطبريُّ: ولا معارضة بينهما بحمد الله؛ بل يحقِّق بعضها بعضًا، وذلك أن هذه الأحاديث خَرَج لفظها على العموم، والمراد منها الخصوص، ومعناه: لا تقوم الساعة على أحدٍ يُوحِّد الله إلا بموضع كذا، فإن به طائفة على الحقِّ، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس بموضع كذا؛ لأن حديث معاوية ثابت، ولا يجوز أن تكون الطائفة القائمة بالحقِّ التي توحِّد الله التي هي شرار الناس. فثَبَت أن الموصوفين بأنهم شرار الناس غير الموصوفين بأنهم على الحقِّ مقيمون. وقد جاء ذلك بَيِّنًا في حديث أبى أُمامة الباهليِّ، وحديث عمرانَ بنِ حُصينٍ، قال الطبريُّ: حدَّثنا محمد بن الفرج، حدَّثنا ضمرة بن ربيعة، حدَّثنا يحيى بن أبى عمرو الشيبانيِّ، عن عمرو بن عبد الله الحمصيِّ، عن أبى أمامة الباهليِّ، أن النبيَّ ، قال: «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحقِّ، لا يضرُّهم من خالَفهم»، قيل: فأين هي يا رسول الله؟ قال: «ببيت المقدس، أو أكناف بيت المقدس».
وروى قتادة عن مطرِّف بن الشخِّير، عن عمرانَ بنِ حُصينٍ، عن الرسول ﷺ، قال:
«لا تزال طائفةٌ من أمَّتى يقاتلون على الحقِّ ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم الدجال». قال مطرِّف: وكانوا يرون أنهم أهل الشام"
قال الديوبنديُّ رحمه الله: "ومعنى قوله: (ولن تزال)؛ أي: لا يخلو زمان إلا وتوجد فيه تلك الطائفة القائمة على الحقِّ، لا أنهم يَكثُرون في كلِّ زمان، ولا أنهم يغلبون على من سواهم كما سبق إلى بعض الأفهام، حتى إن غلبة الدين في زمن عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام عندي ليس كما اشتهر على الألسنة؛ بل الموعود هو الغلَبة حيث يظهر عليه الصَّلاة والسَّلام وفيما حواليه. أما فيما وراء ذلك فلم يتعرَّض إليه الحديث، والعمومات كلُّها واردة في البلاد التي يظهر فيها ولا تتجاوز فيما وراءها؛ وإنما هو من بداهة الوهم والسَّبق إلى ما اشتَهَر بين الأنام"[4].
قال النَّوويُّ رحمه الله: "المراد بقوله ﷺ: «حتى يأتي أمرُ الله» الرِّيحُ التي تأتي فتأخذ رُوحَ كل مؤمنٍ ومؤمِنة، وأن المراد برواية مَن روى: «حتى تقوم الساعة»[5]، أي: تقرُب الساعة، وهو خروج الرِّيح"[6]
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "بيان استنباط الأحكام: الأول: فيه دلالة على حُجِّية الإجماع؛ لأن مفهومه أن الحقَّ لا يعدو الأمَّة، وحديث: «لا تجتمع أمتي على الضّلالة» ضعيف. الثّاني: استَدلَّ به البعض على امتناع خُلوِّ العصر عن المجتهد. الثّالث: فيه فضل العلماء على سائر النّاس. الرّابع: فيه فضل الفقه في الدّين على سائر العلوم؛ وإنّما ثبت فضله لأنّه يقود إلى خشية الله تعالى والتزام طاعته. الخامس: فيه إخباره - عليه الصّلاة السّلام - بالمغيبات. وقد وقع ما أخبر به، وللّه الحمد، فلم تزل هذه الطّائفة من زمنه وهلمّ جرًّا، ولا تزول حتّى يأتي أمر الله تعالى[7]
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: (ظَاهِرين)؛ أَي: غَالِبين على سَائِر النَّاس بالبرهان، أَو بِهِ أَو بِالسِّنَانِ. قَوْله: (على النَّاس) ويروى: (على الْخلق)، وَقَالَ البُخَارِيُّ فِيمَا مضى: وهم أهل الْعلم. قَوْله: (حَتَّى يَأْتِيهم أَمر الله)؛ أَي: يَوْم الْقِيَامَة أَو علاماتها"[8].
المراجع
- "حاشية السنديِّ على سنن ابن ماجه" (1/ 7).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (13/ 67).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 155، 156).
- "فيض الباري على صحيح البخاري" للديوبنديِّ (1/ 254).
- رواه البخاريُّ (7312)، وفيه: «ولن يَزال أمر هذه الأمة مستقيمًا حتى تقوم الساعة، أو: حتى يأتي أمر الله»، ورواه مسلم (1822) ولفظه: «لا يَزال الدين قائمًا حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفةً، كلهم من قريشٍ». وفي رواية ابن ماجه (6)، قال: «لا تَزال طائفةٌ من أمتي منْصورين، لا يضرُّهم مَن خذَلهم حتى تقوم الساعة».
- "شرح النوويِّ على مسلم" (13/ 66)
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (2/ 52).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (25/ 141)
غريب الحديث
الطائفة: الجماعةُ من الناس[1]
ظاهرين: مُنتصِرين وغالبين[2]
المراجع
- النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 153)
- نظر: "إرشاد الساري شرح صحيح البخاري" للقسْطلَّانيِّ (10/ 324)