عن أبي هريرة : أنَّ رَجُلًا قالَ للنبيِّ ﷺ: أوْصِنِي، قَالَ: «لَا تَغْضَبْ»، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: «لَا تَغْضَبْ».

فوائد الحديث

الفوائد العلمية

1. هذا الحديث من جوامع كَلِم النبيِّ ﷺ. 
2. «لاَ تَغْضَبْ»: وصية جامعة من النبيِّ ﷺ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الغضب جِمَاعُ الشَّرِّ، ومِفتاح كلِّ شَرٍّ، وأن التَّحَرُّز منه جِمَاع الخير.
3. فسَّر بعض العلماء حُسْنَ الْخُلُق بترك الْغَضَب.
4. في الحديث أن الصحابيَّ رَدَّد سؤاله بطلب الوصية مِرَارًا يلْتَمِس أَنْفَعَ من ذَلِك، أَو أَبلَغَ، أَوْ أَعَمَّ، فَلَمْ يَزِدْهُ النبيُّ ﷺ: عَلَى قوله: «لَا تَغْضَبْ»؛ مما يدلُّ على عظم الغضب.
5. الغضب: هو غَلَيان دم القلب؛ طلبًا لدفع المؤذي عند خشية وقوعه، أو طلبًا للانتقام ممّن حصل له منه الأذى بعد وقوعه، وينشأ من ذلك كثير من الأفعال المحرَّمة؛ كالقتل والضّرب وأنواع الظُّلم والعُدْوان؛ وكثير من الأقوال المحرَّمة؛ كالقذف والسّبِّ والفُحش، وربّما ارتقى إلى درجة الكفر، وكالأيمان الّتي لا يجوز التزامها شرعًا، وكطلاق الزّوجة الّذي يُعقِبُ النَّدمَ[1].
6. إن الغضبَ يُخرِج الإنسان من اعتدال حاله، ويجعله يتكلَّم بالباطل، ويرتكب المذموم، ويتشبَّع بالحقد والبغضاء، وغير ذلك من القبائح المحرَّمة.
7. كان من دعائه ﷺ:

«أَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا»[2]

وَهَذَا عَزِيزٌ جِدًّا، وهو أن الإنسان لا يقول سوى الحقِّ، سواءٌ غَضِبَ أو رَضِي؛ فإن أكثرَ الناس إذا غَضِب لا يَتَوقَّف فيما يقول[3].
8. المقصود من الحديث أنِ اجْتَنِبْ أسباب الغضب، ولا تَتعرَّضْ لما يَجلِبه[4].
9. الغَضَبُ نفسُه، لا يتأتَّى النّهي عنه لأنّه أمر طبيعيٌّ لا يزول من الجِبلَّة. وما كان من قبيل الطّبع الحيوانيِّ، لا يمكِن دفعه، فلا يَدخُل في النّهي؛ لأنّه من تكليف الْمُحال، وما كان من قَبيل ما يُكتَسب بالرّياضة، فهو المراد[5].
10. قيل: لا تغضب؛ لأنّ أعظم ما ينشأ عن الغضب الكِبْر؛ لكونه يقع عند مخالفة أمر يريده، فيَحمِله الكبر على الغضب، فالّذي يتواضع حتّى يذهب عنه عزَّة النّفس، يَسلَم من شرِّ الغضب[6].
11. قيل: «لَا تَغْضَبْ»؛ أي: لا تَفْعَلْ ما يَأْمُرك به الغضب[7].
12. إن مجاهدة النفس أشدُّ من مجاهدة العدوِّ؛ لأنه ﷺ جعل الذي يملك نفسَه عند الغضب أعظمَ الناسِ قُوَّةً[8].
13. جمع ﷺ في قوله: «لا تغضب» خير الدّنيا والآخرة؛ لأنّ الغضب يؤول إلى التّقاطع، ومنع الرِّفق، وربّما آل إلى أن يؤذيَ المغضوب عليه، فيُنتقَص ذلك من الدِّين[9].
14. من تأمَّل مفاسد الغضب، عَرَف مقدار ما اشتملت عليه هذه الكلمة اللّطيفة من قوله ﷺ: «لا تغضب» من الحكمة، واستجلاب المصلحة في درء المفسدة ممّا يتعذَّر إحصاؤه، والوقوف على نهايته، وهذا كلُّه في الغضب الدّنيويِّ، لا الغضب الدّينيِّ[10].
15. قوله ﷺ: «لَا تَغْضَبْ» يَحتمِل أمرين؛ أحدهما: أن يكون مراده الأمرَ بالأسباب الّتي توجب حُسن الخُلق من الكرم والسّخاء، والحِلم والحياء، ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة؛ فإنّ النّفس إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق، وصارت لها عادةً، أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه. والثّاني: أن يكون المراد: لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك؛ بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه، والعمل بما يأمر به؛ فإنّ الغضب إذا ملك ابن آدم كان الآمرَ والنّاهيَ له؛ ولهذا المعنى قال اللّه عزّ وجلّ:{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ}[الأعراف: ١٥٤]، فإذا لم يمتثل الإنسان ما يأمره به غضبه، وجاهد نفسه على ذلك، اندفع عنه شرُّ الغضب، وربّما سكن غضبه، وذهب عاجلًا، فكأنّه حينئذ لم يغضب[11].
16. قال ﷺ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ؛ إنَّما الشَّدِيدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ»[12].
17. الغضب لله محمود، يُثاب عليه المرء إذا أصلح نيَّته، وأن يكون غضبه دفعًا للأذى في الدّين له أو لغيره، وانتقامًا ممّن عصى اللّه ورسوله؛ كما قال تعالى:

{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ 14 وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [13]

[التوبة: 14 - 15]


18. كان النّبيُّ ﷺ لا يغضب إلا لله، فكان لا ينتقم لنفسه؛ ولكن إذا انتُهكت حُرمات اللّه، لم يقم لغضبه شيء، ولم يضرب بيده خادمًا ولا امرأةً إلّا أن يجاهد في سبيل اللّه[14].
19. مما يُعِين على ترك الغضب: استحضارُ ما جاء في كظم الغيظ من الفضل، وما جاء في عاقبة ثَمَرة الغضب من الوعيد، وأن يستعيذ من الشّيطان، وأن يتوضَّأ؛ فقد كان النّبيّ ﷺ يأمر من غَضِب بتعاطي أسباب تدفع عنه الغضب، وتسكِّنه، ويمدح من ملك نفسه عند غضبه.
20. الاستعاذةُ بالله من الشيطان الرجيم تُذهب الغضبَ، وهي من أقوى السلاح على دفع كَيده؛ حيث إن الشيطان هو الذي يزيِّن للإنسان الغَضَب وكلَّ ما لا تُحمَد عاقبتُه؛ ليُرْدِيَه ويُغْويَه ويُبعدَه عن رضا الله تعالى.
21. مما يعالج الغضب: ما قاله النَّبِيُّ ﷺ في خُطبته:

«أَلَّا إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، أَفَمَا رَأَيْتُمْ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ، وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ؟! فَمَنْ أَحَسَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَلْصَقْ بِالْأَرْضِ»[15]


22. عن أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:

«إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ، وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ»[16]


23. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:

«عَلِّمُوا وَيَسِّرُوا، عَلِّمُوا وَيَسِّرُوا - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - وَإِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ - مَرَّتَيْنِ»[17]

المراجع

  1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 369).
  2. رواه أحمد (18515)، وقال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح.
  3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 372).
  4. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 520، 521).
  5. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 520، 521).
  6. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 520، 521).
  7. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 520، 521).
  8. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 520، 521).
  9. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 520، 521).
  10. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 520، 521).
  11. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 364).
  12. رواه البخاريُّ (6114)، ومسلم (2609).
  13. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 369، 370).
  14. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 369، 370).
  15. رواه أحمد (11608)، والترمذيُّ (2191)، وقال الترمذيُّ: هذا حديث حسن.
  16. رواه أحمد (21348)، وأبو داود (4782)، وصححه الألبانيُّ في "مشكاة المصابيح" (5114).
  17. رواه أحمد (2556)، والبخاريُّ في "الأدب المفرد" (1320)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الأدب المفرد".
الفوائد الفقهية

24. إن الغضب الشديد "لا شكَّ أنه يؤثِّر على الإنسان حتى يتصرَّف تصرُّف المجانين؛ ولهذا قال بعض العلماء: إن الإنسان إذا غَضِبَ غضبًا شديدًا حتى لا يدريَ ما يقول، فإنه لا عِبْرةَ بقوله، ولا أَثَر لقوله؛ إن كان طلاقًا، فإن امرأته لا تَطلُق، وإن كان دعاءً، فإنه لا يُستجاب؛ لأنه يتكلَّم بدون عقل وبدون تصوُّر[1].

المراجع

  1. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 593).


الفوائد التربوية

25. يوجِّه النبيُّ ﷺ أمَّته إلى كلِّ خير، وينهاهم عن كلِّ شرٍّ، بطُرق ووسائلَ تعليميةٍ كثيرة؛ منها أن يسأله أحد الصحابة - رضوان الله عليهم - عن أمر، فيُفيض في الإجابة من خلال كلمات معدودة، وربما كلمة واحدة تجمع خصال الخير، وتنهى عن خصال الشرِّ، وهذا مما حباه الله به من جوامع الكلم.

مشاريع الأحاديث الكلية