عن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالت: قالَ رسولُ اللهِ : «مَن أحدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليس فيه، فهو رَدٌّ»

عناصر الشرح

غريب الحديث

أحدَثَ: أي: ابتدع.

أمْرنا: أي: ديننا.

ردٌّ: أي: مردود لا يُلتفت إليه.

المعنى الإجماليُّ للحديث

تروي أم المؤمنين عائشةُ - رضيَ اللهُ عنها - عن رسول اللهِ ﷺ أنه قال: «مَن أحدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليس فيه، فهو رَدٌّ»؛ أي: مَنِ ابتدع في دين الإسلام وشريعته ما ليس منه، فبدعتُه مردودةٌ عليه، ولا يُلتفت إليها.

الشرح التفصيليُّ

انحراف الديانات السابقة على الإسلام من مسيحية ويهودية جاء بسبب التزيُّد فيها، وابتداع ما ليس منها، فانحرفت شيئًا فشيئًا حتى خالفت الأصل الذي نزلت من أجله، وما الأصنامُ التي عُبِدت في الجاهلية إلَّا تحريفٌ وتزيُّد أضلَّ به الشيطانُ النفوس.

 وفي هذا الحديث تحذير من فعل ذلك في الإسلام، فيقول الرسول ﷺ: «مَنْ أحدَث»؛ أي: مَن ابتدع بدعةً لم يقُل بها الرسول ﷺ. «في أمرِنا هذا»؛ أي: في دين الإسلام. «ما ليس منه»؛ أي: لم يشهد له أصل من أصول الإسلام. «فهو ردٌّ»؛ أي: مردودٌ؛ لا يُلتفت إليه على الإطلاق.

وهذا الحديث على إيجازه مهمٌّ جدًّا حيث قيل عنه[2]: "هذا الحديث مما ينبغي حفظُه وإشهارُه في إبطال المنكرات، وإشاعة الاستدلال به لذلك"، و"هذا الحديث معدودٌ من أصول الدين وقاعدة من قواعده"، و"هذا الحديث يصحُّ أن يسمَّى نصف أدلَّة الشرع".

وقد جاءت الآيات القرآنية الكثيرة التي تحذِّر من البدع،

ومنها قوله تعالى:

﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾

[الأنعام: 153].

وعن مجاهد في قوله: ﴿وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾. قال: "البِدَع والشُّبهات"[3]

وقوله تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾

[الأنعام: 159]

و"الآية في أهل البِدَع والأهواء والفِتَن، ومن جرى مَجرَاهم من أمَّة محمد عليه الصلاة والسلام؛ أي: فرَّقوا دين الإسلام"[4] 

ومنها قوله تعالى:

﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾

[آل عمران: 105 – 107].

قال قتادة في قوله تعالى:

﴿كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾:

"يعني: أهل البدع"[5]

 وعن ابن عباس في قوله:

﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾،

قال: "تَبْيَضُّ وجوه أهل السنَّة، وتَسْوَدُّ وجوه أهل البِدعة"[6]

وكان رسول الله ﷺ يقول في مقدِّمات خُطَبه: «مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضلَّ لهُ، ومَنْ يُضللْ فلا هاديَ لهُ، وخيرُ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرُ الهديِ هديُ محمدٍ، وشرُّ الأمورِ مُحدثاتُها، وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ»[7]

والبِدْعَة هي: الإتيان بأمر يتعلَّق بالاعتقاد أو العبادة، سواءٌ كان أمرًا قَوليًّا أو فعليًّا، أو ترك أمر بنِيَّة التقرُّب بذلك التَّرْك، أو نسبة تحريمه إلى الدين، كلُّ ذلك بغير دليل شرعيٍّ يخصُّ ذلك الأمر داخلًا في عموم طلبه، أو المنع منه، ثم يكون الأمر مطلوبًا طلبًا مطلَقًا فيُقيِّده العامل بعدد، أو وقت، أو كيفيَّة لم يَرِد بها دليل، فذلك كلُّه يَدخُل في البدعة؛ ولكنه هنا يكون بدعةً إضافية، وحين لا يكون مطلوبًا أصلًا يسمَّى بدعة حقيقية.

وتنقسم البدع إلى بِدَع اعتقادية وبِدَع عملية، والبِدَعُ الاعتقاديةُ هي اعتقاد ما لم يَعتقِدْه الرسول ولا أصحابه؛ مثل بِدْعةِ نَفْيِ القَدَر، والبدعُ العملية مثل التعبُّد بما لم يتعبَّد به الرسول وأصحابه؛ مثل دعاء غير الله، والذَّبح لغير الله، والنَّذر لغير الله، وهي كفرٌ، ومنها ما ليس بكفر؛ مثل الأوراد والحَضَرات التي لا تشتمل على شِرك.

ومن نماذج البدع الحديثة: الاحتفال بالْمَولد النبويِّ، والجهر بالنِّيَّة في الصلاة، والاحتفال بالإسراء والمعراج، والاحتفال بالهجرة النبوية، واختصاص شهر رجب بعبادات، والتزيُّد في الأذكار وتقييدها بعددٍ لم يَرِد به نصٌّ، والتوسُّل بالموتى، والصلاة في مساجد بُنِيَت على مقابرَ، والمصافحة عقب الصلاة، وغيرها من البدع التي تخالف أصول الإسلام.

وأسباب الوقوع في البدع كثيرة، منها: الجهلُ بمصادر الأحكام الشرعية، والجهلُ باللغة العربية وأساليبها في التعبير والإبانة، ومتابعةُ الهوى، وتقديمُ العقل على الشرع ونصوصِه، وتقليدُ غير المسلمين، وغيرُها من الأسباب.

ونتائج هذه البدع التي حذَّر منها الحديث الشريف وَخِيمةٌ على الفرد وعلى الأمَّة، فهي سببُ تفرُّق الأمَّة وحدوث الخلافات بينها، وانحراف العقيدة الصحيحة التي تركَنا عليها رسولُ الله ﷺ، وانتقال الأمَّة من العزَّة التي تحقِّقها لها العقيدة الصحيحة، إلى الخنوع والخضوع والتذلُّل والتنازل، وتغيير الولاء للإسلام والغَيرة عليه، إلى الولاء لرؤوس البِدَع.

وبسبب هذه المخاطر على الفرد وعلى الأمَّة كان التحذير الشديد في القرآن والسنَّة من هذه البدع، وكانت مقاومة علماء هذه الأمَّة لها مقاومة شديدة على مرِّ الأزمان.

المراجع

  1. انظر :الاعتصام (1 / 75). وما بعدها ودليل الفالحين لطرق الصالحين لابن علان الصديقي (325/1)
  2. الاعتصام (1 / 77).
  3. السابق.
  4.  "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" لابن عطية الأندلسي (5/ 410، 411).
  5.  الاعتصام (1/75).
  6.  السابق.
  7.  رواه مسلم (6/156).

النقول:

قال ابن رجب : " وبهذا يُعلَم معنى ما روى الإمام أحمدُ أنّ أصول الإسلام ثلاثة أحاديث: حديث: «الأعمال بالنّيّات»، وحديث: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه، فهو ردّ،»، وحديث: «الحلال بيّن والحرام بيّن»؛ فإنّ الدّين كلَّه يرجع إلى فعل المأمورات، وترك المحظورات، والتّوقُّف عن الشُّبهات، وهذا كلُّه تضمَّنه حديث النُّعمان بن بشير.

وإنّما يتمُّ ذلك بأمرين؛ أحدهما: أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السّنَّة، وهذا هو الّذي تضمَّنه حديث عائشة: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه، فهو ردّ»، والثّاني: أن يكون العمل في باطنه يُقصَد به وجه اللّه عزّ وجلّ، كما تضمَّنه حديث عمر: «الأعمال بالنّيّات»، وقال الفُضيل في

قوله تعالى:

ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفُورُ ﱠ

[الملك: 2]

قال: أَخْلَصُه وأَصوَبه. وقال: إنّ العمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صَوَابًا، لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا، ولم يكن خالصًا، لم يُقبَل حتّى يكون خالصًا وصوابًا. قال: والخالص إذا كان للّه عزّ وجلّ، والصَّواب إذا كان على السُّنَّة... وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّمَا تَفَاضَلُوا بِالْإِرَادَاتِ، وَلَمْ يَتَفَاضَلُوا بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ"[1]

قال النوويُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ ﷺ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هذا ما ليس مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، وفي الرّواية الثّانية: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ». قال أهل العربيّة: الرّدُّ هنا بمعنى المردود، ومعناه: فهو باطل غير معتدٍّ به، وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه ﷺ؛ فإنّه صريح في ردِّ كلِّ البدع والمخترعات، وفي الرّواية الثّانية زيادة، وهي أنّه قد يعاند بعض الفاعلين في بدعة سَبق إليها، فإذا احتُجَّ عليه بالرّواية الأولى، يقول: أنا ما أحدثتُ شيئًا، فيُحتَجُّ عليه بالثّانية الّتي فيها التّصريح بردِّ كلِّ المحدثات، سواء أحدثها الفاعل أو سبق بإحداثها، وفي هذا الحديث دليل لمن يقول من الأصوليّين: إنّ النّهيَ يقتضي الفساد، ومن قال: لا يقتضي الفساد يقول: هذا خبر واحد ولا يكفي في إثبات هذه القاعدة المهمَّة، وهذا جواب فاسد، وهذا الحديث ممّا ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكَرات، وإشاعة الاستدلال به"[2]

قال ابن رجب رحمه الله: "وهذا الحديثُ أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها، كما أنّ حديث: «الأعمال بالنّيّات» ميزان للأعمال في باطنها، فكما أنّ كلّ عمل لا يُراد به وجه اللّه تعالى، فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كلُّ عمل لا يكون عليه أمر اللّه ورسوله، فهو مردود على عامله، وكلُّ من أحدث في الدّين ما لم يأذن به اللّه ورسوله، فليس من الدّين في شيء، فهذا الحديث بمنطوقه يدلُّ على أنّ كلَّ عمل ليس عليه أمر الشّارع، فهو مردود، ويدلُّ بمفهومه على أنّ كلّ عمل عليه أمره فهو غير مردود، والمراد بأمره هاهنا: دينُه وشرعه؛ كالمراد بقوله في الرّواية الأخرى: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردّ»؛ فالمعنى إذًا: أنّ من كان عمله خارجًا عن الشّرع ليس متقيِّدًا بالشّرع، فهو مردود. وقوله: «ليس عليه أمرنا» إشارة إلى أنّ أعمال العاملين كلّهم ينبغي أن تكون تحت أحكام الشّريعة، وتكون أحكام الشّريعة حاكمةً عليها بأمرها ونهيها، فمن كان عمله جاريًا تحت أحكام الشّرع موافقًا لها، فهو مقبول، ومن كان خارجًا عن ذلك، فهو مردود"[3]

قال الملا علي القاري رحمه الله: "«وإيّاكم ومحدثات الأمور»: عطفٌ على قوله: فعليكم؛ للتّقرير والتّوكيد؛ أي: احذروا عن الأمور الّتي أُحدثت على خلاف أصل من أصول الدّين، واتّقوا إحداثها. «فإنّ كلَّ محدثة بدعة»؛ أي: في الشّريعة. «وكلّ بدعة»: بنصب كلّ، وقيل: برفعه. «ضلالة»: إلّا ما خُصَّ، وقد تقدَّم"[4]

 قال ابن عثيمين رحمه الله: "ثم قال النبيُّ ﷺ : (تمسَّكوا بها)؛ أي: تمسَّكوا بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين، (عضُّوا عليها بالنواجذ)، والنواجذ: أقصى الأضراس، وهو كناية عن شدَّة التمسُّك، فإذا تمسَّك الإنسان بيديه بالشيء وعضَّ عليه بأقصى أسنانه، فإنه يكون ذلك أشدَّ تمسُّكًا مما لو أمسكه بيد واحدة، أو بيدين بدون عضِّ، فهذا يدلُّ على أن النبيَّ أمرنا أن نتمسَّك أشدَّ التمسُّك بسنَّته وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعده عليه الصلاة والسلام. ثم قال النبيُّ  ﷺ  بعد أن أمر باتِّباع سنَّته وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، وحثَّ على التمسُّك بها، والعضِّ عليها بالنواجذ، قال: (وإياكم ومحدثاتِ الأمور)؛ يعني: أحذِّركم من محدثات الأمور؛ أي: من الأمور المحدثة، وهذه الإضافة من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، والأمور المحدَثة يعني بها صلوات الله وسلامه عليه: المحدثاتِ في دين الله؛ وذلك لأن الأصل فيما يَدين به الإنسان ربَّه، ويتقرَّب به إليه، الأصل فيه المنع والتحريم، حتى يقوم دليل على أنه مشروع؛ ولهذا أنكر اللهُ - عزَّ وجلَّ - على من يحلِّلون ويحرِّمون بأهوائهم؛

فقال تعالى:

وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ ﱠ

[النحل: 116]

وأنكر على من شرع في دينه ما لم يأذن به؛

فقال:

أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةُ ٱلۡفَصۡلِ لَقُضِيَ بَيۡنَهُمۡۗ وَإِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ

[الشورى: 21]

وقال:

قُلۡ أَرَءَيۡتُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُم مِّن رِّزۡقٖ فَجَعَلۡتُم مِّنۡهُ حَرَامٗا وَحَلَٰلٗا قُلۡ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمۡۖ أَمۡ عَلَى ٱللَّهِ تَفۡتَرُونَ ﱠ

[يونس: 59]

أما الأمور العادية وأمور الدنيا، فهذه لا يُنكَر على مُحْدَثاتِها إلا إذا كان قد نُصَّ على تحريمه، أو كان داخلًا في قاعدة عامة تدلُّ على التحريم، فمثلًا السيارات والدبَّابات وما أشبهها، لا نقول: إن هذه محدَثة لم توجد في عهد الرسول ، فلا يجوز استعمالها؛ لأن هذه من الأمور الدنيوية، الثياب وأنواعها، لا نقول: لا تُلبَس إلا ما كان يلبسه الصحابة، البَسْ ما شئتَ مما أحلَّ الله لك؛ لأن الأصلَّ الحلُّ، إلا ما نصَّ الشرع على تحريمه؛ كتحريم الحرير والذهب على الرجال، وتحريم ما فيه الصورة، وما أشبه ذلك"[5]

قال ابن القيم رحمه الله: "قال عبدُ اللّه بنُ مسعود: "اتَّبِعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كُفِيتُم؛ فإنَّ كلَّ مُحدَثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة"، وقال أيضًا: "إنّا نقتدي ولا نبتدي، ونتَّبِع ولا نبتدع، ولن نضلَّ ما تمسَّكنا بالأثر" وقال: "إيّاكم والتّبدُّعَ، وإيّاكم والتّنطُّعَ، وإيّاكم والتّعمُّقَ، وعليكم بالدّين العتيق"، وقال أيضًا: "وإيّاكم والمحدثاتِ؛ فإنّ شرَّ الأمور مُحدَثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة"، وقال: "اتَّبِعْ ولا تبتدع؛ فإنّك لن تضلَّ ما أَخذتَ بالأثر"، وقال ابن عبّاس: "كان يُقال: عليكم بالاستقامة والأثر، وإيّاكم والتّبدُّعَ". قال شُريح: "إنّما أقتفي الأثر، فما وجدتُ قد سَبَقنا إليه غيركم، حدَّثتُكم به". قال إبراهيم النَّخَعيُّ: "لو بلغني عنهم - يعني الصّحابة - أنّهم لم يجاوزوا بالوضوء ظُفْرًا ما جاوزتُه به، وكفى على قوم وزرًا أن تُخالف أعمالهم أعمال أصحاب نبيِّهم " قال عمر بن عبد العزيز: "إنّه لم يبتدع النّاس بدعةً إلّا وقد مضى فيها ما هو دليل وعبرة منها، والسّنَّة ما استنَّها إلّا مَن علم ما في خلافها من الخطأ والزَّلَل والحُمق والتّعمُّق، فارضَ لنفسك ما رَضِيَ القوم"، وقال أيضًا: "قف حيث وقف القوم، وقُل كما قالوا، واسكت كما سكتوا؛ فإنّهم عن عِلْم وقفوا، وببصر ناقد كفُّوا، وهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى" أي: فلئن كان الهدى ما أنتم عليه، فلقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم حدث بعدهم، فما أحدثه إلّا من سلك غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، وإنّهم لهم السّابقون، ولقد تكلّموا منه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم مقصّر، ولا فوقهم مجسّر، ولقد قصّر عنهم قوم فجفوا، وطمح آخرون عنهم فغلوا، وإنّهم فيما بين ذلك لعلى هدًى مستقيم"[6]

قال ابن رجب رحمه الله: "قوله: «كل بدعة ضلالة» هذا من جوامع كَلِمه ، فإنَّه قعَّد قاعدةً في هذا الدين بعبارة موجَزة يَسيرة، وهي كقوله ﷺ في الحديث المتفق عليه عن عائشة ڤ: «مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ»[7]؛ فكل مَن أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصلٌ من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريءٌ منه، وسواءٌ في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة"[8]

قال ابن عثيمين رحمه الله: "فقوله صلوات الله وسلامه عليه: (وإياكم ومحدثات الأمور) يعني في دين الله، وفيما يتعبَّد به الإنسان لربِّه، ثم قال: (فإن كل بدعة ضلالة) يعني أن كل بدعة في دين الله فهي ضلالة، وإن ظنَّ صاحبها أنها خير، وأنها هدى، فإنها ضلالة لا تزيده من الله إلا بُعدًا. وقوله صلوات الله وسلامه عليه: (كلُّ بدعة ضلالة) يشمل ما كان مبتدَعًا في أصله، وما كان مبتدَعًا في وصفه. فمثلًا: لو أن أحدًا أراد أن يَذكُر الله بأذكار معيَّنة بصفتها أو عددها، بدون سنَّة ثابتة عن رسول الله ، فإنا ننكر عليه، ولا ننكر أصل الذكر؛ ولكن نُنكر ترتيبه على صفة معيَّنة بدون دليل. فإن قال قائل: ما تقولون في قول عمر - رضي الله عنه - حين أمر أُبيَّ بنَ كعب وتميمًا الداريَّ - رضي الله عنهما - أن يقوما بالناس في رمضان في تراويحهم، وأن يجتمع الناس على إمام واحد بعد أن كانوا أوزاعًا، فخرج ذاتَ ليلة والناس خلف إمامهم فقال: (نعمتِ البدعة هذه)، فأثنى عليها ووصفها بأنها بدعة، والرسول - عليه الصلاة والسلام - يقول: (كل بدعة ضلالة). قلنا: إن هذه البدعة ليست بدعةً مُبْتَدأة؛ لكنها بدعة نسبية؛ وذلك لأن النبيَّ ﷺ صلَّى بأصحابه ثلاث ليال أو أربع ليال في رمضان، يقوم بهم، ثم تخلَّف في الثالثة أو الرابعة، وقال: (إني خشيت أن تُفرَض عليكم) فصار الاجتماع على إمام واحد في قيام رمضان سنَّة سنَّها النبيُّ ﷺ؛ ولكن تركها خوفًا من أن تُفرَض علينا. ثم بَقِيت الحال على ما هي عليه، يصلِّي الرجلان والثلاثة والواحد على حِدَةٍ؛ في خلافة أبي بكر، وفي أول خلافة عمرَ - رضي الله عنهما - جمع الناس على إمام واحد، فصار هذا الجمعُ بدعةً بالنسبة لتركه في آخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي عهد أبي بكر، وفي أول خلافة عمر - رضي الله عنهما - فهذه بدعة نسبية، وإن شئت فقل: إنها بدعة إضافية، يعني بالنسبة لترك الناس لها هذه المدَّةَ آخِرَ حياة الرسول ، وخلافة أبي بكر، وأول خلافة عمر، ثم إنه بعد ذلك استؤنفت هذه الصلاة، وإلا فلا شكَّ أن قول الرسول : (كل بدعة ضلالة) عامٌّ، وهو صادر من أفصح الخلق، وأنصح الخلق - عليه الصلاة والسلام - وهو كلام واضح، كلُّ بدعة مهما استحسنها مبتدِعها، فإنها ضلالة"[9]

قال ابن رجب رحمه الله: "المراد بالبدعة: ما أُحْدِث في الدين مما لا أصلَ له في الشريعة يدُلُّ عليه، فأما ما كان له أصلٌ من الشرع يدُلُّ عليه، فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعةً لغةً، وما كان محدَثًا في أمور الدنيا فلا عَلاقة له بالبدعة هنا"[10]

قال القاضي عياض رحمه الله: "البدعة هذه كلُّ ما أُحدِث بعد النبي ﷺ فهو بدعة، والبدعة فعلُ ما لم يُسبق إليه، فما وافق أصلًا من السنَّة يُقاس عليها فهو محمود، وما خالف أصول السُّنن فهو ضلالة. ومنه قوله: «كل بدعة ضلالة»"[11]

قال ابن حجر رحمه الله: "ووجه التّحذير أنّ الّذي يُحدث البدعة قد يتهاون بها؛ لخفَّة أمرها في أوّل الأمر، ولا يَشعُر بما يترتَّب عليها من المفسدة، وهو أن يَلحَقه إثم من عمل بها مِن بعدِه، ولو لم يكن هو عَمِل بها؛ بل لكونه كان الأصلَ في إحداثها"[12]

 قال النوويُّ : "من دعا إلى هدى، ومن دعا إلى ضلالة: هذان الحديثان صريحان في الحثِّ على استحباب سنِّ الأمور الحسنة، وتحريم سنِّ الأمور السّيّئة، وأنّ من سنَّ سُنّةً حسنةً كان له مثل أجر كلّ من يعمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ سنَّةً سيّئةً كان عليه مثل وزر كلّ من يعمل بها إلى يوم القيامة، وأنّ من دعا إلى هدًى كان له مثل أجور متابعيه، أو إلى ضلالة كان عليه مثل آثام تابعيه، سواء كان ذلك الهدى والضّلالة هو الّذي ابتدأه، أم كان مسبوقًا إليه، وسواء كان ذلك تعليم علم أو عبادة أو أدب أو غير ذلك. قوله ﷺ: «فعمل بها بعده» معناه: إن سنَّها، سواء كان العمل في حياته، أو بعد موته، والله أعلم"[13]

المراجع

1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 71، 72).

2. "شرح النوويِّ على مسلم" (12/ 16).

3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 176، 177).

4. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/  252، 253).

5. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 284، 285).

6. "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (4/ 115).

7. رواه البخاريُّ (2697)، ومسلم (1718).

8. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 128).

9. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 285، 287).

10. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 127).

11. "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (1/ 81).

12. "فتح الباري" لابن حجر (13/ 302).

13. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 226، 227).


مشاريع الأحاديث الكلية