المعنى الإجماليُّ للحديث
يروي أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عن رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أنه قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»؛ أي: كلُّ المسلمين يدخلون الجنة إلا الذي يرفض ويمتنع.
(قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟!)؛ أي: ومن ذا الذي يمتنع عن دخول الجنة وقد دُعِيَ إليها؟!
قال ﷺ : «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»؛ أي: إن الذي يطيع الرسول ﷺ هو الذي قَبِل الدعوة وأطاعه، أما الذي يَعصيه بعدم الإيمان به، أو باتِّباعه سبيلَ المعاصي والشهوات، فذلك الذي يمتنع عن دخول الجنة.
الشرح المفصَّل للحديث
يبيِّن النبيُّ ﷺ في هذا الحديث أصلاً عظيمًا من أصول الدين، ألا وهو اتِّباع النبيِّ ﷺ، ويكون ذلك بامتثال أمره، واجتناب ما نهى عنه، وقد أمرَ الله عزَّ وجلَّ عباده باتِّباع نبيِّه والاقتداء بسنَّته؛
وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحۡذَرُواْۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ
وتوعَّد مَن خالَفَ أمرَه، ورَغِب عن سنَّته
فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ
قوله ﷺ : «كلُّ أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى»: المراد بالأمَّة هنا: أمَّةُ الدعوة، وهي من بُعِث إليهم ﷺ ، وقد أُرسل للعالَمين من الجنِّ والإنس، فالجنُّ مكلَّفون مثلُ البَشَر، والحُجَّة قائمة عليهم. وقيل: أمَّة الإجابة، وهي مَن صدَّقه وآمن به ﷺ ، وهم المسلمون، «أبى»؛ أي: امتنع، إما عن قَبول الدعوة والدخول في الإسلام، فيكون كافرًا، أو بتركه الطاعةَ التي هي سببٌ في دخول الجنَّة، فيكون مسلمًا عاصيًا.
قوله ﷺ : «من أطاعني»؛ أي: انقاد وأَذعَن لِما جئتُ به، فيكون جزاؤه الفوزَ بالجنَّة ونعيمِها الأبديِّ، «ومن عصاني»: بعدم التصديق، أو بفعل المنهيِّ عنه، فله سوء الْمُنقلَب بإبائه وعصيانه.
والموصوفُ بالإباء إن كان كافرًا، لا يدخل الجنة أصلاً، وإن كان مسلمًا، لم يدخلها مع السابقين الأوَّلين، فمن أطاع النبيَّ ﷺ وتمسَّك بالكتاب والسنَّة، دخل الجنَّة، ومن اتَّبَع هواه وزلَّ عن الصواب والطريق المستقيم، دخل النار [1]
وقد جعل الله عزَّ وجلَّ طاعة النبيِّ ﷺ واتِّباعه سببًا في جلب محبَّته سبحانه، وغفران الذنوب؛
قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞﱠ
"هذه الآية حاكمةٌ على كلِّ من ادَّعى محبَّة الله، وليس هو على الطريقة المحمَّدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتَّبِع الشرع المحمديَّ، والدين النبويَّ في جميع أقواله وأحواله، كما ثبَت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»[2]؛ ولهذا
قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
أي: يَحصُل لكم فوقَ ما طلبتم من محبَّتكم إيَّاه، وهو محبَّته إيَّاكم، وهو أعظمُ من الأول؛ قال الحسن البصريُّ وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبُّون الله، فابتلاهم الله بهذه الآية
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
أي: باتِّباعكم للرسول ﷺ يَحصُل لكم هذا كلُّه ببركة سفارته" [3]
المراجع
- "فيض القدير" للمناويِّ (5/ 12) بتصرف.
- رواه مسلم (1718).
- "تفسير ابن كثير" (2/ 32).
النقول:
قال الطيبيُّ رحمه الله: "«كلُّ أمَّتي يدخلون الجنة» يُحتمَل أن يُراد بالأمَّة أُمَّةُ الدعوة؛ أي: كلُّهم يَدخُلون الجنة على التفصيل السابق في باب الإيمان، والآبي هو الكافر، أو يُراد بها أمَّة الإجابة؛ فالآبي هو العاصي من أمَّته، استثناه تغليظًا عليهم، وزجرًا عن المعاصي، «ومن أبى» عطفٌ على محذوف؛ أي: عَرَفنا الذين يَدخُلون الجنَّة، ومن الذي أبى؟ أي: والذي أبى لا نَعرِفه، وكان من حقِّ الجواب أن يُقال: من عصاني، فعَدَل إلى ما هو عليه؛ تنبيهًا به على أنهم ما عَرَفوا ذلك ولا هذا؛ إذ التقديرُ: من أطاعني وتمسَّك بالكتاب والسنَّة، دَخَل الجنَّة، ومن اتَّبَع هَوَاه، وزلَّ عن الصواب، وضلَّ عن الطريق المستقيم، فقد دخل النار، فوضع «أبى» موضِعَه وضعًا للسبب موضعَ المسبّب، ويَشُدُّ هذا التأويلَ إيرادُ محيي السنَّة هذا الحديث في باب الاعتصام بالكتاب والسنَّة، والتصريح بذكر الطاعة؛ فإن المطيع هو الذي يعتصم بالكتاب والسنَّة، ويجتنب الأهواء والبدع"[1].
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «إلا مَن أبى»؛ أَيِ: امْتنع عن قَبُول الدعوة أو عن امتثال الأمر، فإن قلتَ: العاصي يدخل الْجنَّة أيضًا؛ إِذ لا يبقى مخلَّدًا في النَّار؟ قلت: يعني لا يدخل في أوَّل الْحَال، أو الْمُرَاد بالإباء الامْتِنَاعُ عن الإسلام"[2]
قال القسطلانيُّ رحمه الله: "«كلُّ أمتي»؛ أي: أمة الإجابة، «يدخلون الجنة إلا مَن أبى» بفتح الهمزة والموحَّدة، من عَصَى منهم، فاستثناهم تغليظًا عليهم، وزجرًا عن المعاصي، أو المراد أمَّة الدعوة، و«إلا مَن أبى»؛ أي: كَفَر بامتناعه عن قَبول الدعوة.
«قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى». قال في "شرح المشكاة": ومن يأبى معطوف على محذوف؛ أي: عَرَفنا الذين يَدخُلون الجنة، والذي أبى لا نعرفه، وكان من حقِّ الجواب أن يُقال: من عصاني، فعَدَل إلى ما ذكره؛ تنبيهًا به على أنهم ما عَرَفوا ذاك ولا هذا؛ إذ التقديرُ: من أطاعني وتمسَّك بالكتاب والسُّنّة دخل الجنة، ومن اتَّبع هواه وزلَّ عن الصواب وضلَّ عن الطريق المستقيم، دخل النار، فوضع (أبى) موضعه؛ وضعًا للسبب موضع المسبّب. قال: ويعضِّد هذا التأويلَ إيرادُ محيي السُّنّة هذا الحديثَ في باب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، والتصريح بذكر الطاعة؛ فإن المطيع هو الذي يعتصم بالكتاب والسُّنّة، ويجتنب الأهواء والبدع[3].
قال الملا علي القاري رحمه الله: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ»: على صيغة الفاعل، وقيل: على بناء المفعول، «إلّا من أبى»؛ أي: امتنع عن قَبول ما جئتُ به. قال ابن الْمَلَك: إن أُريد من الأمّة أمّة الإجابة، فالاستثناء منقطِع، وإن أُريد أمّة الدّعوة، فالاستثناء متَّصِل. وقال الطِّيبيُّ: المراد إمّا أمّة الدّعوة، فالآبي هو الكافر، أو أمّة الإجابة، فالآبي هو العاصي، استثناه زجرًا وتغليظًا. «قيل: ومن أبى»: هذه عطف على محذوف، عطف جملة على جملة؛ أي: عرفنا الّذين يدخلون الجنّة، ومن الّذي أبى؟ أي: الّذي أبى لا نعرفه، وحقُّ الجواب اختصارًا أن يقول: من عصاني، فعدل عنه ﷺ إلى ما سيأتي؛ لإرادة التّفصيل. قال: «من أطاعني دخل الجنّة، ومن عصاني فقد أبى»؛ تنبيهًا على أنّهم ما عرفوا هذا ولا ذاك، أو التّقدير: من أطاعني وتمسّك بالكتاب والسّنّة دخل الجنّة، ومن اتّبع هواه وزال عن الصّواب، وضلّ عن الطّريق، فقد دخل النّار، ووضع (أبى) موضع هذا وضعًا للسّبب موضع المسبَّب"[4].
قال المناويُّ رحمه الله: "«كلُّ أمَّتي يدخلون الجنة إلا من أبى» بفتح الهمزة والموحَّدة بامتناعه عن قَبول الدعوة، أو بتركه الطاعة التي هي سببٌ لدخولها؛ لأن من ترك ما هو سببُ شيءٍ لا يوجد بغيره، فقد أبى؛ أي: امتنع، والمراد أمَّة الدعوة، فالآبي هو الكافر بامتناعه عن قَبول الدعوة، وقيل: أمَّة الإجابة؛ فالآبي هو العاصي منهم، استثناهم تغليظًا وزجرًا عن المعاصي. قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: «من أطاعني»؛ أي: انقاد وأذعن لما جئت به، «دخل الجنة»، وفاز بنعيمها الأبديِّ، بيَّن أن إسناد الامتناع عن الدخول إليهم مَجَازٌ عن الامتناع لسببه، وهو عصيانه بقوله: «ومن عصاني»، بعدم التصديق، أو بفعل المنهيِّ، «فقد أبى»، فله سوء المنقلَب بإبائه، والموصوف بالإباء إن كان كافرًا، لا يدخل الجنة أصلاً، أو مسلمًا، لم يدخلها مع السابقين الأوَّلين"[5].
قال السعديُّ رحمه الله:
وَإِن تُطِيعُوهُ تَهۡتَدُواْۚ
إلى الصراط المستقيم، قولاً وعملاً، فلا سبيل لكم إلى الهداية إلا بطاعته، وبدون ذلك، لا يمكِن؛ بل هو مُحَال.
وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
أي: تبليغكم البيِّن الذي لا يُبقي لأحدٍ شكًّا ولا شُبهة، وقد فعل ﷺ، بلَّغ البلاغ المبين، وإنما الذي يحاسبكم ويجازيكم هو الله تعالى، فالرسولُ ليس له من الأمر شيء، وقد قام بوظيفته"[6].
قال المظهريُّ رحمه الله: "يعني: لا يجوز لأحد أن يتكبَّر ويُعرِض عن أحاديثي، ولا يَقبَلها، ولا يعمل بها، فمَن لم يَقبَل قولي، فكأنه لم يَقبَل القرآن؛
وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ
أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ
فطاعة الرسول فرضٌ، ومن عصاه فقد عصى الله، وأن ما حرَّم رسول الله ﷺ في غير القرآن، كتحريم الله في القرآن" [7].
قال الشافعيُّ رحمه الله : " أجمع المسلمون على أنّ من استَبانَت له سُنَّة رسول اللّه ﷺ لم يكن له أن يَدَعها لقول أحد من النّاس"[8].
قال ابن كثير رحمه الله : هذه الآية حاكمةٌ على كلِّ من ادَّعى محبَّة الله، وليس هو على الطريقة المحمَّدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتَّبِع الشرع المحمديَّ، والدين النبويَّ في جميع أقواله وأحواله، كما ثبَت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»[9]؛ ولهذا
قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
أي: يَحصُل لكم فوقَ ما طلبتم من محبَّتكم إيَّاه، وهو محبَّته إيَّاكم، وهو أعظمُ من الأول؛ قال الحسن البصريُّ وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبُّون الله، فابتلاهم الله بهذه الآية، ثم قال
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
أي: باتِّباعكم للرسول ﷺ يَحصُل لكم هذا كلُّه ببركة سفارته"[10].
المراجع
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (2/ 606).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (25/ 27).
- "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (10/ 302، 303).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 225).
- "فيض القدير" للمناويِّ (5/ 12).
- "تفسير السعديِّ" (ص: 572).
- انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهري (1/ 266).
- "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (1/ 6).
- رواه مسلم (1718).
- "تفسير ابن كثير" (2/ 32).