37 - تحريمُ السِّحر وادعاءِ علمِ المغيبات

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا، أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ» 


فوائد الحديث

الفوائد العلمية

1- في الحديث ذَكَر رسول الله ﷺ الكاهن والعرَّاف، والمقصود كلُّ من يدَّعي معرفة الغيب من كاهن وعرَّاف ومنجِّم وساحر وضاربِ رملٍ ووَدَعٍ، وكلُّ من يدَّعي أنه يَخرِق حُجُب الغَيب أو المستقبل، أو يؤثِّر في سير القَدَر، ويغيِّر وجهته.

2- من الأغراض الْمُضِرَّة التي يَذهَب من أجلها الإنسان إلى الكهَّان والعرَّافين: معرفة مكان شيء مسروق، أو مكان شيء فقَدَه، أو لأجل عطف قلب على شخص، أو صرف قلب عن شخص، أو الإضرار بشخص بعمل سحرٍ له يعطِّل حاله، ويُبطِل سَعْيَه، ويُضعف صحَّته... إلخ.

3- الكاهن هو الذي يُخبِر عمَّا يكون في الزمان المستقبَل بالنُّجوم وما شاكَلها من أكاذيب الجنِّ، المسترَقة من الملائكة عن أحوال أهل الأرض، من قدر أعمالهم، وأرزاقهم، وما يَحدُث من الحوادث، فيأتون الكهنة، فيَخلِطون في كلِّ حديث مِائة كَذِبة، فيُخبرون الناس بها؛ فمَن فعل هذه الأشياءَ واستحلَّها، وصدَّق الكاهن، فقد كفر، ومن لم يستحِلَّها، فهو كافرُ النِّعمة فاسقٌ[1].

4- عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سَأَلَ أُنَاسٌ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الكُهَّانِ، فَقَالَ لَهُمْ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا الشَّيْءَ يَكُونُ حَقًّا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْجِنِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ، فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذِبَةٍ»[2].

5- عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، رضي اللَّه عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ، وَمَنْ عَقَدَ عُقْدَةً، وَمَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ»[3].

6- الكَهَنة رُسُل الشيطان؛ لأن المشركين يُهرَعون إليهم، ويَفزَعون إليهم في أمورهم العِظام، ويصدِّقونهم، ويتحاكمون إليهم، ويَرضَون بحُكمهم، كما يفعل أتباع الرسل بالرُّسل، فإنهم يعتقدون أنهم يعلمون الغيب، ويُخبرون عن الْمُغيَّبات التي لا يَعرِفها غيرهم، فهم عند المشركين بهم بمنزلة الرُّسل[4]. والكهنة قوم لهم أذهان حادَّة، ونفوسٌ شِرِّيرة، وطباع ناريّة، فأَلِفتهم الشّياطين لما بينهم من التّناسب في هذه الأمور، ومساعدتهم بكلِّ ما تصل قدرتهم إليه، وكانت الكهانة في الجاهليّة فاشيةً، خصوصًا في العرب؛ لانقطاع النّبوّة فيهم.

7- الكَهانة على أصناف، منها ما يتلقَّوْنه من الجنِّ؛ فإنّ الجنَّ كانوا يصعدون إلى جهة السّماء، فيركب بعضهم بعضًا، إلى أن يدنوَ الأعلى بحيث يسمع الكلام فيُلقيه إلى الذي يَلِيه، إلى أن يتلقَّاه من يُلقيه في أُذن الكاهن، فيَزيد فيه، فلمّا جاء الإسلام ونزل القرآن، حُرِست السّماء من الشّياطين، وأُرسلت عليهم الشُّهب، فبَقِي من استراقهم ما يتخطَّفه الأعلى فيُلقيه إلى الأسفل قبل أن يُصيبه الشِّهاب، وإلى ذلك الإشارة

بقوله تعالى:

إِلَّا مَنۡ خَطِفَ ٱلۡخَطۡفَةَ فَأَتۡبَعَهُۥ شِهَابٞ ثَاقِبٞ

[الصافات: ١٠] [5]

8- كانت إصابة الكهَّان قبل الإسلام كثيرةً جدًّا، وأمّا في الإسلام، فقد نَدَر ذلك جدًّا حتّى كاد يضمحلُّ، وللّه الحمدُ[6].

9- الْعَرَّاف: من يستخرج الوقوفَ على الْمُغَيَّبات بضَرب من فِعل أو قَول[7].

10- الناس قسمان: أتباع الكهنة، وأتباع رُسل الله، فلا يجتمع في العبد أن يكون من هؤلاء وهؤلاء؛ بل يَبعُد عن رسول الله ﷺ بقدر قُرْبِه من الكاهن، ويُكذِّب الرسول بقدر تصديقه للكاهن[8].

11- الفَرْقُ بين الكاهن والعرَّاف: أنّ الكاهن إنّما يتعاطى الخَبَر عن الغيب في مستقبَل الزَّمان، ويدَّعِي معرفة الأسرار، والعرَّاف: هو الّذي يتعاطى معرفة الشّيء المسروق ومكان الضّالَّة ونحوهما من الأمور[9].

12- كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب؛ أحدها: يكون للإنسان وليٌّ من الجنِّ يُخبره بما يَسْتَرِقه من السّمع من السّماء، وهذا القسم بَطَل من حين بَعَث اللّه تعالى نبيَّنا ﷺ. والثّاني: أن يُخبره بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض، وما خَفِي عنه ممّا قَرُب أو بَعُد، وهذا لا يَبعُد وجوده، ونفت المعتزلة وبعض المتكلِّمين هذين الضّربين، وأحالوهما، ولا استحالة في ذلك ولا بُعْدَ في وجوده؛ لكنّهم يَصْدُقون ويَكْذِبون، والنّهيُ عن تصديقهم والسّماع منهم عامٌّ. والضرب الثّالث من الكهانة: المنجِّمون، وهذا الضّرب يَخلُق اللّه فيه لبعض النّاس قوّةً ما؛ لكنّ الكذب فيه أغلب، ومن هذا الفنِّ العرافة، وصاحبها عرَّاف، وهو الّذي يستدلُّ على الأمور بأسباب ومقدِّمات يدَّعي معرفتها بها، وقد يَعتضِد بعض هذا الفنِّ ببعض في ذلك؛ كالزّجر والطّرق والنّجوم وأسباب معتادة، وهذه الأضرب كلُّها تسمَّى كهانةً، وقد أكذبهم كلَّهم الشّرعُ، ونهى عن تصديقهم وإتيانهم[10].

المراجع

  1.  رواه البخاريُّ (6492)، ومسلم (218). 
  2.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 857، 858). 
  3.  رواه البخاريُّ (5884).
  4.  رواه البزَّار (3023)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3041). 
  5.  "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 253).
  6.  "فتح الباري" لابن حجر (10/ 216). 
  7.  "فتح الباري" لابن حجر (10/ 216).
  8.  "فتح الباري" لابن حجر (10/ 216). 
  9.  "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 253).
  10.  "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (7/ 2907).

الفوائد العقدية

13- أصل العقيدة أن ترتبط بالله تعالى وحده، وأن تَرُدَّ إليه أمرك كلَّه، وأن لا يتعلَّق قلبُك بأحد غيرِ الله، وألَّا ترجوَ جلب نفعٍ أو دَفْعَ ضُرٍّ من أحد غيرِ الله تعالى.

14- من ضعف العقيدة والإيمان أن يلجأ المرء لأحد من الكهَّان والعرَّافين والسَّحَرة والمنجِّمين، يطلب منه شيئًا لا يُطلَب إلَّا من الله تعالى؛ كمعرفة خبيئة، أو قراءة مستقبَل؛ بدعوى أنهم يعرفون الغيب.

15- لا يجوز الذَّهاب إلى العرَّافين والسحرة والمنجِّمين والكهنة ونحوهم، ولا يجوز سؤالهم ولا تصديقهم، ولا يجوز التداوي عندهم بزَيت ولا غيره؛ لأن الرسول ﷺ نهى عن إتيانهم وسؤالهم وعن تصديقهم؛ لأنهم يدَّعون علم الغيب، ويكذبون على الناس، ويَدْعونهم إلى أسباب الانحراف عن العقيدة[1].

16- قوله: «فصدَّقه بما يقول»؛ أي: أن قلبه تخلَّى عن الارتباط بقُدرة الله وتصديق الله، وحلَّ محلَّ ذلك تصديقُ عبدٍ ضعيف يدَّعي صفة من صفات الله تعالى.

17- قوله ﷺ: «فقد كفر» ظاهرُه أنّه الكفر الحقيقيُّ، وقيل: هو الكفر المجازيُّ، وقيل: من اعتقد أنّ الكاهن والعرَّاف يَعرِفان الغيب، ويطَّلعان على الأسرار الإلهيّة، كان كافرًا كفرًا حقيقيًّا؛ كمن اعتقد تأثير الكواكب، وإلّا فلا[2]، وقد جاء في حديث آخَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً»[3]، ويمكِن الجمع بين الحديثين بأن مجرَّد السؤال دون تصديق يُبطِل الصلاة أربعين ليلة؛ ولكن إذا سَأَله فصدَّقه فقد كَفَر.

المراجع

  1. مجلة الدعوة في العدد (1498) بتاريخ 8/2/1416 هـ، (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 8/ 157).
  2.  "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (7/ 214).
  3.  رواه مسلم (2230).

الفوائد الفقهية

18- حرَّم رسول الله ﷺ أُجرة الكاهن أو حُلْوانه؛ فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَمَهْرِ البَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الكَاهِنِ»[1].

19- أجمع المسلمون على تحريم حُلْوان الكاهن؛ لأنه عِوَضٌ عن محرَّم، ولأنه أكل المال بالباطل[2].

المراجع

  1. رواه البخاريُّ (5452).
  2.  "شرح النوويِّ على مسلم" (10/231).


الفوائد الحديثية

20- قوله: «فصدّقه بما يقول»، زاد الطّبرانيُّ من رواية أنس: «ومن أتاه غير مصدِّق له، لم يَقبَل اللّه له صلاةً أربعين ليلةً» وظاهر هذا أنّ التّصديق شرط في ثبوت كفر من أتى الكاهن والعرَّاف [1]

المراجع

  1. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (7/ 214).

الفوائد اللغوية

21- قوله ﷺ: «مَن»: أداة شرط تُفيد عموم مَن ذهب إلى كاهن أو عرَّاف، بصرف النظر عن شخصه ومكانته.

22- الكَهَانة - بفتح الكاف ويجوز كسرها -: ادِّعاء علم الغيب؛ كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب، والأصلُ فيه استراق الجنّيِّ السَّمْعَ من كلام الملائكة، فيُلقيه في أُذن الكاهن[1].

23- الكاهن لفظ يُطلَق على العرَّاف، والّذي يَضرِب بالحصى، والمنجِّم، ويُطلَق على مَن يقوم بأمر آخَرَ، ويسعى في قضاء حوائجه [2].

المراجع

  1.  "فتح الباري" لابن حجر (10/ 216).
  2.  "فتح الباري" لابن حجر (10/ 216).

مشاريع الأحاديث الكلية