عن شَدَّادِ بْن أَوْسٍ: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ " قَالَ: «وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ».

عناصر الشرح

غريب الحديث:

أَعُوذُ بِكَ: يقال: عُذْتُ به، أعوذ عَوْذًا وعِيَاذًا ومَعَاذًا؛ أي: لجأتُ إليه، والمعنى: لقد لجأتُ إلى ملجأٍ، ولُذْتُ بمَلَاذٍ[1].

أَبُوءُ: أعترف طَوْعًا، وباءَ فلانٌ بذنبه: إذا احتَمَله كُرْهًا، ولم يستطع دَفعَه[2].

المراجع

  1. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 318).
  2. "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (1/ 103).


المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قال: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ»؛ أي: أفضلُ صيغ الاستغفار، وأشرفُها، وأكثرُها نفعًا وثوابًا أن تقول: «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»؛ أي: أنت خالقي والمتصرِّف فيَّ، ولا معبودَ لي غيرُك. «خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ»؛ أي: لا يستحقُّ أحدٌ أن أتوجَّه إليه بالعبادة غيرُك، فأنت خالقي. «وأنا على عهدك»؛ أي: على ما عاهدتُكَ عليه وواعدتُكَ من الإيمان بك، وإخلاص الطاعة لك. «ووعدك»؛ أي: وعده تعالى أنه مَن مات لا يُشرك بالله شيئًا، وأدَّى ما افترض الله عليه، أن يدخل الجنة. «ما استطعتُ»؛ أي: قَدْرَ استطاعتي. «أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ»؛ أي: ألجأ إليك، وألوذ وأستجير بك من شرِّ أعمالي. «أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنت»؛ أي: أعترف طَوْعًا، وأُقِرُّ بنِعَمِكَ عليَّ التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، وأعترف بذنوبي، فاغفرها لي؛ فإنه لا يغفرها غيرُك.

قال ﷺ:

«وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ»

أي: من قالها في نهار أو ليل مخلصًا من قلبه، ومصدِّقًا بثوابها، ومؤمِنًا بمعانيها، ثم مات، فهو من أهل الجنة.

الشرح المفصَّل للحديث:

 يتقلَّب الإنسان في حياته بين نِعَم لا تُعَدُّ ولا تُحصى، تستوجب الحمد والشكر

قال تعالى:

{ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}

[النحل: 18]

وقال تعالى:

{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}

[لقمان: 20]

وبين ذُنوب يقع فيها، ومعاصٍ يقترفها، تستلزم التوبة، فإذا اقترف العبد ذنبًا، أو وقع في معصية، وأراد الاستغفار، فله أن يستغفر ربَّه بأيِّ لفظ شاء، فيقول: اللهم اغفر لي، أو يقول: أستغفر الله، أو غيرهما، فالاستغفارُ له صيغ متنوِّعة، وألفاظ كثيرة، وأفضلها على الإطلاق؛ كما قال النبيُّ ﷺ: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ»؛ أي: أفضل صيغ الاستغفار، وأكثرُها نفعًا وثوابًا، و"السيِّد هنا مستعارٌ من الرئيس المقدَّم، الذي يُصمَد إليه في الحوائج، ويُرجَع إليه في الأمور، كهذا الدعاء، الذي هو جامعٌ لمعاني التوبة كلِّها"[1]، «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»؛ أي: أنت سيِّدي، ومالكي، لا معبودَ لي غيرُك، ولا ربَّ لي سواك، «خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ»؛ أي: لا يستحقُّ أحدٌ أن أتوجَّه إليه بالعبادة غيرُك، فأنت خالقي، «وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ»؛ أي: ما عاهدتُكَ عليه وواعدتُكَ من الإيمان بك، وإخلاص الطاعة لك، "يعني العهد الذي أخَذَه الله على عباده في أصل خلقهم، حين أخرجهم من أصلاب آبائهم أمثال الذَّرِّ، وأشهدهم على أنفسهم

 {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ}

[الأعراف: 172]

فأقرُّوا له في أصل خلقهم بالربوبية، وأذعنوا له بالوَحدانية، والوعدُ: هو ما وَعَدهم تعالى أنه مَن مات لا يُشرك منهم بالله شيئًا، وأدَّى ما افترض الله عليه أن يدخل الجنة[2]"[3]، وهذا معنًى له وجاهته، «مَا اسْتَطَعْتُ»؛ أي: أحافظ على عهدي، ووعدي، قَدْرَ استطاعتي، فلا أحد يستطيع أن يؤدِّيَ حقَّ الله عليه، ولا شكر نِعَمه التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى

قال تعالى:

{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}

[النحل: 18]

ولذلك لم يكلِّف الله العباد فوق استطاعتهم

قال تعالى:

{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}

[البقرة: 286]

وتجاوز عمَّا فوق ذلك، واشتراط الاستطاعة في ذلك معناه: الاعتراف بالعجز والتقصير عن القيام بحقوق الله، وواجباته عليَّ [4]. «أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ»؛ أي: ألجأ إليك، وأستجير بك من شرِّ أعمالي، «أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنت»؛ أي: أقرُّ بنِعَمِكَ الكثيرة عليَّ، وأعترف بذنوبي، وأطلب منك المسامحة في تقصيري، وغفران ذنوبي؛ فإنه لا يغفرها غيرك

قال تعالى:

{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

[البقرة: 199]

"اعترف أوَّلاً بأنه أَنعَم عليه، ولم يقيِّده؛ لأنه يشمل أنواع الإنعام، ثم اعترف بالتقصير، وأنه لم يقم بأداء شُكرها، ثم بالغ فعَدَّه ذنبًا؛ مبالغةً في التقصير، وهضم النفس"[5].

«مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ»؛ أي: من قالها في نهار أو ليل مخلصًا من قلبه، ومصدِّقًا بثوابها، ومؤمِنًا بمعانيها، ثم مات، فهو من أهل الجنة. 

"جَمَع ﷺ في هذا الحديث من بديع المعاني، وحُسن الألفاظ، ما يحقُّ له أنه يسمَّى سيِّد الاستغفار؛ ففيه: الإقرار لله وحده بالألوهية، والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده به، والاستعاذة من شرِّ ما جنى العبد على نفسه، وإضافة النعماء إلى موجِدِها، وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو"[6]، فالذُّلُّ، والانكسار بين يدَيِ الله تعالى، يفتح على العبد أبواب الخير والفلاح، فـ"من أراد الله به خيرًا، فتح له باب الذُّلِّ والانكسار، ودَوَام اللجوء إلى الله تعالى، والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه، وجهلها، وعُدْوانها، ومشاهدة فضل ربِّه، وإحسانه، ورحمته، وجُوده، وبِرِّه، وغناه، وحمده"[7]. 

المراجع

  1. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (6/ 1844).
  2. يريد بذلك حديث أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي، فَأَخْبَرَنِي - أَوْ قَالَ: بَشَّرَنِي - أَنَّهُ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ» رواه البخاريُّ (1237)، ومسلم (94).
  3. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 75).
  4. "أعلام الحديث" للخطَّابيِّ (3/ 2237).
  5. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (6/ 1845).
  6. "فتح الباري" لابن حجر (11/ 100).
  7. "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص: 7).


النقول:

قال ابن بطَّال رحمه الله: "قوله ﷺ: «وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ» يعنى: العهد الذي أخَذَه الله على عباده في أصل خلقهم، حين أخرجهم من أصلاب آبائهم أمثال الذَّرِّ، وأشهدهم على أنفسهم:

{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ}

[الأعراف: 172]

فأقرُّوا له في أصل خلقهم بالربوبية، وأذعنوا له بالوَحدانية، والوعدُ: هو ما وَعَدهم تعالى أنه مَن مات لا يُشرك منهم بالله شيئًا، وأدَّى ما افترض الله عليه أن يدخل الجنة، فينبغي لكلِّ مؤمن أن يدعوَ الله تعالى أن يُمِيتَه على ذلك العهد، وأن يتوفَّاه الله على الإيمان؛ لينال ما وعد تعالى مَن وَفَى بذلك؛ اقتداءً بالنبيِّ ﷺ في دعائه بذلك. إن أحدًا لا يقدر على الإتيان بجميع ما لله، ولا الوفاء بجميع الطاعات والشكر على النِّعَم؛ إذ نِعَمُه تعالى كثيرةٌ ولا يُحاط بها

ألا ترى قوله تعالى:

{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}

[لقمان: 20]

فمن يَقدِر مع هذا أن يؤدِّيَ شكر النِّعم الظاهرة، فكيف الباطنة؟! لكن قد رَفَق الله بعباده، فلم يكلِّفهم من ذلك إلا وُسْعهم، وتجاوز عمَّا فوق ذلك، وكان ﷺ يمتثل هذا المعنى في مبايعته للمؤمنين، فيقول: أبايعكم على السمع والطاعة فيما استطعتم. فإن قيل: أين لفظ الاستغفار في هذا الدعاء، وقد سمَّاه النبىُّ ﷺ سيِّد الاستغفار؟ قيل: الاستغفار في لسان العرب هو طلب المغفرة من الله تعالى وسؤاله غُفران الذنوب السالفة، والاعتراف بها، وكلُّ دعاء كان في هذا المعنى فهو استغفار، مع أن في الحديث لفظ الاستغفار، وهو قوله: «فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت». وقال: «من قالها موقِنًا بها» يعني: مخلِصًا من قلبه، ومصدِّقًا بثوابها؛ فهو من أهل الجنة، وهذا كمعنى قوله ﷺ: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه». وقوله: «أبوء لك بنعمتك وأبوء بذنبي» قال صاحب الأفعال: باء بالذنب: أقرَّ"[1].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «سيد الاستغفار»: السيِّد هنا مستعار من الرئيس المقدَّم، الذي يُصمَد إليه في الحوائج، ويُرجَع إليه في الأمور بهذا الدعاء، الذي هو جامع لمعاني التوبة كلِّها؛ فالتوبةُ غاية الاعتذار. وقوله: «وأنا عبدك» يجوز أن تكون مؤكِّدة، وأن تكون مقدَّرة؛ أي: أنا عابدٌ لك. قوله: «وأنا على عهدك، ووعدك» يريد أنا على ما عاهدتُك عليه، وواعدتُك من الإيمان بك، وإخلاص الطاعة لك، وقد يكون معناه: إني مقيم على ما عاهدت إليَّ من أمرك، ومتمسِّك به، ومنتجزٌ وعدَك في المثوبة، والأجر عليه. واشتراط الاستطاعة في ذلك، معناه الاعتراف بالعجز، والقصور عن كُنْهِ الواجب من حقِّه عزَّ وجلَّ. أقول: ويجوز أن يُراد بالعهد والوعد ما في قوله:

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا}

[الأعراف: ١٧٢]

قوله: «أبوء لك»؛ أي: ألتزم وأَرجِع، وأُقِرُّ، وأصَلُ البَوْء اللُّزوم، ومنه الحديث: «فقد باء أحدهما»؛ أي: أَلزَمه، ورَجَع به. أقول: "اعترف أوَّلاً بأنه تعالى أَنعَم عليه، ولم يقيِّده؛ ليشمل كل الإنعام، ثم اعتَرَف بالتقصير، وأنه لم يقم بأداء شُكرها، وعَدَّه ذنبًا؛ مبالغةً في التقصير، وهضم النفس"[2].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "قال: «سيد الاستغفار» يعني: أشرف الاستغفار وأفضله: «أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. مَنْ قَالَهَا حين يصبح مُوقِنًا بِهَا، ثم مَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، دخل الجَنَّة، وَمَنْ قَالَهَا حين يمسي موقنا بها ثم مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، دخل الجَنَّة». يقول: «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك» فتُقِرَّ لله عزَّ وجلَّ بلسانك وبقلبك أن الله هو ربُّك المالك لك، المدبِّر لأمرك، المعتني بحالك، وأنت عبده كَوْنًا وشَرْعًا، عبدُه كونًا يفعل بك ما يشاء، إن شاء أمرضك، وإن شاء أصحَّكَ، وإن شاء أغناك، وإن شاء أفقرك، وإن شاء أضلَّكَ، وإن شاء هداك، حسبما تقتضيه حكمته عزَّ وجلَّ، وكذلك أنت عبده شرعًا تتعبَّد له بما أَمَر، تقوم بأوامره، وتنتهي عن نواهيه، تُقِرُّ بذلك: اللهم أنت ربي، وأنا عبدك، خلقتني وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، تُقِرُّ بأن الله خلقك، هو الذي أَوْجَدك من العَدَم، وأنك على عهده ووعده ما استطعتَ على عهده؛ لأن كل إنسان قد عاهد الله أن يَعمَل بما عَلِم، فمتى أعطاك الله علمًا، فإنه قد عَهِد إليك أن تعمل به، وعلى وعدك؛ أي: تطبيق وعدك ما وعدتَ أهل الخير من الخير، وما وعدت أهل الشرِّ من الشرِّ؛ ولكن أنا على وعدك؛ أي: في الخير؛ لأنك في هذه الكلمات تتوسَّل إلى الله عزَّ وجلَّ. «أعوذ بك من شر ما صنعت» يعني: أنت تعوذ بالله من شرِّ ما صنعتَ؛ لأن الإنسان يصنع خيرًا فيُثاب، ويَصنَع شرًّا فيُعاقَب، ويَصنَع الشرَّ فيكون سببًا لضلاله

كما قال الله تعالى:

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}

[المائدة: ٤٩]

فأنت تتعوَّذ بالله من شرِّ ما صنعتَ، ثم «أبوء لك بنعمتك عليَّ» يعني: أعترف بنعمتك العظيمة الكبيرة التي لا أُحصيها، و«أبوء بذنبي»: أعترف به، فاغفر لي هذا الذنب، إنك أنت الغفور الرحيم، فاحرص على حفظ هذا الدعاء، وحافظ عليه صباحًا ومساءً، إن متَّ من يومكَ، فأنت من أهل الجنة، وإن متَّ من ليلتكَ، فأنت من أهل الجنَّة"[3].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "«سيد الاسْتِغْفَار» لأن السَّيِّد في الأصل: الرئيس الّذي يُقصَد في الحوائج، ويُرجَع إليه في الأمور، ولَمّا كان هذا الدّعاء جامعًا لمعاني التّوبة كلِّها، استُعير له هذا الاسم، ولا شكَّ أن سيّد القوم أفضلهم، وهذا الدّعاء أيضًا سيد الأدعية، وهو الاستغفار. قَوْله: «سيد الاسْتِغْفَار» قيل: مَا الْحِكْمَة فِي كَونه سيد الاسْتِغْفَار؟ أُجيب بأنه وأمثاله من التعبُّديات، وَالله تعالى أعلم بذلك؛ لَكِن لَا شكَّ أن فِيه ذكرَ الله تعالى بأكمل الأوصاف، وذكر نَفسه بأنقص الحالات، وهو أقصى غايةِ التضرُّع، ونهاية الاستكانة لمن لا يستحقُّها إلَّا هو"[4].

قال ابن أبي جمرة رحمه الله: "جَمَع ﷺ في هذا الحديث من بديع المعاني، وحُسن الألفاظ، ما يحقُّ له أنه يسمَّى سيِّد الاستغفار؛ ففيه: الإقرار لله وحده بالألوهية، والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده به، والاستعاذة من شرِّ ما جنى العبد على نفسه، وإضافة النعماء إلى موجِدِها، وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو"[5].

قال ابن القيم رحمه الله: "من أراد الله به خيرًا، فتح له باب الذُّلِّ والانكسار، ودَوَام اللجوء إلى الله تعالى، والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه، وجهلها، وعُدْوانها، ومشاهدة فضل ربِّه، وإحسانه، ورحمته، وجُوده، وبِرِّه، وغناه، وحمده"[6].

المراجع

  1. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 75-77).
  2. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (6/ 1844، 1845).
  3. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 717، 718).
  4. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (22/ 278).
  5. "فتح الباري" لابن حجر (11/ 100).
  6. "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص: 7).


مشاريع الأحاديث الكلية